الإمام النسائي - رحمه الله - معروف بشدة التحري والاحتياط، وهو من أبعد الناس عن التدليس، لكنه أحياناً يحذف الصيغة ويقتصر على اسم الشيخ من دون ما يقول: أخبرنا أو حدثنا، فيقول: "الحارث بن مسكين فيما قرئ عليه وأنا أسمع"، فهذا ليس من تدليس القطع أبداً، والسبب في ذلك أن الحارث ابن مسكين كان ممن يأخذ أجرة على التحديث، والنسائي -رحمه الله - كان ممن يعتني بمظهره، فلما دخل النسائي على الحارث طلب منه أجرة، فرفع عليه الأجرة ظناً منه أنه غني، فرفض النسائي -رحمه الله - أن يعطيه الأجرة، فطرده الحارث بن مسكين من حلقة الدرس، فصار يسمعه من خلف سارية، والحارث بن مسكين ثقة لكنه بشر، والإمام النسائي -رحمة الله عليه- شديد الورع والتحري، فلكون الحارث بن مسكين ثقة روى عنه النسائي، ولكون الحارث بن مسكين لم يقصد النسائي بالتحديث - بل العكس طرده من الدرس- ما قال: حدثني ولا أخبرني، وهذا من تمام ورع النسائي. وبالمناسبة فإن في نسخ سنن النسائي المطبوعة كلها: "أخبرنا الحارث بن مسكين" وهذا خطأ، فالنسائي يروي عن الحارث بن مسكين بدون صيغة.
سنن النسائي أحد الكتب الستة بلا نزاع بين أهل العلم، لكن الخلاف في المراد بالسنن عند الإطلاق، وكذا إذا قيل: "رواه النسائي"، وأطلق هل ينصرف الذهن إلى الكبرى أو الصغرى؟ منهم من قال: إن المراد الكبرى، وبهذا قال ابن الملقن، وصاحب عون المعبود في آخر الجزء الرابع عشر، حيث قال: " ثم أعلم أن قول المنذري في مختصره، وقول المزي في الأطراف : " الحديث أخرجه النسائي"، فالمراد به السنن الكبرى، وليس المراد به الصغرى التي هي مروج الآن في الأقطار"، يقول: "وهذه الصغرى المروجة مختصرة من السنن الكبرى، وهي لا توجد إلا قليلاً"، يعني الكبرى، لا شك أن الذي راج ودرج واشتهر بين الناس هي الكبرى مسماة بالمجتبى، يقول: "فالحديث الذي قال فيه المنذري والمزي أخرجه النسائي، وما وجدته في السنن الصغرى، فاعلم أنه في الكبرى، ولا تتحير لعدم وجدانه فإن كل حديثٍ هو موجود في الصغرى يوجد في السنن الكبرى لا محالة من غير عكس" على أنه قد يوجد -وهذا نادر- في السنن الصغرى ما لا يوجد في الكبرى، ويقول المزي في كثيرٍ من المواضع: "وأخرجه النسائي في التفسير وليس في الصغرى تفسير"، والله أعلم، وفي تدريب الراوي للسيوطي تنبيهات: "الثالث سنن النسائي الذي هو أحد الكتب الستة أو الخمسة هي الصغرى دون الكبرى" صرح بذلك التاج السبكي قال: "وهي التي يخرجون عليها الأطراف والرجال" وإن كان شيخه المزي ضمّ إليها الكبرى، وصرح ابن الملقن بأنها الكبرى وفيه نظر، يقول: "ورأيت بخط الحافظ أبي الفضل العراقي أن النسائي لما صنّف الكبرى أهداها لأمير الرملة فقال له: أكل ما فيها صحيح؟ فقال: لا، فقال: ميّز لي الصحيح من غيره فصنّف له الصغرى" هذه القصة مشتهرة عند أهل العلم مما يدل على أن النسائي هو الذي تولى اختصار السنن بنفسه، ومنهم من يقول: أن الذي اختصر السنن هو تلميذه ابن السني، ويدعمون ذلك بأنه يوجد في الصغرى أحياناً قال ابن السني: قال أبو عبد الرحمن، وهذا ليس بحجة، فإن كتب المتقدمين تذكر فيها أسماء الرواة عن أصحابها، المسند كله من أوله إلى آخره عدا الزوائد حدثنا عبد الله قال: حدثني أبي، الأم قال الربيع: قال الشافعي، الموطأ: حدثنا يحيى بن يحيى قال: أخبرنا مالك.. إلخ.
المقصود أن هذه ليست بحجة قاطعة في أن الكتاب من اختصار ابن السني، ولو ذكر اسمه فإن طريقة المتقدمين في التأليف تختلف عن طريقة المتأخرين، يذكر الراوي في أصل الكتاب، كما ذكرنا عن الموطأ والمسند والأم وغيرهم.
ولما حُقق كتاب سنن النسائي الكبرى، والذي طبع في مطبعة الرسالة، انحل الإشكال بالنسبة لسنن النسائي؛ لأن السنن الكبرى مع المجتبى تكاد تكون متطابقة، إلا أن الكبرى تزيد عليها بعض الكتب.
وسنن النسائي كتاب نفيس نافع ميزته في بيان علل الأحاديث، واختلاف الرواة في التراجم، فتكمن أهميته في هذا الجانب، لكن العناية به من أهل العلم أقل من العناية في بقية الكتب، حتى سنن ابن ماجه أكثر عناية من سنن النسائي؛ والسبب في ذلك صعوبة التعامل مع هذه العلل، فإن تكلم الشارح عليها قد لا يحسن الكلام، وإن تركها أخل بأمر عظيم، على أنه تصدى لشرحه بعض الشراح على اختصار، فهناك حاشية للسندي وأخرى للسيوطي (زهر الربى)، وهناك التعليقات السلفية، وشُرح من قبل الشيخ محمد علي آدم، وهو شيخ أثيوبي، شرحه شرحاً مطولاً بما يقرب من أربعين مجلداً، وهو الآن يسعى لاختصاره ليكون في نصف هذا الحجم، أطال الشيخ محمد علي آدم في تراجم الرواة، وينقل التراجم من التهذيب، وينقل ما قيل في الشروح، إلا أنه لم يعتنِ -وفقه الله- على ما بذل في الكتاب بأهم ما ينبغي أن يتكلم عليه في الكتاب وهو العلل، وشرحه على كل حال طيب، ويستفيد منه طالب العلم، ويختصر عليه الجهد، ويوفر له الوقت إذا أراد مراجعة حديث في هذا الكتاب العقيم الذي لم يُشرح شرحاً مناسباً.
وأما بالنسبة لطبعات المجتبى (السنن الصغرى) فيستفاد من الطبعة المصرية البهية التي في ثمانية أجزاء مع حاشية السندي والسيوطي، وقد صورت مراراً وهي جيدة.
تصنيف الكتاب
كشاف الكتاب