التعليق على تفسير القرطبي - سورة هود (01)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
في هذا اليوم الأغر المبارك، أوائل سنة اثنتين وعشرين وأربعمائةٍ وألف، نستأنف القراءة في هذا التفسير الكبير العظيم، تفسير أبي عبد الله القرطبي الجامع لأحكام القرآن، هو تفسيرٌ جامع على اسمه للأحكام وغيرها، لكن أكثر ما فيه تعرُّض لأحكام القرآن، نستأنف الدرس بعد انقطاعٍ دام ما يقرب من ثلاثين شهرًا؛ وذلك لظرفٍ طرأ على القارئ، وهو مرضه في رمضان سنة تسعة عشرة، ثم وفاته بعد ذلك -رحمه الله- في الثامن عشر من جمادى الآخرة سنة عشرين، رحمه الله رحمةً واسعة، وغفر لنا وله وجمعنا وإياه في دار كرامته، ومستقر رحمته.
وهذا الكتاب مثل ما ذكرنا سابقًا كتابٌ جامع محيط لكتب أحكام القرآن، وفيه لفتاتٌ لغوية وأخرى تربوية، وتفسيرٌ نافعٌ جامعٌ ماتع، وعليه ملاحظاتٌ يسيرة في باب الاعتقاد، وترجيح غير الراجح أحيانًا في المسائل الفقهية، والمؤلف مالكي المذهب، كما هو معروف، يُرجِّح أحيانًا مذهب الإمام مالك، وقد يكون القول الراجح عند غيره- رحمه الله-، وعلى كلًّ يُستدركٌ شيءٌ من هذا في التعليقات، وهذا التفسير لكبره وعظمته قررنا سابقًا أنه في كل فصلٍ دراسي ينتهي جزء من العشرين، مشينا على هذا مدة، ونرجو أن نحقق هذا مستقبلاً، إن شاء الله تعالى؛ لأن الكتاب على طوله يحتاج على هذا التقدير إلى ست سنوات لاحقة، إذا أردنا أن نكمل كل سنة جزأين، يعني في كل فصل دراسي جزءًا، فنحتاج إلى كم؟ بقي لنا اثنا عشر جزءًا، فنحتاج إلى ست سنوات، والتعليق يختلف وضعه عن سابقه تفسير الجلالين.
لأن تفسير الجلالين تفسير مختَصر جدًّا، يحتاج إلى شيء من التوضيح وشيءٍ من البيان، وكانت النية أن نكمل تفسير الجلالين لاختصاره، لكن حال دون ذلك الطريقة والمنهج الذي سلكناه، في المرة الأولى والثانية، ثم في الأخير، حقيقةً عجزت من التسديد والمقاربة؛ لأن هذا أمرٌ لا ينضبط، نحرص على ما يفيد الإخوان، وإذا أردنا أن نذكر كل ما يفيدهم، أو جُل ما يفيدهم صار أطول من تفسير القرطبي، وجربنا هذا فيما تقدَّم، فلعل رجوعنا إلى تفسير القرطبي يكون فيه خير ونفع للإخوان كلهم، والله المستعان، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
بقيت الإشارة إلى أن هذا التفسير طُبع مرارًا، طُبع المرة الأولى في دار الكتب المصرية سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة وألف، كانت طبعته الأولى للمجلد الأول والثاني طبعة بدون آيات، ما ذُكرت فيها الآيات، ثم طُبع ثانية بدون آيات وبدون إحالات، على ما سبق، وعلى ما سيأتي، ثم طُبع الأول والثاني أيضًا مرة ثانية، وطُبعت معهما بقية الأجزاء، ثم طُبع الأول المرة الثالثة، وفيه شيء من الإحالات، واستمر طبع العشرة الأولى، الثانية، وأما العشرة الأخيرة فلم تُطبع إلا مرة واحدة، ثم بعد ذلك طُبع الكتاب من أوله إلى آخره طبعةً سموها الطبعة الثانية، متجاهلين الطبعة الثانية والثالثة للمجلد الأول والثاني.
