كتاب الجامع من المحرر في الحديث - 06
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،
فيقول المؤلف –رحمه الله تعالى-: "وَعنهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- قَالَ: قَالَ رَسُول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
"وَعنهُ" يعني عن صحابي الحديث السابق، وهو أنس بن مالك.
"قَالَ: قَالَ رَسُول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى أكون أحب إِلَيْهِ من وَلَده ووالده وَالنَّاس أَجْمَعِينَ»"، الرسول –عليه الصلاة والسلام- هو السبب الذي أنقذنا الله به من النار، وأدخلنا بسببه الجنة، وأحيانًا به الحياة الحقيقية هو السبب، والمُسبِّب والمعطي هو الله –جلَّ وعلا- في أمور الدنيا وأمور الآخرة، والنبي –عليه الصلاة والسلام- يقول في الحديث الصحيح: «إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ، والله المُعطي»، لكنه سبب في حياةٍ حقيقيةٍ أبديةٍ سرمدية لا تساوي عندها هذه الحياة الدنيا بجميع مُتعها جناح بعوضة، فهي لا تزن عند الله جناح بعوضة.
إذا عرفنا أنه هو السبب في الحديث السابق عرفنا أن السبب في وجود الإنسان وغيره من الحيوان في سبب وجوده هو الوالدان، ولذلكم جاء الأمر ببر الوالدين، وجاء تحريم عقوق الأمهات، لماذا؟
لأنها سبب في وجودك، إذا كانت سببًا في وجودك في هذه الحياة الدنيا، ولزمك، ووجب عليك برها وصلتها وحرم عليك قطيعتها، وهي سبب في وجودك وحياتك هذه الحياة الدنيا الدنيئة القليلة التي لا تعدل شيئًا بالنسبة للحياة الحقيقية في الدار الآخرة، فماذا عن السبب الذي أنقذك الله به من عذاب من النار، وأدخلك بسببه الجنة؟
«لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى أكون أحب إِلَيْهِ من وَلَده ووالده وَالنَّاس أَجْمَعِينَ»، ماذا عن النفس؟ هل يجب أن تكون محبته –عليه الصلاة والسلام- أشد وأعظم من من محبة المرء لنفسه؟ جاء ذلك في حديث عمر –رضي الله عنه- حينما قال للنبي –صلى الله عليه وسلم-: والله إنك لأحب الناس إليّ إلا من نفسي، قال: «بل ومن نفسك يا عمر»، قال: والله إنك لأحب إليّ من نفسي، قال: «الآن يا عمر»، في مدةٍ يسيرة يعني في أقل من دقيقة ينتقل هذا الحب لدى عمر بن الخطاب بدلًا من أن تكون نفسه أحب إليه من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يُقسم بالله أنه الآن أحب إليه من نفسه.
قد يقول قائل: هذه مشاعر التصرف فيه يصعب بسرعة وسهولة، لكن عمر ومن مثل عمر هواه تبعٌ لما جاء به النبي –صلى الله عليه وسلم- أخبره أنه لا بُد أن يكون أحب إليه من نفسه مباشرةً استجابت النفس لذلك، وانقادت المشاعر لذلك، فصار أحب إليه من نفسه.
هذا الأمر ليس بالسهل، والدعوى قد يدعي الإنسان شيئًا، لكن الكلام على مطابقة الدعوى للواقع، الكلام على هذه المطابقة.
«لَا يُؤمن أحدكُم» يُقرر الشراح أن المراد بالإيمان الإيمان الكامل الواجب، لكن نفي الإيمان هنا لا يقتضي نفي حقيقته، بمعنى أنه إذا لم يكن بهذه الصفة أنه يكفر، يرتفع عنه الإيمان بالكلية.
«لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى أكون أحب إِلَيْهِ من وَلَده ووالده» في بعض الروايات: «من والده وولده» بتقديم الوالد على الولد، يُقدَّم الولد؛ لِعظم الشفقة عليه، ويُقدَّم الوالد في بعض الروايات، وهي في الصحيح؛ لأنه الأصل؛ ولأن لكل شخصٍ والدًا، وليس لكل والدٍ ولد، فيُقدَّم الوالد؛ لأن الأبوة أعم؛ لوجوبها على كل حال بخلاف البنوة قد لا تُوجد، فيُقدَّم الولد على الوالد؛ لِعظم الشفقة عليه.
