كتاب الجامع من المحرر في الحديث - 11
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه»).
«ما من مولود»، ما نافية، ومن زائدة لتأكيد النفي، ومولود نكرة في سياق النفي فتعم جميع من يولد، جميع من يولد من بني آدم، «ما من مولود إلا يولد على الفطرة»، على الملة، على الدين على الإسلام {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، ولذا ذكر اجتيال الشياطين وتسبب الوالدين في التنكب عن هذه الفطرة التي هي الإسلام بسبب الوالدين، «فأبواه يهودانه» يحولانه من الفطرة إلى اليهودية، «وينصرانه ويمجسانه» يحولانه من هذه الفطرة إلى النصرانية والمجوسية، ولم يقل: ويسلمانه ويجعلانه مسلمًا لأنه على الأصل مسلم، الفطرة هي الإسلام، {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19].
«فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء»، يعني مكتملة الأعضاء من غير نقص، وهذا هو الأصل وإلا ففي القليل النادر قد يولد خديجًا فيه نقص، لكن الأصل والغالب أنها تولد بهيمة جمعاء مكتملة الأعضاء.
«هل تحسون فيها من جدعاء» مقطوعة القرن مكسورة قرن، ليس فيها قرن إذا ولدت ثم ينبت، مقطوعة الأذن يعني من تصرف مخلوق ما يوجد، تولد كاملة.
«كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟»، ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم، {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]، الأصل أن ابن آدم يولد على الدين على الفطرة، وللميثاق الذي أخذ عليه أثر في هذه الفطرة، والفطرة يقول أهل العلم: إنها في ابن آدم كالنار تحت الرماد إذا أُزيل عنها هذا الرماد اشتعلت، فإذا أزيلت عنها هذه المؤثرات بسبب الأبوين من الإنس أو بسبب الشياطين، كما في حديث عياض بن حمار حديث قدسي يقول: «خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم»، فاجتالتهم يعني حرفتهم، ونحن نرى الشياطين شياطين الإنس والجن تتخطف أولاد الفطرة لا سيما في زماننا هذا حينما كثرت وسائلهم التي يستعملونها لانحراف الناس والتأثير عليهم، فصار الأمر سهلاً في أن يصبح الولد مستقيمًا ويمسي فاسقًا، وفي آخر الزمان كما جاء: «يصبح الرجل مسلمًا، ويمسي كافرًا».
يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم، هذا مدرج من كلامه، وليس من أصل الحديث: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]، لا يمكن أن يولد مولود يهودي ولا نصراني ولا مجوسي ولا بوذي ولا أي ملة أو ديانة من الديانات، إلا أن يولد على الفطرة وعلى الملة وعلى الدين على الإسلام، لكن المؤثرات كثيرة، والأسباب كثيرة في الانحراف.
«يولد على الفطرة»، طيب ولد ثم مات بين أبوين يهوديين، مات قبل أن يتمكن من تهويده، أو بين أبوين نصرانيين فمات قبل أن يتمكنا من تنصيره، أو بين أبوين مجوسيين فمات الولد في اليوم الأول أو الثاني قبل أن يتمكن أبواه من تمجيسه، فما الحكم؟ ماذا يحكم به عليه؟ نعم في أحكام الدنيا حكمه حكم أبويه، وإن كان مقتضى الحديث أنه على الفطرة على الملة لم يتمكن أبواه من حرفه عن هذه الفطرة، وعن هذه الملة.
ولذا أردفه بحديث أبي هريرة: (وعنه -رضي الله عنه- قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أطفال المشركين من يموت منهم صغيرًا).
يعني قبل التكليف، سئل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن أطفال المشركين، إن عاملناهم على مقتضى الحديث أنهم يولدون على الفطرة والأبوان لم يتمكنا من حرفه عن هذه الفطرة، والفطرة الإسلام، فهم مسلمون، ومقتضى ذلك أنه في الجنة، وإذا عاملناهم معاملة الأبوين ومعاملة الدار فهم غير مسلمين، ولذلك في أحكام الدنيا يعاملون معاملة آبائهم، هذا إذا كان الأبوان متفقين على اليهودية والنصرانية، وإلا فالولد يتبع خير أبويه دينًا، يعني في معاملة الدنيا يتبع خير أبويه في الدين، ويتبع أمه في الحرية والرق، ويتبع أباه في النسب.