على كلٍّ الطبعة الأولى ميزتها عند أهل الصنعة أنها هي الأصل، وهي أجود ورق في الجملة ما عدا الرابع عشر والخامس عشر؛ لأنهما طُبعا في وقت الحرب، فصار الورق رديئًا، أما الطبعة الثانية فهي عند الهواة أقل من حيث جودة الورق، لكنها من حيث الفائدة أجود وأنفع؛ لأنها قوبلت على ثلاثة عشرة نسخة، وعُلِّق على ما يحتاج إلى التعليق عليه، وذُكرت الإحالات كلها، الإحالات كلها ذُكرت، طُبع الثاني بعد عشرين سنة، يعني من ثمانٍ وسبعين إلى اثنين وثمانين، بعد أكثر من عشرين سنة، فسموها الطبعة الثانية كلها من الأول إلى الأخير، وهذه فيها التعليق على ما يحتاج إليه، وهو قليل بالنسبة إلى حجم الكتاب، قلة ما يحتويه وكثرة ما يحتاج إليه، الأمر الثاني الإحالات، وهذا أمرٌ مهم جدًّا، الإحالات على المواضع السابقة واللاحقة، ولذا من يقارن بين الطبعتين يجد في بعض الصفحات ثماني إحالات في الطبعة الثانية، ولا يجد شيئًا منها في الأولى، فعلى سبيل المثال الصفحة الأولى من هذا الجزء، الصفحة الأولى من هذا الجزء.
طُبع أيضًا الكتاب في مطابع أخرى غير دار الكتب، لكنها طبعات لا ترقى إلى خدمة الكتاب، ولا تليق بإخراجه وجودة ورقه والعناية بالكتاب، سموه تحقيقًا، وسموه تعليقًا، وتخريجًا وليس هو شيئًا من هذا، في الصفحة الأولى من هذا الجزء الطبعة الأولى ما فيها ولا حاشية ولا رقم، الطبعة الثانية فيها أربعة أرقام أربع حواشٍ، وهكذا. إحالات كثيرة على السابق واللاحق، فالطبعة الثانية لمن يريد الاستفادة طبعةٌ نفيسة، ينبغي أن يُعتَنى بها، ويُحرص عليها، أما ما يلي ذلك من الطبعات وإن قالوا: عليها تعليقات وتحقيقات فما فيها شيء، لا طبعة دار الكتب العلمية، ولا طبعة دار الحديث ولا غيرها، وهي طبعات لا تليق بمقام الكتاب، على كلًّ الطبعة الثانية صُورت، من حسن الحظ أن الذي صُور الطبعة الثانية بكاملها، يعني ما صُورت الأولى، فالموجود في الأسواق من المصورات الطبعة الثانية.
طالب:.........
كل ما معكم كلها، كلها الطبعة الثانية.
طالب:....
نعم؟
حتى العلمية؟
لا لا، العلمية لا شيء، العلمية ما يطبع لها، المطبوعة على دار الكتب المصرية، كم عندكم من إحالة؟
طالب:.........
نعم، معروف، معروف.
طالب: كيف يُعرف منها المصور من...؟
معروفة، المري يُعرف من قفاه، كيف تعرف؟ ما تعرف، نعرف كل الذي مع الإخوان.
والعجيب في هذا الكتاب أنه لا –يندر أن وجد شخص يعرف الطبعة من أولها إلى آخرها؛ لأنهم طبعوا طبعات سموها ثانية وهي في الحقيقة أولى، وطبعات ثانية أو ثالثة وهي أولى، ولفقوا في الطبعات القديمة لا يستطيع الإنسان العادي الذ ما له خبرة بالكتب وبهذا الكتاب على وجه الخصوص أن ينتقي نسخة كاملة من أول الكتاب إلى آخره طبعة واحدة، هذا يندر، وأيضًا النُّسخ الموجودة في الأسواق والتي تجيء من الخارج والتي في المكتبات العامة يندر أن تجد نسخة، طبعة واحدة من الأول إلى العشرين. يعني شخص يشتري عشر نُسخ ينتقي منها نسخة واحدة يمكن، وهذا دونه خرط القتاد؛ لأن النسخ خلاص هذه كما تعلمون غالية، فيها غلاء.