الإنسان قد يدعي أنه يُحب الله ورسوله أعظم مما سواهما، ويُحب والده ووالدته أكثر من غيرهما من البشر حاشا محمدًا –عليه الصلاة والسلام-، ما الدليل على هذه المحبة؟ ما الدليل الذي يُصدِّق هذه الدعوى؟
العمل، إذا تعارضت المرادات عنده تعارض عنده مراد الله ومراد نفسه أو ولده أو زوجته ما الذي يُقدَّم؟
من يُقدَّم هو المحبوب، وفي تعارض مراده مع مراد والده ووالدته يُنظَر هل حبه صادق أو كاذب؟
وإذا تعارض مصلحة الولد مع مصلحة الوالد يُنظَّر، والفعل يُصدِّق ذلك أو يُكذبه، يُصدِّق الدعوى أو يُكذبها.
«حَتَّى أكون أحب إِلَيْهِ من وَلَده ووالده وَالنَّاس أَجْمَعِينَ»، المحبة بلغت عند بعض الناس إلى حد الشرك –نسأل الله العافية- أشرك بمحبوبه مع الله –جلَّ وعلا-، وهذا كثير في أشعار من فُتِنوا بالعشق –نسأل الله السلامة والعافية-، ووُجِد في أقوالهم نظم ونثر مقدار ما بلغت به هذه المحبة التي فُضِّلت على محبة الله ومحبة رسوله، نسأل الله السلامة والعافية.
ومِلاك ذلك كله القلب، القلب إذا مُلئ بمحبوبات وشهوات وشبهات قد لا يستوعب كل هذه المحبوبات، قد تكثر وتتكاثر عليه حتى يضيق القلب عن المحبة الواجبة لله ورسوله، ويحصل معها شيءٌ من المشاركة من محبوباتٍ من ملذات الدنيا وشهواتها، فلا بُد أن يُفرَّغ القلب لحب الله ورسوله، ولا شك أن هناك ملذات وشهوات ومحبوبات، والنفوس جُبِلت على حب من أحسن إليها، وبُغض من أساء إليها كما هو معلوم، فالقلب إلى هذا الحد لا بأس أن يدخله شيءٌ من المحبة محبة ما ينفعه وكراهية ما يضره، لكن لا تطغى على قلبه بحيث تُنافس محبة الله، ومحبة رسوله؛ ليكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
«لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى أكون أحب إِلَيْهِ من وَلَده ووالده وَالنَّاس أَجْمَعِينَ»، وعرفنا أن النفس داخلة في الناس، ويتناولها بخصوصها حديث عمر الذي ذكرناه آنفًا.
وقلنا: إن المحك في هذا التقديم عند التزاحم، فإذا قدَّم ما أوجب الله عليه أو ما أمر الله به قدَّمه على شهوات نفسه ومراداته ومرادات والده وولده والناس أجمعين. قلنا: إنه يُحب الله أكثر، وكذلك إذا قدَّم مراد الرسول –عليه الصلاة والسلام- على مراد غيره فإنه بهذا يُبرهِن على أنه يُحب الرسول –عليه الصلاة والسلام- أكثر.
لكن إذا كان الله ورسوله ثبت عنهما النهي في الكتاب والسُّنَّة والتشديد في شأن الشرك {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، والرجل المُحب الذي يزعم المحبة يقول: يا رسول الله، يا رسول الله، اقضِ حاجتي، يُشرك مع الله، هذا يُحب الرسول -عليه الصلاة والسلام-؟ لا والله، الرسول –عليه الصلاة والسلام- ينهى عن الغلو، «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ، فَإِنَّما أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ»، ويغلو في الرسول –عليه الصلاة والسلام- ويُنزِله فوق منزلته، ويصرف له بعض أنواع الألوهية والعبودية لله –جلَّ وعلا-، ويزعم أنه يُحبه.