على كل حال المسألة كما سئل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن أطفال المشركين من يموت منهم صغيرًا، فأجاب -عليه الصلاة والسلام- فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين».
سئل عن أطفال المسلمين، وعن أطفال المشركين، سئل عن أطفال المسلمين، فأجاب بأنهم في الجنة، وأجاب قبل ذلك قبل أن يُخبر: «الله أعلم بما كانوا عاملين»، والبخاري -رحمه الله- استدل على أن أطفال المسلمين في الجنة وفي ذلك نص: سئل عنهم وقال: «في الجنة»، لكن البخاري -رحمه الله- لما لم يكن الحديث على شرطه استدل بأنه «ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد إلا كانوا حجابًا له عن النار»، يعني يشفعون في أبويهم، يشفعون ويشفعون في أبويهم، وهل يمكن أن يشفعوا ويدخلوا بسببهم الجنة، وهم ليسوا بالجنة؟ ما يمكن، وجاء بحديث أن النبي- عليه الصلاة والسلام- قال عن إبراهيم ابنه إن له مرضعًا في الجنة، مات إبراهيم وهو صغير ثمانية عشر شهرًا.
المقصود أن أطفال المسلمين في الجنة، أطفال المشركين ذكر العلماء فيهم أقوالاً كثيرة جدًّا، ذكر العلماء فيهم أقوالاً أوصلها ابن حجر إلى عشرة، وابن القيم إلى اثني عشر قولاً، القول الأول: «الله أعلم بما كانوا عاملين» أمرهم إلى الله -جل وعلا-، ولا نحكم لهم لا بجنة ولا نار، الثاني: أنهم في الجنة؛ لأنهم لم يوجد منهم أعمال تقتضي دخولهم النار، وكونهم يعذبون في النار من غير أعمال لا شك أن هذا ينافي الحكمة والعدل الإلهي، ومنهم من قال: إنهم في النار، ونسبه القاضي عياض إلى الإمام أحمد وخطأه شيخ الإسلام ابن تيمية وقال: لم يقل به أحمد، ومنهم من قال: يُمتحنون في الآخرة، فيخرج لهم لهب نار، ويؤمرون باقتحامها، فمن دخلها دخل الجنة، ومن أبى دخل النار، ومنهم من يقول في منزلة بين الجنة والنار ليست لهم أعمال صالحة تؤهلهم لدخول الجنة، ولم يعملوا بضد ذلك فيدخلوا النار.
على كل حال، الخلاف في هذه المسألة معروف من أهل العلم والأقوال موجودة، لكن جوابه -عليه الصلاة والسلام-: «الله أعلم بما كانوا عاملين»، وابن حجر بسط المسألة في فتح الباري، وكذلك ابن القيم في طريق الهجرتين في طبقات المكلفين ومآلهم في الآخرة كلام جميل جدًّا فيهم وفي غيرهم من أصحاب الفترة مثلاً الذين ما بلغهم دعوة ما مآلهم في الآخرة؟
والمجانين الذي وُلد ومات وهو مجنون ما يعقل حكمه حكم هؤلاء الأطفال، اختلف العلماء فيهم على أقوال كثيرة مظنتها وهي موجودة، بل موجودة في آخر كتاب طريق الهجرتين للإمام المحقق العلامة ابن القيم، وهذا الكتاب من أنفس كتبه -رحمه الله-، وكل كتبه نفيسة، كل كتبه مفيدة.
ثم قال -رحمه الله تعالى-: (وعنه) يعني عن أبي هريرة صحابي الحديث السابق (قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم في الدعاء، فإن الله صانع ما شاء لا مكره له»)، قال: إن شئت كأنه يُخير يتردد في مسألته، ويخير الله -جل وعلا- إن شئت فاغفر لي، فهذا لا يناسب، الله -جل وعلا- لا مكره له، ولكن ليعزم المسألة، يعني يقول: اللهم اغفر لي وارحمني من دون تقييد بالمشيئة؛ لأن التقييد بالمشيئة يوحي بالتردد، والله -جل وعلا- لا مكره له، الله صانع ما شاء.