وعلى كلٍ الكتاب يحتاج إلى عناية، وهو كتابٌ عظيم، يعني قد يستغرب أحد مثل هذا الكلام، وأن تُبذل فيه الأموال، لكن من عرف حقيقة الكتاب هان عليه كل شيء.
نعم.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته.
قال الإمام أبو عبد الله القرطبي -رحمه الله-:
بسم الله الرحمن الرحيم، سورة هودٍ -عليه السلام-.
مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَجَابِرٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ، إِلَّا آيَةً، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ}[هود:114]. وَأَسْنَدَ أَبُو مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «اقْرَءُوا سُورَةَ هُودٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ».
نعم. السورة مكية كما ذكر المؤلف -رحمه الله-، وإن كان فيه استثناء لهذه الآية التي فيها الإشارة إلى مواقيت الصلاة، وجزم كثيرٌ من أهل العلم أنها مكية دون استثناء.
وأسند أي روى بإسناده الدارمي -رحمه الله تعالى- في مسنده، والمسند يراد به السنن، سنن الدارمي المطبوع المتداول، والدارمي له مسند أيضًا، وله جامع ذكره الخطيب في تاريخه، وإطلاق المسند على سنن الدارمي فيه شيء من التجوُّز بحسب الاصطلاح الذي استقر عليه الأمر، وهو أن المسند: الكتاب الحديث المؤلَّف على مسانيد الصحابة، قبله ابن الصلاح ذكره في المسانيد، وهذا لا شك أن فيه تجوُّزًا، ولذا يقول الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى-: ودونها في رُتبةٍ ما جُعل
يعني ما دون السنن.
ودونها في رتبةٍ ما جُعل ـــــــــ على المسانيد فيُدعى الجفلا
كمسند الطيالسي وأحمد ــــــــــ وعدُّه للدارمي انتُقد
انتُقد على ابن صلاح عدُّه للدارمي مسندًا من ضمن المسانيد، نعم. هو مسند بالمعنى الأعم أنه ذُكرت فيه الأخبار بالأسانيد، إن كان يريد المسند الذي أشار إليه الخطيب في تاريخه، فنعم، لكن هنا لا يراد قطعًا؛ لأن الحديث في السنن، والمسند مسند الدارمي منقطع قديمًا، يعني ما وُقف عليه من قديم.
على كلٍّ هذا الحديث في سنن الدارمي، وهو عن كعب، يعني كعب الأحبار، وخبره مرسلٌ وسنده إلى كعب صحيح، كما قال الحافظ ابن حجر في أماليه، أخرجه أيضًا البيهقي وابن مردويه، وعلى كلٍّ هو مرسل، كعب ليس من الصحابة، وإنما هو تابعي.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ شِبْتَ! قَالَ: شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَالْوَاقِعَةُ وَالْمُرْسَلَاتُ وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ»، قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَقَدْ رُوِيَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا مُرْسَلًا، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي "نَوَادِرِ الْأُصُولِ"، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَال: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَاكَ قَدْ شِبْتَ! قَالَ: «شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا».
نعم. هذا الحديث مروي من طُرق، وعن جمعٍ من الصحابة، لكنه عند أكثر العلماء حديثٌ مضطرب، حديثٌ مضطرب، حكم عليه جمعٌ من أهل العلم بالاضطراب، والحديث المضطرب كما هو معروف: هو الذي يُروى على أوجه مختلفة متساوية، فلابد أن يُروى على أكثر من وجه، وأن تكون هذه الوجوه مختلفة، بينها شيء من التعارض، وأن تكون هذه الوجوه المختلفة متساوية، بحيث لا يمكن ترجيح بعضها على بعض، وإن قال ابن حجر: إنه في هذا الحديث يمكن ترجيح بعض الطرق على بعض، وحكم عليه بأنه حسن، وليس بمضطرب.