وكذلك غير الرسول –عليه الصلاة والسلام- من البشر، من الأولياء والصالحين، سمعنا من يقول: يا علي، وسمعنا من يقول: يا محمد، وسمعنا من يقول: يا حسين، وسُمِع من يقول: يا بدوي، يا جيلاني، يا فلان، يا فلان، هل هذا مُحب للرسول -عليه الصلاة والسلام-؟ إذا دنا من قبره بكى وتناثرت دموعه وهو يقول: يا رسول الله، هذا مُحب للرسول -عليه الصلاة والسلام-؟ لا والله.
في رحلة ابن بطوطة ذكر ابن بطوطة أنه مر على ولي من الأولياء، يعني ممن تُدَّعى له الولاية، وهذا كثير وجودهم على مر العصور في أمة الإسلام –مع الأسف الشديد-، ويُصرَف لهم بعض أنواع العبادة التي لا تجوز إلا لله –جلَّ وعلا-، وتُدَّعى لهم الولاية، ويرضون بذلك، وقرّر أهل العلم أن من الطواغيت من عُبِد من دون الله وهو راضٍ.
قال: مررت عليه فأعطاني جُبة، وقال: سوف يُصادفك في المكان الفلاني برد شديد، فاستعن بها، يقول: أخذت الجبة يوم وصلت المكان ابتلاء من الله –جلَّ وعلا- ابتلاء أو بواسطة الشياطين، قال: المكان الفلاني فيه برد شديد أو كذا، وقد يكون ابتلاءً من الله –جلَّ وعلا- يقول: لما وصلت المكان الفلاني أصابني برد شديد فلبستها، ثم مررت بوليٍّ آخر في بلدٍ آخر، فذكرت له القصة، فقال لي الآخر: أتعجب من هذا وهو شخصٌ يتصرف في الكون؟ نسأل الله العافية، ماذا أعظم من هذا الشرك، وأعظم من هذا الكفر بالله -جلَّ وعلا-؟ مخلوق ضعيف يتصرف في الكون ما يتصرف بنفسه، لكنها الفتنة الشرك نسأل الله العافية.
فالذي يصرف للنبي –عليه الصلاة والسلام- شيئًا مما لا يستحقه من حقوق الرب –جلَّ وعلا- هذا لا يُحب الرسول –عليه الصلاة والسلام- يُحبه ويعصيه في أعظم ذنبٍ عُصي الله به وهو الشرك؟
هذا مُحال، النبي –عليه الصلاة والسلام- ينهى عن الغلو ويغلو في النبي –عليه الصلاة والسلام- ويُنزِله فوق منزلته ويطريه، ثم يقول: إنه يُحبه؟ تُحبه اتَّبِعه، صلِّ كما كان يُصلي، وخُذ عنه دينك، واقتدِ به واجعله الأسوة والقدوة الأول والأخير، لا تُعارض قوله بقول أحد، ثم بعد ذلك تتحقق هذه المحبة التي نُفي الإيمان بدونها «حَتَّى أكون أحب إِلَيْهِ من وَلَده ووالده وَالنَّاس أَجْمَعِينَ»، والنفس داخلة في الناس، وجاء في حديث عمر ما يدل عليها بخصوصها.
ثم قال –رحمه الله تعالى-: "وَعنهُ" أي: عن أنس راوي الحديث السابق- رضي الله عنه-، "عَن النَّبِي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قَالَ: «وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ»" قَسَم من النبي –عليه الصلاة والسلام- وهو الذي نفسه بيده هو الله –جلَّ وعلا-وفيه إثبات اليد لله –جلَّ وعلا- على ما يليق بجلاله وعظمته، وكثير من الشراح يُؤولون، يقولون: الذي نفسي بيده: روحي في تصرفه، فرارًا من إثبات الصفة.
لا شك أن الأرواح في قبضة الله وفي تصرفه لا أحد يُنكر هذا، لكن لا بُد من إثبات ما أثبته الله لنفسه على ما يليق بجلاله وعظمته.