جاء في الحديث الصحيح أنه قال للمريض: «طهور إن شاء الله»، وهذا دعاء للمريض بالتطهير، يقول الصائم وهو في الحديث: «ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر، إن شاء الله»، وهذا دعاء بثبوت الأجر ليس بخبر، يعني ما يمكن أن يخبر الإنسان عن نفسه أنه ثبت أجره، وما يدريه؟
لكنه دعاء بأن يثبت الله أجره، وفيه: إن شاء الله؟ «طهور إن شاء الله» يدعى للمريض بأن يطهره الله من ذنوبه ويقول: إن شاء الله. فيه تعارض أم ما فيه؟
طالب: .......
ماذا؟
طالب: .......
لماذا؟
طالب: .......
هذا دعاء، وهذا دعاء، «وليعزم المسألة»؟
طالب: .......
التبرك وليس ....... وإذا قال: اللهم اغفر لي إن شئت يقولها للتبرك، يجوز؟
لا، «ليعزم المسألة فإنه لا مكره له».
طالب: .......
منسوخ؟
طالب: .......
لا لا، ما هو منسوخ، لا ليس بمنسوخ.
طالب: .......
لا هو يقول: اللهم اغفر لي إن شئت تحقيقًا لا تعليقًا.
طالب: .......
نعم، إذا جاء الدعاء بصيغة الأمر: اغفر لي، فلا بد أن يكون مجزومًا به، وهو دعاء، فلا يتردد فيه، وإن جاء الدعاء بصيغة الخبر وهو دعاء: غفر الله لك إن شاء الله، غفر الله لي إن شاء الله، لكن اغفر لي، لا، فإذا جاء بصيغة الأمر فليجزم به، وليعزم فيه كما تقتضيه صيغة الأمر، وإن جاء بصيغة الخبر: طهور، ثبت الأجر إن شاء الله، فلا مانع من أن يقرن بالمشيئة، وقد دل الدليل على جواز ذلك، وهذا هو الفرق بين الأمرين.
طالب: .......
ما فيه شيء طالما بصيغة الخبر.
ثم قال -رحمه الله تعالى-: (وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به»)، في الحديث السابق: «لا يقولن»، وهذه لا ناهية، و«لا يتمنين» ناهية، و«يقولن» مضارع مجزوم بلاء الناهية، و«لا يتمنين» كذلك مجزوم بلا الناهية، وهو مبني على الفتح في الموضعين؛ لأنه مقترن بنون التوكيد الثقيلة، وأعربوا مضارعًا إن عريا عن نون توكيد مباشر؛ لأنها مباشرة ما فيه فاصل بينهما، مباشرة للفعل فهو مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة.
«لا يتمنين أحدكم» يعني واحد منكم أيها المخاطبون، يعني المقصود بذلك الصحابة، وكذلك أحدهم، وفي حكمهم من يأتي بعدهم من الأمة؛ لأن حكمه على الواحد حكم على الجميع، يعني كل واحد من هذه الأمة يتوجه إليه الخطاب، وهو مكلّف بأوامره -عليه الصلاة والسلام- ونواهيه، ما يقول والله الرسول نهى الصحابة ما نهانا، لا أنت حكمك كحكم الصحابة.
«لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به»، اشتد عليه المرض أم أثقلت كاهله الديون ،فقلق وسهر الليالي وذل بالنهار، إذا خرج من بيته يلاحق ويتابع، وبالليل لا ينام من أجل هذه الملاحقات والديون أو الأمراض، أو أمور كثيرة كما استعاذ النبي -عليه الصلاة والسلام- من غلبة الدين وقهر الرجال، إذا توالت عليه هذه الهموم وتلك الغموم فعليه أن يدعو بالأدعية النبوية الثابتة في هذا الباب، لكن يتمنى الموت، جاء النهي عن ذلك، جاء النهي عن ذلك فضلاً عن كونه يباشر الموت، كونه يباشر الموت فيقتل نفسه، نسأل الله العافية، كونه يباشر الموت هذا نسأل الله العافية، يبادر بنفسه فيدخل النار كما جاء في الحديث، إذا كان مجرد التمني لا يجوز، محرمًا، وهذا المنع من التمني إذا كان لضر نزل به، يعني في أمر من أمور الدنيا، وإلا ثبت أنه في آخر الزمان يمر على قبر أخيه فيقول: يا ليتني مكانه بسبب الفتن التي تعصف بالأمة، ويخشى على نفسه من أن يتأثر بها فينحرف عن دينه، فزوال الدنيا أسهل من زوال الدين أو تعريض الدين لهذه الفتنة؛ ولذا قال: «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به».