وعلى كل حال، السورة حقيقةً من قرأها بتدبر، وأداها كما ينبغي، وقرأها على مراد الله من إنزال كتابه ووعاها، جديرةٌ بهذا، وأدركنا شيوخنا ولها شأنٌ عظيم عندهم، فنجد المساجد يوم الثاني عشر من رمضان تكتظ بالمصلين، لا سيما عند بعض الناس الذين في قراءتهم شيء من الخشوع والبكاء، وإن كانوا يهزونها هزًّا، كما عرفنا من طريقتهم وحضرناهم، تجد البكاء مع الهز؛ لأنهم يعون ما يقرؤون، ويتدبرون وهم يسرعون في القراءة، أما القراءة والهز فقد تعودوا عليها في صلاة التراويح، فهي قراءةٌ مفضولة على كل حال، وإن كان الخلاف بين أهل العلم في المفاضلة بين الهز والترتيل قائمة، والجمهور على أن الترتيل أفضل، ويرى الإمام الشافعي ومن يقول بقوله أن الإسراع في القراءة أفضل من الترتيل، وليس معنى هذا أنك تقرأ جزءًا بترتيل، أو تقرأه بهز، يكون هذا محل الخلاف؟ لا، محل الخلاف أن تقرأ ساعة مثلاً، هل تقرأ في هذه الساعة جزأين أو تقرأ أربعة أجزاء؟ أيهما أفضل؟ عند الجمهور تقرأ جزأين أفضل؛ للأمر بالترتيل، ولأنه هو الذي يتيح الفرصة للتدبر والتفكر والاتعاظ والازدجار، فمحل الخلاف فيما إذا قرأ في الساعة جزأين أو أربعة أجزاء، ولكلٍّ وجه، إن قرأ بتدبُّر فهذا أمر الله –سبحانه وتعالى- بالترتيل، وهو أقرب إلى التذكُّر والاتعاظ والاعتبار.
وقد جاء الأمر بالتدبُّر في مواضع من القرآن، في أربع آيات من القرآن، هي إيش؟
في النساء: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}[النساء:82]، وفي سورة المؤمنون.
طالب:.......
نعم. الثالثة في ص.
طالب:.........
نعم، والرابعة في القتال.
طالب:.......
نعم.
طالب:.......
على كلٍّ التدبر مطلوب، ولذا يقول شيخ السلام -رحمه الله-: من قرأ القرآن على الوجه المأمور به أورثه من العلم واليقين وزيادة الإيمان ما لا يدركه إلا من جرَّب، فالتدبر مطلوب ومأمورٌ به، وجاء عن السلف التحذير من الهز، جاء عن ابن مسعودا: هذًّا كهذ الشعر، لكن من رجَّح هذا النوع من القراءة قال: إن فيه تحصيل أكبر قدر من الحروف، أكبر قدر من الحروف، وقد رُتِّب الثواب على الحروف، كل حرف عشر حسنات، في كل جزء مائة ألف حسنة، فإذا قرأ أربعة أجزاء في الساعة أدرك أربعمائة ألف حسنة، وإذا قرأ جزأين فمقتضى ذلك أنه يدرك مائتي ألف، لكن يبقى أن الاتباع أولى من مجرد كثرة أو مجرد عدد الحسنات، فالذي أصاب السنة، أيهما أعظم: هو أو الذي أُعطي الأجر مرتين؟
طالب:.....
نعم.
طالب:.....
«الذي يقرأ القرآن وهو ماهرٌ فيه مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له الأجر مرتين»، أيهما أفضل؟ الأول أفضل قطعًا، والذي تيمم وصلى أصاب السنة، والذي صلى من غير تيمم، ثم أعاد الصلاة لما وجد الماء له الأجر مرتين، لكن أيهما أفضل؟
فلا يعني أن كثرة الحسنات مطلقًا هي أفضل من غيرها، لا، قد يكون الثواب المرتب على التدبر أعظم من مجرد كثرة الحسنات، ولذا المرجح أن التدبر أفضل من الهذ، وإن ترتب عليه قلة المقروء، وهذا قول أكثر العلماء، وهو الراجح، إن شاء الله تعالى.