والنبي -عليه الصلاة والسلام- يُقسِم على الأمور المهمة ولو من غير استحلاف ما يحتاج أن يُقال له: اقسم أو احلف، يحلف، وحُفِظ عنه القسم في نحو ثمانين موضعًا من سُنته –عليه الصلاة والسلام-، ففي هذا جواز القسم على الأمور المهمة، ولو من غير استحلاف؛ لتأكيد ما يُراد من الخبر.
«وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَا يُؤمن عبدٌ حَتَّى يحب لجاره -أو قَالَ: لِأَخِيهِ- مَا يحب لنَفسِهِ».
«لَا يُؤمن عبدٌ» يعني مسلم من ذكر أو أنثى، فهو أعم من اللفظ، «حَتَّى يحب لجاره»، والتنصيص على الجار من باب الاهتمام به، والعناية بشأنه، وإلا فهو داخلٌ في قوله: «لِأَخِيهِ» يعني المسلم.
«حَتَّى يحب لجاره أو قَالَ» شك من الراوي «أو قَالَ: لِأَخِيهِ مَا يحب لنَفسِهِ» هنا الابتلاء، وهنا الامتحان، ومن يجتاز مثل هذا الابتلاء وهذا الامتحان؟ هل هذا سهل على النفوس؟ كثيرٌ من الناس يتمنى زوال النعمة عن غيره من باب الحسد المذموم الذي يأكل الحسنات، وسُمِع من يدعو بألا يُغنيه الله، لماذا يدعو على نفسه بألا يُغنيه الله؟ يقول: يمكن أن يأتي أحد ويقترض ولا يسأل ولا شيء، وأنا ما أقدر من نفسي أعطيه، أسأل الله العافية.
هذه المنزلة في هذا الحديث عند جماهير من المسلمين ضربٌ من الخيال، «لَا يُؤمن عبدٌ حَتَّى يحب لجاره -أو قَالَ: لِأَخِيهِ- مَا يحب لنَفسِهِ»، عموم الناس يتمنى أن يكون في منزلةٍ أرفع من منزلة أخيه، ومقتضى الحديث أن يكون مساويًا له «حَتَّى يحب لِأَخِيهِ مَا يحب لنَفسِهِ»، يعني نظير أو مثل؛ لأن محبته لأخيه عين ما حصل لنفسه، هذا مُحال ما يُمكن أن تتمنى لأخيك نفس ما حصل لك، لكن نظيره.
طيب الآن في أمور قد يراها بعض الناس لا يُمكن تحقيقها لا سيما، وقد جاء الأمر بالمسارعة والمسابقة، مقتضى المسابقة أن تحرص على أن تسبق غيرك، ومقتضى المسارعة كذلك المفاعلة، فهل الطالب في الفصل يتمنى أن يكون الجميع الأول مكررًا أو يتمنى أن يكون هو الأول ومن عداه يكونون بعده؟
فإذا قلنا: إن هذا العلم المطلوب مما يُوصِل إلى الجنة وسلوكه سلوك طريق إلى الجنة فالمطلوب مسارعة، ومقتضى المسارعة والمسابقة أن تسبق منافسة، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].
كيف يكون هذا ومطلوبٌ منك أن تُحب لأخيك ما تُحب لنفسك؟ لذا قال بعض الشراح: إن هذا فيه مجرد الحث على حب الخير للغير من غير نظرٍ إلى حقيقة اللفظ.
النفوس الذكية والقلوب السليمة لا يصعب عليها مثل هذا، لكن القلوب التي فيها دَغَل أو شيء من الدَّخَل قد يُوجد فيها مثل هذه الغيرة التي تتناول غيره بالتنقص أو بمحبة إخفاقه مثلًا، الطلاب يتمنون أن فلانًا يرسب بينه وبينهم منافسة هذا لا شك، وبعض الطلاب أسوء من ذلك، تجده يحصل على فوائد من المدرس فوائد علم هي المسألة علم في الحديث أو في التفسير أو في الفقه أو في العقيدة، ثم يبخل بها على زملائه؛ خشية أن يُنافسوه في الدرجات، وهذا أولى ما يُبذَل أولى من بذل المال.