لا يُعرف في النصوص الشرعية ما يدل على مباشرة قتل الإنسان لنفسه، مباشرة الإنسان قتل نفسه، أبدًا، لا يقتل نفسه مهما نزل به من الضر، والصحابي الذي مدحوه؛ لأنه أبلى بلاء حسنًا في المعركة وقالوا للنبي -عليه الصلاة والسلام- ما قالوا، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «هو في النار»، استغربوا، رجل شجاع، وأوقع في الأعداء ما أوقع من القتل، ثم تكون نهايته في النار؟
نسأل الله العافية، قال واحد من الصحابة: أنا آتي بخبره، فجرح فجزع من هذا الجرح، فوضع سيفه على الأرض وذبابته بين ثدييه فاتكأ عليه ونفذ، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- الذي لا ينطق عن الهوى المؤيد بالوحي أخبر عن مآله، والنبي -عليه الصلاة والسلام- لا يعلم الغيب، لكن {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4]، ولما قال ما قال تتبعه هذا الصحابي في دخوله النار وأنه قتل نفسه، انتحر.
فلا يوجد نص يدل على أن الإنسان يباشر قتل نفسه، قد يوجد تسبُّب، قد يتسبّب الإنسان، لكن أن يباشر لا يوجد، ولذا أفتى أهل العلم بتحريم العمليات الانتحارية؛ لأنه لا يوجد ما يدل عليها من نصوص الكتاب والسنة، كونه يتسبب في كون أحد يقتله هذا شيء آخر، لكن يباشر بنفسه ويقتل نفسه لا، وأما من يستدل بقصة الغلام الذي صار سببًا في قصة الأخدود فالغلام لم يقتل نفسه، وإنما دلهم على كيفية قتله، ما باشر، تسبَّب.
الانتحار كونه نادر جدًّا لا يكاد يُذكر، لما كانت عيشة الناس من كدهم وكدحهم ويحصلون ما يقتاتون به، وقد يعجزون عن ذلك فيتسولون ويُتصدق عليهم والحياة ماضية، والناس في هناء وإن كانوا على قلة يد وشظف عيش، لكن المسلمين ينظرون إلى هذه الدنيا أنها ممر، ما تستحق أن يغضب الإنسان، أو يتحسر من أجلها، ومن نظر في عيشه -عليه الصلاة والسلام- اقتنع بما آتاه الله، ولو احتاج، ولو تُصدق عليه، ولو جاع، ولو عطش؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- يطلع الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين ما أوقد في بيته نار، وينام على وساد من أدم، جلد ،حشوها ليف، وينام على حصير يؤثر في جنبه، لو روضنا أنفسنا على هذه الأمور لرأينا ما نعيش فيه من نِعم وبحبوحة من عيش ورغد، وتجد من يعيش هذه العيشة وينتحر، متوفر لديه الأكل والشرب، لكن ينتحر لماذا؟
أولاً ضعف الدين، الأمر الثاني النظر إلى من فوقه في أمر الدنيا، وقد جاء النهي عن أن ينظر الإنسان إلى من فوقه، بل ينظر الإنسان إلى من دونه، كما في الصحيح، «فإنه أحرى ألا يزدري نعمة الله عليه»، الآن المسلمون يشاهدون ما عند الكفار من توسّع وتقدم في الصناعات ووسائل الترفيه والحضارة، ثم تجد الواحد منهم يتحسّر، يتمنى أن لو كان معهم، وقد يصل به الحد إلى أن ينتحر، وإلا فما أسباب الانتحار؟ ما أسباب انتشار هذه الآفات من المخدرات والمسكرات إلا من أجل أن يغيب عن هذه الدنيا؟
لأنه يرى نفسه بالنسبة لغيره أقل، فيريد أن ينسى هذه الدنيا، فيتناول ويتعاطى هذه المخدرات، ثم بعد ذلك يكون مآله- نسأل الله العافية- في الدنيا ما ترون من فقد للعقول، واعتداء على الأهل قبل غيرهم، وتحويل حياة الناس إلى جحيم، البيوت الآن، بيوت من يتعاطون هذه الآفة مهددة من قِبل أبنائهم، نسأل الله العافية، لماذا يأكل من هذه المخدرات ويتعاطى؟ ليكسب المال في أول الأمر، ويعدونه شياطين الإنس بشيء من ذلك، وليغيب عن هذه الحياة التي لم يحصل فيها ما أراد إما لكونه ما نجح في دراسته، أو ما نجح في تجارته ثم ماذا؟ الحمد لله، يعني وصل الأمر إلى أنه ما وجد وظيفة فينتحر، أعوذ بالله، يخسر الدنيا والآخرة، أو أخفق في دراسته ينتحر، هذا وُجد، نسأل الله العافية.