على كلٍّ هذا الحديث شيبتني هود وأخواتها؛ لأن ما اشتملت عليه من أخبار الأمم الماضية، وما وقع لهم، وما وقع منهم من التكذيب لرسلهم، وما حل بهم من العقوبات والنَّكال، ليس معنى هذا أنها قَصص تاريخية تُقرأ للتسلية، وأنها خاصة بأولئك، جاء عن عمر- رضي الله عنه-: مضى القوم ولم يُرد به سوانا، جاء في آخر سورة يوسف: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ} [يوسف:111]، القصص عادية، يعني تُقرأ للتسلية؟! لا، هي للعبرة والاتعاظ، كون الرسول -عليه الصلاة والسلام- إن صح الخبر قد شيبته هود، وهذه السور التي قُرئت معها فلما اشتملت عليه من الزواجر، والمؤلف له رأي في الشيب وسببه، وأن سببه الفزع، والفزع نقول: إنه ينشف البدن، ونسمع كلام المؤلف -رحمه الله-، نعم.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
هذا المؤلف، نعم.
"فَالْفَزَعُ يُورِثُ الشَّيْبَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْفَزَعَ يُذْهِلُ النَّفْسَ فَيُنَشِّفُ رُطُوبَةَ الْجَسَدِ، وَتَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ مَنْبَعٌ، وَمِنْهُ يَعْرَقُ، فَإِذَا انْتَشَفَ الْفَزَعُ رُطُوبَتَهُ يَبِسَتِ الْمَنَابِعُ فَيَبِسَ الشَّعْرُ وَابْيَضَّ، كَمَا تَرَى الزَّرْعَ الْأَخْضَرَ بِسِقَائِهِ، فَإِذَا ذَهَبَ سِقَاؤُهُ يَبِسَ فَابْيَضَّ، وَإِنَّمَا يَبْيَضُّ شَعْرُ الشَّيْخِ لِذَهَابِ رُطُوبَتِهِ وَيُبْسِ جِلْدِهِ، فَالنَّفْسُ تَذْهَلُ بِوَعِيدِ اللَّهِ، وَأَهْوَالِ مَا جَاءَ بِهِ الْخَبَرُ عَنِ اللَّهِ، فَتَذْبُلُ، وَيُنَشِّفُ مَاءَهَا ذَلِكَ الْوَعِيدُ وَالْهَوْلُ الَّذِي جَاءَ بِهِ، فَمِنْهُ تَشِيبُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا}[ص:4]، فَإِنَّمَا شَابُوا مِنَ الْفَزَعِ" .
نعم. الذي شابهم هو الفزع، فزع الخوف الوجل لا شك أنه يُشيب رأس المولود، ومثل قراءة هذه السورة لا شك أنها تُشيب من في قلبه حياة، لكن مع الأسف أنها تُقرأ في عشر أو ثمان دقائق، فلا تُورثُ شيئًا، كأن شيئًا لم يكن، ولا يدري القارئ هل قرأ سورة هود أو يوسف أو يونس؟ ما يدري!، هذا واقع كثير من الناس، والله المستعان.
طالب:.........
نعم.
أحسن الله إليك، الآن من القرآن سبب شيب النبي- صلى الله عليه وسلم-، ما كان في السورة من أهوال، طيب فيه من القرآن سور احتوت أكثر مما احتوته السورة من أهوال كالأعراف مثلاً، أو غيرها أو يوسف مثلاً أو غيرها من السور التي فيها قصص؟ أنت إن تأملت السور وقارنت بينهم هذا كلام تراه رأي فقط، إذا ليست الأعراف فيها قصص أكثر؟ ما يلزم، ما يلزم، أنت شف سياق القصص، سياق القصص كيف جاء، شف ما يخصنا من هذه القصص {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]، يعني هذا إذا وُجِّه للنبي -عليه الصلاة والسلام- مثل هذا الخطاب، ماذا يصير وضعنا؟
طالب:.....
{وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83]، أمور! أمور ليست سهلة وليست هينة لمن له قلب، ولا عاد الله يعفو ويسامح، الله يعفو وسامح.
وَأَمَّا سُورَةُ "هُودٍ" فَلَمَّا ذَكَرَ الْأُمَمَ، وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ عَاجِلِ بَأْسِ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَهْلُ الْيَقِينِ إِذَا تَلَوْهَا تَرَاءَى عَلَى قُلُوبِهِمْ مِنْ مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ وَلَحَظَاتِهِ الْبَطْشُ بِأَعْدَائِهِ، فَلَوْ مَاتُوا مِنَ الْفَزَعِ لَحَقَّ لَهُمْ.
وقد وُجد من يموت، وُجد من يُساق في عصر التابعين فمن دونهم فمن بعدهم من يموت إذا سمع القارئ، هذه أمور متواترة، زرارة بن عوف لما سمع القارئ يقرأ: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُور} [المدثر:8]، من منا من تحرك منه شعره هذه الآية؟ سمع القارئ يقرأ هذه الآية في الصلاة ومات! من منا من تحرك منه شعرة؟ {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُور}.
طالب:....
نعم؟
طالب:.........
والأخبار كثيرة في هذا من زمن التابعين فمن بعدهم، د يقول قائل هل هذه صفة كمال أو صفة نقص؟ كون الإنسان يُصعق يُغمى عليه إذا سمع القرآن وقد يموت؟ بعضهم لجأ إلى إنكار مثل هذه الوقائع وهذه القصص، حتى أن ابن سيرين ذُكر له قوم من هذا النوع قال: يوضع أحدهم على جدار، ثم يُقرأ القرآن إن سقط فهو صحيح، اختبار! فكأنه يميل إلى أن مثل هذا ما يكون، لكن إذا عرفنا أن القرآن ثقيل سنلقي عليك...
طالب:....
نعم؟
طالب:.......
قولاً ثقيلاً {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]، والرسول -عليه الصلاة والسلام- وهو يوحى إليه معروفٍ وضعه، عليه الصلاة والسلام لا شك أن الوحي ثقيل، قد يقول قائل هذا وُجد في التابعين ما وجد من الرسول ولا وُجد من الصحابة، نقول: نعم، القرآن قوي وثقيل لكنه وافق قلوبًا قوية، صار فيه شيء من التكافؤ، قلبه -عليه الصلاة والسلام- مع ما جُبل عليه من مراقبة الله وخشيته، ومعرفته تمام المعرفة قلبه قوي -عليه الصلاة والسلام-، كذلك الصحابة من بعده، لكن من بعدهم ضعفت القلوب، والقرآن بمنزلته في القوة، {لَوْ أَنْـزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا}[الحشر:21]، فالصحابة يتأثرون من قبلهم الرسول قدوتهم -عليه الصلاة والسلام-، لكن عندهم من المقاومة وقوة القلب التي وهبهم الله –سبحانه وتعالى- إياها، ما يجعلهم يقاومون فلا يحصل لهم شيء من ذلك، ووُجد التأثر من القرآن ممن دونهم مع ضعف المورود، فهي صفة نقص من جهة وصفة كمال من جهة، التأثُّر حاصل مع ضعف المورود فيحصل ما حصل، من جاء بعدهم يقرأ القرآن ويسمع القرآن ويتأثر، يقول: أنزل الصحابة كلام هباء، القلب ضعيف لو حصل مثله أدنى مصيبة انظر إلى وضعه في دنياه! ما يتحمل شيئًا، هذا قلبه قوي، لكن الأثر ضعيف، تأثير القرآن فيه ضعيف، وعلى كل حال القرآن مؤثر، هو كلام الله، ولولا أن الله –سبحانه وتعالى- جعل في قلب ابن آدم على تحمل ما يسمع ما تحمله، وإذا كان الجبل يتصدع {لَوْ أَنْـزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا}، فكيف بالقلب الذي هو مضغة لحم، لو كان يعقل هذا القلب ما صار وضع كثيرٍ من المسلمين إلى هذا الحد، تجده يبيع دينه بعرضٍ يسير زائل من الدنيا، وقد يتحامق، فيبيعه بعرضٍ لا ينفعه، بل يضره، وقد يكون نافعًا لغيره دونه، والله المستعان، نعم.