هل هذا القلب سليم الذي يبخل بمثل هذه العلوم؟ لا والله فيه دَخَل، القلب السليم أن تُحب لأخيك ما تُحبه لنفسك، حصلت على هذه الفائدة ابذلها لأخيك، عرفت هذا الطريق الموصِل إلى عملٍ صالح أو كسب دنيوي نافع اذكره لأخيك، واحرص أن يُفيد أخوك مثل ما أفدت.
بعض الناس يتصور أنه لا يُمكن أن يصعد أو يرتقي إلا على أكتاف الآخرين -كما يُعبِّر أهل العصر- ما يُمكن أن يرتقي إلا على أكتاف الآخرين، فإذا سُئل عن فلان ذمَّه وسبَّه وتنقصه من أجل –على حد زعمه- أن يرتفع هو؛ لأنه لو مدح أخاه أو صديقه أو زميله أو نظيره ظن أن له منافسًا، وأنه ليس المتفرِّد في هذا الباب أو في هذا العلم أو في هذه المسألة لا بُد أن يتنقَّص.
وسُمِع في مجلس واحد ممن يُشار إليهم بالبنان من علماء الأمصار من المغرب حضر في مجلس فعُرِّف به، فقيل: هذا العلامة المُحدِّث فلان بن فلان، ولا يُضاهيه في علم الحديث إلا فلان، التفت وقال: يا شيخ فلان لا يعرف الحديث، وهو يعرف الحديث، من أجل ماذا؟ ألا يُوجد له منافس، مسكين، والله مسكين، وهذا وجوده وجود كثرة حتى بين الطلاب إذا مُدِح طالب وله زملاء وأحد زملائه حاضر لا بُد النفوس لها حظ –نسأل الله العافية- فيُقدَّم حظها على مراد الله «حَتَّى يحب لجاره -أو قَالَ: لِأَخِيهِ- مَا يحب لنَفسِهِ».
ويُوجد هذا في مجالس الكبار، الكبار يسألون عن العلماء وطلاب العلم، ويسألون عمَّن يصلح للوظائف والأعمال، فمنهم من ينصح ويُثني على الشخص بما فيه، ومنهم من يهضم أخاه حقه، ويُنزله منزلته على حد زعمه أنه يتفرَّد بما يُستَحق به الثناء، ولا شك أن هذا ما حقق حديث الباب «حَتَّى يحب لِأَخِيهِ مَا يحب لنَفسِهِ»، وإذا ذمَّه من باب التنقص باء بإثمه، وإذا كان ممن يستحق الولاية وحُرِم منها بسببه، فعليه إثمٌ عظيم فوَّت على الأمة هذا الرجل الكُفء بهذه الكلمة التي ما حسب لها حساب.
والله –جلَّ وعلا- كما قال: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14]، هذا الذي يُريد أن يرتقي على أكتاف الآخرين هذا لا شك أن الله سيفضحه، ويُبين عواره، ويُظهر مساويه، والذي يُنزِّل الناس منازلهم كما أمر النبي –عليه الصلاة والسلام- بقوله: «أُمِرنا أَنْ نُنْزِل النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ»، وفي لفظٍ: «أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ» لا يجوز أن تمدح شخصًا؛ ليُولى وتغُش به الأمة كما أنه لا يجوز أن تذمه من أجل أن تحرمه، وتحرم الأمة منه.
كم بقي؟
طالب: ............
ثم قال –رحمه الله-: "وَعَن عبد الله بن مَسْعُود -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- قَالَ: قَالَ رَسُول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «سباب الْمُسلم فسوق وقتاله كفر»"، والأحاديث كلها في الصحيحين التي تقدمت الثلاثة كلها في الصحيحين.
"وَعَن عبد الله بن مَسْعُود -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- قَالَ: قَالَ رَسُول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «سباب الْمُسلم فسوق وقتاله كفر»"، في البخاري سُئل أبو وائل شقيق بن سلمة عن المرجئة، فقال: حدثني عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «سباب الْمُسلم فسوق وقتاله كفر».