والترف هو الذي أوصل الناس إلى هذا الحد، لما كان الناس في شدة، وفي كد وكدح من أجل تحصيل المعيشة، وانشغال بهذه المعيشة ما حصل لهم شيء من ذلك، وبدلاً من أن يكون دخل الإنسان قبل ثلاثين، أربعين سنة دخله ريالات يسيرة، يقيم بها صلبه، ويعيش مرتاحًا ومبسوطًا صارت الدخول بالألوف، بعشرات الألوف، ثم بعد ذلك لو نقصت في يوم من الأيام تكدَّرت حياته، كل هذا لأن الإنسان في هذا الزمان والعقول فيها خير- ولله الحمد- الخير في أمة محمد إلى قيام الساعة، لكن وُجد مع الأسف، الناس الآن ما يخفى عليهم شيء، يأتيهم كل ما يحصل في هذه الآلات، الرسائل، كلما حصل شيء وصل.
فلو أن الإنسان نظر إلى الدنيا بميزان الشرع لعاش مبسوطًا مرتاحًا، وجعل همه الدين وأكثر من قول: اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همي ولا مبلغ علمي، فإذا كانت الدنيا همه جعل الله فقره في قلبه، ونسأل الله العافية، لو حصل وكسب ما كسب ما يكفيه، جعل فقره بين عينيه، دائمًا يلاحظ هذا الفقر وهو يصلي وهو نائم وهو قائم، والأمر أهون من ذلك، بحسب المسلم لقيمات يقمن صلبه. الرسول خرج من بيته -عليه الصلاة والسلام- وما أخرجه إلا الجوع، أكرم الخلق على الله، ولو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرًا شربة ماء، وجاء في الحديث الصحيح: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر»، إذا أراد أن يساوي نفسه بالكفار ويريد أن تكون هذه جنته فهذه مشكلة.
المقصود أنه إذا نُهي عن تمني الموت، فتولي قتل الإنسان نفسه لا شك أنه أعظم، وجاء الوعيد الشديد على من قتل نفسه: «ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته بيده يوم القيامة، ومن قتل نفسه بسم فالسم يتحسّاه في النار» نسأل الله العافية، إلى آخر ما جاء من النصوص الكثيرة في هذا الباب.
المقصود أن الإنسان عليه في أمر الدنيا أن ينظر إلى من دونه، «فإنه أحرى أن لا يزدري نعمة الله عليه»، وإذا أراد أن ينظر في دينه فلينظر إلى من فوقه؛ لتعلو همته إلى أن يفعل فعله، فيزداد في عمله.
«فإن كان لا بد متمنيًا»، هنا يقول: «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد متمنيًا»، عليه ضغوط، عليه ضغوط نفسية، فيه أمراض، يترك الأمر إلى الله -جل وعلا- ويفوض أمره إلى الله، «فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي».