فَلَوْ مَاتُوا مِنَ الْفَزَعِ لَحَقَّ لَهُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى اسْمُهُ يَلْطُفُ بِهِمْ فِي تِلْكَ الْأَحَايِينِ حَتَّى يَقْرَءُوا كَلَامَهُ، وَأَمَّا أَخَوَاتُهَا فَمَا أَشْبَهَهَا مِنَ السُّورَ مِثْلُ: "الْحَاقَّةِ" وَ"سَأَلَ سَائِلٌ" وَ" إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ" وَ" الْقَارِعَةُ".
نعم. جاء في بعض الآثار ما يدل على ذلك وأنها قُرنَت بها.
فَفِي تِلَاوَةِ هذِهِ السُّوَرِ مَا يَكْشِفُ لِقُلُوبِ الْعَارِفِينَ سُلْطَانَهُ وَبَطْشَهُ فَتَذْهَلُ مِنْهُ النُّفُوسُ، وَتَشِيبُ مِنْهُ الرُّءُوسُ. [قُلْت] وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الَّذِي شَيَّبَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ سُورَةِ هُودٍ قَوْلُه: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
نعم. إذا كان -عليه الصلاة والسلام- قد أُمر بالاستقامة ولزوم المنهج والطريق الصحيح فغيره من باب أولى، والمعصوم -عليه الصلاة والسلام- من الوقوع في المعاصي فغيره من باب أولى.
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ أَبَانَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي مَنَامِي فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ هُودٍ فَلَمَّا خَتَمْتُهَا قَالَ: يَا يَزِيدُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ، فَأَيْنَ الْبُكَاءُ؟ قَالَ عُلَمَاؤُنَا.
على كلٍّ هذا منام، منام إن صحت نسبته إلى يزيد بن أبان فرُؤيا النبي -عليه الصلاة والسلام- لا يتلبس بها الشيطان، وإذا ولو وُجدت القراءة دون البكاء فإن أثر هذه القراءة لا شك أنه قليل بالنسبة لمن يتدبر ويبكي، الرسول -عليه الصلاة والسلام- وقد غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر إذا قام من الليل صدره له أزيزٌ كأزيز المِرجل من البكاء، وقرأ عليه ابن مسعود من سورة النساء حتى إذا بلغ قوله تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء} [النساء:41]، {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِك} يقول: التفت إليه، فإذا عيناه تذرفان -عليه الصلاة والسلام-.
"قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: يُقَالُ هَذِهِ هُودُ فَاعْلَمْ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِلسُّورَةِ؛ لِأَنَّكَ لَوْ سَمَّيْتَ امْرَأَةً بِزَيْدٍ، لَمْ تُصْرَفْ".
نعم. للعالمية والتأنيث، لم تصرف للعالمية والتأنيث، وإلا فالأصل أن زيد مصروف، هود مصروف؛ لأن أسماء الأنبياء كلها ممنوعة من الصرف إلا كم؟ ستة؟
طالب:.....
صالح، نوح، شعيب، ومحمد، ولوط، وهود، ستة مجموعةٌ في قوله: صن شمله، يعني ما بُدئ بهذه الحروف الستة فهو مصروف، وما عدا ذلك فممنوع من الصرف، وصرف مثل هود ونوح وإن كانت هي عربية؟ ليست عربية؟
طالب:.....