المرجئة يرون أنه لا يضر مع الإيمان معصية، اصنع ما شئت، والعمل مُرجَأ مؤخَّر لا يُحتاج إليه في تحقيق الإيمان، والذي لا يعمل شيئًا من الواجبات والحسنات والطاعات عندهم إيمانه كإيمان جبريل، سُئل عنهم أبو وائل شقيق بن سلمة، فقال: حدثني عبد الله، قال: قَالَ رَسُول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «سباب الْمُسلم فسوق»، مجرد السب للمسلم إذا سبَّه وشتمه، عابه وعيَّره فسوق.
أبو ذر –رضي الله عنه- لما قال لخصمه: يا ابن السوداء، قال النبي –عليه الصلاة والسلام-: «إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ» وثبت في الصحيح: «لَعْن الْمُسلم كَقَتْلِهِ»، فالأمر ليس بالسهل، يعني حصائد اللسان تُورد المهالك، لما سأل معاذ بن جبل النبي –عليه الصلاة والسلام- وإنَّا لمؤاخذون بما نتكلم به؟
قال النبي –عليه الصلاة والسلام-: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ -أَوْ قال: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ- فِي النَّارِ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ».
«سباب الْمُسلم فسوق»، الآن إذا شتم مسلمًا أو سبَّه أو عيَّره فَسَق، والفسوق في الأصل الخروج، ومنه سُميت الفواسق؛ لأنها خرجت عن السمت العام لأمثالها بالأذى، وفسقت الرُّطبة عن قشرها يعني خرجت.
فبالسباب يفسق والمرجئة يقولون: ما يضر، حصل الجواب ولا ما حصل؟ هم يقولون: ما يتأثر مؤمن كامل الإيمان، والنبي –عليه الصلاة والسلام- يقول: «سباب الْمُسلم فسوق» الإيمان يتأثر أم ما يتأثر بالمعاصي؟ يتأثر، إذا كان بمجرد السب يخرج من الإيمان المطلق إلى حيز الفسق خدش الإيمان.
«سباب الْمُسلم فسوق» وفي هذا ردٌّ على المرجئة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان عمل، كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة، قلنا: يضر العمل، تضر المعاصي تضر الإيمان وتنقص الإيمان، وقد يدخل النار بسببها إذا لم يغفر له الله –جلَّ وعلا-، وإن كان موحِّدًا، هذا مذهب أهل السُّنَّة والجماعة أن الإيمان مُركَّب من اعتقاد وقول وعمل وكلها أركان.
«سباب الْمُسلم فسوق وقتاله كفر» إذا أردنا أن نرد على المرجئة، وقد حصل الرد على المرجئة بهذا الحديث، ففي قوله: «وقتاله كفر» ما قد يُستدل به لمذهب الخوارج الذين يُكفِّرون بالذنوب.
قد يقول قائل: إن المراد بقتاله المذكور هنا المطلق عليه الكفر أنه بالنسبة للمستحِل، طيب ماذا عن مستحِل السِّباب، الذي يستحل لعن المسلم؟
«وَلَعْن الْمُؤْمِن كَقَتْلِهِ» منهم من يقول: إن هذا يُستدل به من باب المبالغة في دفع الشُّبهة، فإذا كان الذي أمامك من أهل البدع والشُّبه من فرقةٍ في أحد الطرفين، فتُورِد عليه من أحاديث الطرف الآخر؛ لتُخفف من بدعته، فإذا كان من هذا النوع من المرجئة يُورَد عليه من نصوص الوعيد التي كما يقول أهل العلم: تُمَر كما جاءت؛ لأنه أبلغ في الزجر، وإذا كان بالمقابل من الطرف الآخر من الخوارج والغُلاة يُورَد عليهم من نصوص الوعد {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]، فالنصوص علاج لأدواء القلوب، والأمراض، والشُّبَه، وكذلك شفاء الأبدان {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} [الإسراء:82].