وما يدريك أنك في هذه الحالة وهذا العيش الشديد عليك وعلى أسرتك أنك ترتفع بذلك درجات عن الله يوم القيامة؟ {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]، فعلى الإنسان أن ينظر إلى هذه الدنيا بعين البصيرة، وينظر إلى الهدف الذي خلق من أجله فيسعى في تحقيقه، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، هو مخلوق لتحقيق العبودية، وهو أُمر بالمسابقة والمسارعة فيحقق ما أُمر به ولا يلتفت إلى دنياه؛ لأن الدنيا مضمونة، وفي الدرس السابق في حديث ابن مسعود ذكرنا أن رزقه مضمون ومكفول ومكتوب له في بطن أمه، لكن لا يعني هذا أنه ينام في بيته ولا يباشر الأسباب، بل عليه أن يباشر الأسباب، ولذا جاء الأمر: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]، لا تقول: أنا أنام ويأتيني رزقي وأنا نائم؛ لأنه مكتوب ومضمون. صحيح مكتوب مضمون، لكنه مقرون بأسباب، من يقول مثل هذا الكلام هل يجلس في بيتي ولا يتزوج ويقول: إن كان مكتوبًا لي أولاد سيأتون تزوجت أو ما تزوجت؟ ما يقول هذا، ولا يترك من يظلمه أو يضربه بيده أو بعصا أو بشيء من ذلك أو يعتدي عليه فيقول: والله هذا مكتوب علي، لماذا أنتقم ممن ظلمني وهذا مكتوب علي.
المقصود أن مثل هذه الأمور على المسلم أن يجعلها همًّا له، وينظر لماذا خُلق، وينظر حقيقة هذه الدنيا، ويقرأ في سيرته -عليه الصلاة والسلام-؛ ليخط لنفسه الصراط المستقيم المبني المقتبس من نصوص الكتاب والسنة.
«اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي» يعني قد يتمنى الموت، لكن وما يدريه أن حاله تتبدل بلحظة، وما يدريه أن الله ييسر له من أسباب السعادة.
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد.
السعادة بتقوى الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، أما من يرى السعادة جمع المال والوظيفة والراتب والقصر والسيارة الفاخرة فهذا في عقله شيء، هي من أسباب السعادة في هذه الدنيا، لكن ليست السعادة هذه سعادة الدنيا فقط، العبرة بالسعادة التي لا تنقطع، السعادة في الآخرة؛ لأن مدة هذه الدنيا ليست شيئًا بالنسبة للآخرة، فيسعى إلى السعادة الأبدية التي لا تنتهي، وفي حديث ابن عمر: «إذا أصبحت لا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل». الذي يتصوّر الدنيا بهذه المثابة لن يتعب عليها، ولكن مثلما قلنا أنه لا بد من بذل الأسباب؛ لأن هذه الدنيا لا تقوم إلا بما يحفظ هذه الحياة، وهو الأكل والشرب واللباس والمسكن، كل هذه حوائج أصلية لا بد من تحقيقها.
لا يعني أنه يموت جوعًا ويقول هو يتوكل على الله، نعم يتوكل على الله ويسعى، وذكروا يعني الشاطبي في الموافقات ذكر مما نقله عن رسالة القشيري قال: كان ثلاثة يمشون في الفلاة فسقطوا في بئر بالليل، فجاء أناس بعدهم وقالوا: هذه البئر في طريق الناس، ويخشى أن يسقط فيها أحد، يأتي أحد بالليل ولا يراها ويسقط فيها، الذين في أسفلها يسمعون الكلام فقالوا: لو طمرناها يعني غطيناها، سقفناها، والذين في جوفه يسمعون، قالوا: نتوكل على الله، ما نتوكل على الخلق، ليصنعوا ما شاءوا، فبالفعل سقفوها، آثمون أو غير آثمين؟ يأثمون بهذا، يأثمون، لكن جاء أناس بعدهم بعد أولئك وقالوا: كان في مكان هذا في هذا المكان بئر لو حفرناها يستقي منها الناس ويستفيدون منها، فحفروها، فخرج الثلاثة، القشيري في رسالته يقرر ما عند الصوفية من هذا النوع من التوكل، ويستدل به على هذا النوع من التوكل ويقول: خلاص، توكلوا على الله، لكن هل كل من وقع له مثل هذا تحصل له هذه النتيجة؟
لا، نادرة من النوادر إن صحت.
