عمدة القاري شرع مؤلفه في تأليفه كما قال القسطلاني في أواخر سنة إحدى وعشرين وثمانمائة، وفرغ منه في آخر الثلث الأول من ليلة السبت خامس شهر جمادى الأولى سنة سبعٍ وأربعين وثمانمائة، بدأ بعد الحافظ ابن حجر بأربع سنوات، وفرغ بعده بخمس سنوات، ذكر في مقدمته أنه لما رحل إلى البلاد الشمالية قبل الثمانمائة مستصحباً صحيح البخاري لنشر فضله عن ذوي الألباب ظفر هناك من بعض مشائخه بغرائب النوادر مما يتعلق باستخراج ما في الصحيح من الكنوز، ثم لما عاد إلى الديار المصرية ندبه إلى شرح الكتاب أمور:
الأول: أن يعلم أن في الزوايا خبايا، وأن العلم من منائح الله -عز وجل- ومن أفضل العطايا.
الثاني: إظهار ما منحه الله من فضله الغزير، وإقداره إياه على أخذ شيءٍ من علمه الكثير، يقول: "والشكر مما يزيد النعمة، ومن الشكر إظهار العلم للأمة".
الثالث: كثرة دعاء بعض الأصحاب للتصدي لشرح الكتاب، فأجاب هذه الدعوة فشرح الكتاب.
افتتح الكتاب بمقدمة مختصرة لا تعدو عشر صفحات، وافتتح المقدمة بذكر أسانيده إلى الإمام البخاري، ثم فوائد في اسم الصحيح وسبب تأليفه، وترجيح الصحيح على غيره، وشرطه، وعدد الأحاديث المسندة في صحيح البخاري، وفهرس أبواب البخاري مع عدد أحاديث كل كتاب، وطبقات شيوخ البخاري، ومن تكلم فيه من رجال الصحيح، والفرق بين الاعتبار والمتابعة والشاهد، وضبط الأسماء المتكررة، ومعلقات الصحيح، ثم عرَّف بموضوع علم الحديث ومبادئه ومسائله. ومقدمته مأخوذة بحروفها من مقدمة النووي على البخاري. شرع رحمه الله بعد ذلك في شرح الكتاب على ترتيبٍ جميل منظم، يشوّق القارئ، يبدأ أولاً بمناسبة الحديث للترجمة، ثم يتحدث عن رواة الحديث وما يتعلق بهم من الضبط والأنساب واللطائف، ثم يتحدث عن نوع الحديث واختلاف ألفاظه, ، ثم اللغة، ثم المعاني، ثم البيان والبديع، ثم الأسئلة والأجوبة، يورد إشكالات في الحديث ثم يجيب عنها، ثم سبب الحديث إن كان له سبب، ثم استنباط الأحكام، وهو في كل ذلك يطيل ويغرب في النقول والردود والمناقشات، ينقل من الشراح، وينقض أقوالهم، المقصود أن الشرح منظم ومرتب ترتيباً بديعاً إلا أنه ليس على وتيرةٍ واحدة، فهذا الترتيب وهذا التنظيم في أوائله, وبخاصة ما يتعلق باللغة والإعرابات والبيان والمعاني والبديع، لأنه إنما نقله – كما ذكر ابن حجر- من شرحٍ لركن الدين, لكنه لم يتمه وإنما كتب منه قطعة، فلما انتهى شرح ركن الدين انتهى العيني ولم يتكلم بعد تلك القطعة بشيءٍ. وهو ينقل ممن سبقه من الشراح كالخطابي والكرماني وابن بطال والنووي وغيرهم، واعتمد اعتماداً كبيراً على فتح الباري، إذا انتهى مجلد من شرح الحافظ ابن حجر اُستُعير بعلم الحافظ ابن حجر للعيني، واطلع عليه، ونقل منه الصفحة والصفحتين، فتصدر للرد عليه، وتعقبه بعبارات غير مناسبة، ومعلوم ما بين الأقران، وما يحدث بينهم من منافسة، والله المستعان.
ولا شك أن شرح العيني شرح موسع ومطول، وشرح حافل لا سيما في ثلثه الأول، والسبب في ذلك أنه لم يفرق شرح الأحاديث على المواضع المتعددة، ويتحدث عن كل حديث في الموضع المناسب له، وإنما أجلب بكل ما عنده في أول الكتاب، ثم في النهاية اختصر جداً. وهو في الجملة نافع في ترتيبه، بحيث لا تتعب في البحث عما تريده مع طول الكتاب.
الكتاب مطبوع في تركيا في أحد عشر مجلداً كبيراً وهي طبعة جيدة في الجملة؛ لكن التعامل معها فيه شيء من الصعوبة لتداخل المباحث، ثم طبع في المطبعة المنيرية في خمسة وعشرين جزءًا وهي طبعة جيدة نفيسة وقد فصلوا المباحث بعضها عن بعض، وحرفهم في الغالب جميل، وترتيبهم بديع، ثم طبع بعد ذلك في مطبعة الحلبي في عشرين جزءًا. أما الطبعات الأخيرة؛ طبعات المطابع التجارية المتأخرة فتولي هذه المطابع الحديثة للكتب الكبيرة التي تحتاج إلى لجان متخصصة لتصحيحها وتصويبها يوقع فيها الخطأ الكثير ويوقع فيها الأوهام، ولذا من كانت عنده طبعات قديمة، أو مصورات على هذه الطبعات القديمة فليستمسك بها، لا سيما الكتب الكبيرة التي ما جمع لها نسخ واعتني بها، وقرن بين هذه النسخ, وهذا الكلام ليس على إطلاقه، يعني قد يوجد نسخة صحيحة من الكتاب يعتمد المتقدمون على نسخ في المطابع القديمة بحسب تيسرها لهم، وهم مع ذلك لا يشيرون إلى فروق النسخ، ثم يتيسر للمتأخر أن يقف على نسخة المؤلف أو نسخة قوبلت على نسخة المؤلف، أو لأحد تلاميذ المؤلف، أو ما قرب من عصره، وفيها عناية ومقروءة من قبل أهل العلم، ثم يطبع الكتاب عنها فتكون له ميزة.
تصنيف الكتاب
كشاف الكتاب