هذه النصوص يُعالج بها المرضى، فإذا كان المرض من باب الزيادة عُولِج بنصوصٍ خاصة، وإذا كان المرض من باب النقص والفتور والتراخي عُولِج بما يقابلها من النصوص، مثل المريض الحرارة مرتفعة يُعطى ما يُخفِض الحرارة، الحرارة منخفضة يُعطى ما يرفع الحرارة، الضغط منخفض يُعطى ما يرفعه، مرتفع يُعطى ما يخفضه، وقُل مثل هذا في جميع الأمراض.
شخص حامل لسيفه يتمنى أدنى نص يعتمد عليه، ماذا تُورِد له من النصوص؟ تُوردِ له من نصوص الوعد؛ ليخف ما عنده، وشخص مرتخٍ مسترخٍ، نقول له: قُم صلِّ، يقول: بعد ما يكون إلا خير، ويصلون الناس ويطلع الوقت وما يكون إلا خير، بعد شوي- رحمة الله واسعة-، نقول له: أيضًا هو شديد العقاب {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49-50]؛ لأن هذه النصوص مثل ما ذكرنا علاج.
يأتيك شخص مثل عبد الله بن عمرو يأتي إلى النبي –عليه الصلاة والسلام- هو مقرر ومنهي أنه لا ينام الليل ولا يطأ النساء ولا كذا ولا كذا مع جمعٍ معه، فعالجهم النبي –عليه الصلاة والسلام- بالتخفيف، يُريد أن يقرأ القرآن في ليلة، فيقول النبي –عليه الصلاة والسلام-: «اقرأ الْقُرْآنَ فِي شَهْرٍ».
لو يأتيك طالب علم من أهل العلم ويقول لك: أنا أقرأ القرآن في شهر كل يوم جزءًا، تقول له: يكفي؟
ما تقول له: يكفي، لكن إذا قال لك: أريد أن أقرأ القرآن في يوم، تقول: أقرأ القرآن في شهر؛ لأنه يحصل فيه مساومة وأخذ ورد وعطاء.
"إني أُطيق أكثر من ذلك" فقال: «اقرأ في الشهر مرتين» يعني اختم مرتين كل خمسة عشر يوم اختم كل يوم جزأين، قال: إني أُطيق أكثر من ذلك، قال: «اقرأ في عشر» قال: إني أُطيق أكثر من ذلك، ثم قال له النبي –عليه الصلاة والسلام-: «اقْرَأ الْقُرْآنَ فِي سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ» لماذا؟ لأنه أتى متحمسًا؛ لأنه لو قال له: اقرأ القرآن في يوم يمكن يقرأه مرتين باليوم؛ لأن النفس تستجيب لا سيما مع كلام الله، وإذا اعتاده الإنسان وتمرن عليه لا تشبع منه القلوب، فقال له: «اقْرَأ الْقُرْآنَ فِي سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ»، فكان يقرأ في ثلاث، يقرأ القرآن في ثلاث، ثم ندم على ذلك بعد أن ضعف، وجاء في الحديث «لَا يَفْقَهُ مَنْ يقَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ».
فمثل من عنده هذه الهمة يُساوَم على الأقل، وبالمقابل إذا كان عنده شيءٌ من التراخي الآن كثير- مع الأسف- من المسلمين ما يقرأ القرآن إلا في رمضان، فإذا أردت أن تُرغِّبهم في قراءة القرآن، تقول: اقرؤوا القرآن في شهر؟ النبي –عليه الصلاة والسلام- قال لعبد الله بن عمرو: اقرأ القرآن في شهر؟ لا، تقول لهم: عثمان يختم كل ليلة، عثمان بن عفان يختم في كل ليلة.
فالنصوص –مثل ما ذكرنا- حسب المُعَالج بها.