على كل حال التوكل بابه معروف: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، ومعلوم أن التوكل لا ينافي الأسباب، والرسول -عليه الصلاة والسلام- لبس المغفر، ولبس لأمته، واستعد في الحروب، ولبس في الشتاء ما يناسب، ولبس في الصيف ما يناسب، فكل هذا من فعل الأسباب وهو إمام المتوكلين -عليه الصلاة والسلام-، يأتي من يقول: أنا لا ألبس، طيب، نم في وسط الطريق في الطرق السريعة بين هذه السيارات وقل: إن كان مكتوب لي حياة فما أنا بميت، ما يمكن أن يصنع مثل هذا، ومثل ما ذكر ابن القيم -رحمه الله- في أوائل الجواب الكافي يقول: هل يمكن الذي يقول مثل هذا الكلام- لأنهم قالوا الدعاء ما ينفع؛ لأنه إذا كُتب لي ما دعوت به فهو حاصل حاصل، دعوت أو لم أدع- قال: الذي يقول هذا الكلام هل يقول: أتبتل ولا أتزوج، وأنتظر الأولاد؛ لأنه إن كان كتب لي أولاد فما يحتاج أن يتزوج؟ ما يمكن أن يقول مثل هذا الكلام، فيحكم عليه بالجنون بجميع المقاييس، كل من سمع منه هذا الكلام قال: مجنون.
على كل حال التوكل بابه معروف، وفعل الأسباب جاءت به النصوص، وفعلها النبي -عليه الصلاة والسلام-، وسئل أحمد عن حجاج يأتون من اليمن بدون زاد، وعلى حد زعمهم أنهم يتوكلون؟ قال: هؤلاء يتوكلون على أزواد الناس، يعني ما يقبلون صدقة، ولا أحد يعطيهم؟ يقبلون الصدقات، ويأخذون، والمتصوفة الذين يزعمون أنهم يتوكلون ولا يسعون في الأسباب عيشتهم على هذا، ولذلك يقررون في حديث: «اليد العليا خير من اليد السفلى» يقولون: اليد العليا هي الآخذة، والسفلى هي المعطية، اليد العليا هي الآخذة، طيب لماذا؟ قالوا: اليد العليا نائبة عن الله {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ} [التغابن: 17]، الآخذة السفلى، وعندهم الآخذة هي العليا؛ لأنها نائبة عن الله، القرض أنت أقرضته لله، وأنا نائب عنه، وهذا من تلبيس الشيطان عليهم وتوهيمه لهم، والله المستعان.
كم باقٍ؟ ثلاث؟
«فإن كان لا بد متمنيًا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي»، أنت ما تدري عن العواقب، ولا تدري لعلك تعيش فتكسب أعمالاً صالحة، لا تدري، لعلك تعيش فتكسب أعمالاً صالحة، وتكسب ذرية صالحة تدعو لك، وقد تعيش وتكون بالعكس، تتعرض للفتن، وتجمع الحطب الذي يوقد به عليك من المنكرات والمعاصي والفواحش والجرائم، هذا أمر بيد الله، لكن عليك أن تسعى فيما يرضي الله -جل وعلا-، فأنت لا تدري عن حقيقة الأمر، فقل مثل هذا: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، فوِّض أمرك إلى الله، اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي.
فيه أسئلة؟
طالب: .......
يدعو اللهم أحيني؟
الإنسان يعرف ظروفه، ويعرف ما يحيط به لا سيما في زماننا، يخشى على الإنسان المسلم، يخشى على نفسه من أن تعصف ببلده فتنة تحرفه عن الصراط المستقيم، أو يبتلى لا سيما من بيده حل أو عقد أن يعمل أو يفتي أو يقول ما لا يرضي الله -جل وعلا-، فمثل هذا لو قال مثل هذا الكلام طيب.
يقول: ما المراد بالفطرة {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، وجاء في الميثاق: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]؟ يقول: هل هي إثبات وحدانية الله تعالى ونفي الشريك عنه ففيها أنه يولد على الإقرار بتوحيد الربوبية؟ ثانيًا بقاء المولود على الفطرة إن لم يغيرها والده أليس من المستحيل؟
كيف؟
إن لم تجتله شياطين الإنس لا محالة تجتاله شياطين الجن؟
يعني ما يبقى أحد على الفطرة؟ هذا مفهوم كلامه؟ أنه لا بد من أن يجتال؟
لا، الأصل الفطرة وهناك مؤثرات تعارض هذه الفطرة من الأبوين ومن شياطين الجن والإنس، فهما يُستعملان، قد يكون الشيطان يستعمل الأبوين في حرف هذا الولد عن الصراط المستقيم وعن الفطرة القويمة.
طالب: .......
كون الإنسان يتمنى الموت من أجل الحفاظ على دينه، هي تمنت؛ لأنها قُذفت بما يخدش الدين، الأمر في هذا...