نعم؟
طالب:.....
أعجمية، لكنها ثلاثية ساكنة الوسط، ثلاثية ساكنة الوسط ولذا "هند" عالمية وتأنيث، ومع ذلك مصروف.
طالب:......
نعم؟
طالب:.......
مصروف؛ لأنه ثلاثي ساكن الوسط.
"وَهَذَا قَوْلُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ يَقُولُ: هَذِهِ هُودٌ بِالتَّنْوِينِ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِلسُّورَةِ، وَكَذَا إِنْ سَمَّى امْرَأَةً بِزَيْدٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا سَكَنَ وَسَطُهُ خَفَّ فَصُرِفَ، فَإِنْ أَرَدْتَ الْحَذْفَ صَرَفْتَ عَلَى قَوْلِ الْجَمِيعِ، فَقُلْتَ: هَذِهِ هُودٌ وَأَنْتَ تُرِيدُ سُورَةَ هُودٍ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّكَ تَقُولُ: هَذِهِ الرَّحْمَنُ، فَلَوْلَا أَنَّكَ تُرِيدُ هَذِهِ سُورَةُ الرَّحْمَنِ مَا قُلْتَ هَذِهِ" .
نعم.
"قوله تعالى:"الر"، تقدَّم القول فيه، كِتَابٌ بِمَعْنَى هَذَا كِتَابٌ، {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود:1]، فِي مَوْضِعِ رَفْعِ نَعْتٍ لِ " كِتَابٌ".
لماذا ليس الحال؟ كتابٌ خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذا كتاب، {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} يقول: في موضع رفع نعت لكتاب، نقول: هذا حال هذا كتابٌ حالَ كونه أُحكمت آياته، يا أشرف؟
طالب:......
يا إخوان؟
طالب:......
صحيح، الجُمل بعد النكرات، كتاب نكرة، الجُمل بعد النكرات صفات وبعد المعارف أحوال، لو قال: الكتاب أُحكمت آياته؟ لصار حالًا.
"وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي مَعْنَى {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} قَوْلُ قَتَادَةَ: أَيْ جُعِلَتْ مُحْكَمَةً كُلَّهَا لَا خَلَلَ فِيهَا وَلَا بَاطِل، وَالْإِحْكَامُ مَنْعُ الْقَوْلِ مِنَ الْفَسَادِ، أَيْ نُظِمَتْ نَظْمًا مُحْكَمًا لَا يَلْحَقُهَا تَنَاقُضٌ وَلَا خَلَلٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاس: أَيْ لَمْ يَنْسَخْهَا كِتَابٌ، بِخِلَافِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى: أَحْكَمَ بَعْضَ آيَاتِهِ بِأَنْ جُعِلَ نَاسِخًا غَيْرَ مَنْسُوخٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ".
نعم. الإحكام يُطلق ويراد به ما يقابل النسخ، فالناسخ محكم، ويقابله المنسوخ، يطلق ويراد به ما يقابل المتشابه، فالقرآن منه المتشابه ومنه المحكم، فعلى القول الأول إذا قلنا: إن المراد بالإحكام ما يقابل النسخ، فالقرآن كله محكم، وما عداه من الكتب السماوية منسوخ، والقرآن محكم بمعنى أنه متقَن، لا يتطرق إليه الخلل بوجه من الوجوه، وإذا قلنا: إن الإحكام المراد به ما يقابل المتشابه، فالقرآن منه محكم ومنه المتشابه، والمتشابه محكمٌ من جهة أنه متقَن لا يتطرق إليه خلل.
"وَقَدْ يَقَعُ اسْمُ الْجِنْسِ عَلَى النَّوْعِ، فَيُقَالُ: أَكَلْتُ طَعَامَ زَيْدٍ، أَيْ بَعْضَ طَعَامِهِ".
نعم، يطلق الشيء ويراد بع بعضه، يطلق الشيء ويراد به بعضه؛ لأن اسم الجنس ما يعم الأنواع فتطلق الجمع.