قراءة القرآن في سبع كما أمر النبي –عليه الصلاة والسلام- عبد الله بن عمرو وقال له: «لَا تَزِدْ» يعني إذا كان النهي سببه الشفقة على المنهي، واختار غير ذلك يأثم ولا ما يأثم؟ كان عبد الله بن عمرو يقرأ في ثلاث، وندم على ذلك فيما بعد لما ضعُف، لكنه معدودٌ من عُبَّاد الصحابة– رضي الله عنه وأرضاه- وهو ممدوحٌ بذلك؛ لأن قراءة القرآن له في كل حرفٍ عشر حسنات، ومفهوم قوله –عليه الصلاة والسلام-: «لَا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ» أن القراءة في ثلاث لا بأس بها، وأنه يمكن أن يفقه وهو يقرأ في ثلاث، فلا مانع من قراءته في ثلاث، وثبت عن جمعٍ من السلف من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم على مر العصور أنهم قرأوا القرآن في يوم، لكن ابن رجب –رحمه الله- حمل ذلك على المواسم مواسم العبادات في رمضان مثلًا، وفي عشر ذي الحجة وغيرهما من الأوقات الفاضلة.
كم بقي؟
طالب: .............
«وقتاله كفر» قيل عن بعض الشراح: إنه عالج بالنص شُبهة المرجئة ورد عليهم بقوله: «سباب الْمُسلم فسوق»، وأُريد الزيادة في هذا العلاج -يعني زيادة جرعة على ما يقول الأطباء- هو حديث صحيح ثابت جُملتاه من قوله –عليه الصلاة والسلام- هو ما أوتي بها من أجل العلاج لا، لكنها ثابتة عنه –عليه الصلاة والسلام-، فالمُستدِل يُعالِج بها هذا التراخي الموجود عند المرجئة، وهي محمولةٌ عند أهل العلم عند بعضهم على من استحل القتال، وبعضهم يقول: هذا من نصوص الوعيد؛ للتشديد في أمر قتل المسلم، وقد جاء في ذلك النصوص في الكتاب والسُّنَّة آية النساء قريبة من هذا {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا} [النساء:93].
سُئل ابن عباس هل للقاتل من توبة؟ فكان له رأي في المسألة المقصود أن القتل شأنه عظيم، وكونه يُقال فيه من قِبله –عليه الصلاة والسلام-: «قتاله كفر»، إما أن يُقال: أنه كفرٌ دون كفر؛ لأن هناك الكفر الأكبر والكفر الأصغر، والشرك الأكبر والشرك الأصغر، والنفاق الأكبر والنفاق الأصغر، الذي هو العملي.
فإما أن يُقال: كفرٌ أصغر أو للمستحِل، أو يُقال: هذا من نصوص الوعيد التي تُمَر كما جاءت ولا يُتعَرض لتأويلها؛ لأنها أبلغ في الزجر.
لكن لو كان المسئول عنه من الخوارج ما صلح الاستدلال بهذا الحديث؛ لأن مثل هذا النص يقويه ويزيده في بدعته.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أولًا: هذا الأمر ليس بجديد، ولكل قومٍ وارث، فالمعتزلة وغيرهم من طوائف المتكلمين ردوا النصوص؛ لأنها تُعارض ما قرروه، وما أصَّلوه، وما بنوا عليه بدعهم، قرَّروا رد أحاديث الآحاد، فمثل هؤلاء المساكين الكتبة تلقفوا مثل هذه المسائل من أولئك المبتدعة، وقد لا يُوافقونهم في أصل المذهب، لكن لأمر في نفسه، وإلا المرد في ذلك إلى ما جاء عن الله وعن رسوله –عليه الصلاة والسلام-، والحديث ثابتٌ في الصحيحين، ولا كلام لأحد، ولو أنكره أحد علماء الحديث لرُد عليه، فكيف بمن ليس في العير ولا في النفير؟!
والمراد بالفطر السليمة التي لا تُخالف النصوص كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في (درء تعارض العقل والنقل) موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول، المراد بذلك الفطر السليمة الباقية التي لم تجتلها شياطين الجن والإنس.
أما فِطر ذُهِب بها يمينًا وشمالًا وتأثرت بأفكار وافدة ليست من علوم المسلمين فهؤلاء لا عبرة بهم، قبلهم المتكلمون تأثروا بما تُرجِم من كُتب اليونان، كُتب الفلاسفة تأثروا فانحرفت فِطرهم؛ فرأوا أن هذه الأحاديث تُخالف العقل.