كتاب الجامع من المحرر في الحديث - 18
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد،
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وعنه -رضي الله عنه-) يعني أبا هريرة، (وعنه) يعني صحابي الحديث السابق، وهو أبو هريرة.
(قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أُعطي رضي، وإن لم يُعطَ سخط -أو لم يرضَ-») في الرواية المدونة: «لم يرض»، («إن أُعطي رضي، وإن لم يُعطَ لم يرضَ»).
«تعس» يعني شقي وهلك وخسر، وهذا دعاء عليه، دعاء بصيغة الخبر، وهو خبر عن واقعه وهو التعاسة، وهو خبر عمن كانت همته الدنيا ولم يلتفت بسببها إلى ما خُلق من أجله، وهو تحقيق العبودية: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فالهدف تحقيق العبودية الموصلة للتقوى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]، فالهدف من إيجاد الجن والإنس ومن خلقهم تحقيق عبودية الله -جل وعلا- على مراده على ما جاء في كتابه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وامتثل ما جاء عنه -عليه الصلاة والسلام- من وفقه الله من عباده وعملوا بما أُمروا به وكفوا عما نُهوا عنه فصار هدفهم ونصب أعينهم هذا الهدف، وصارت الدنيا ومتاعها لخدمة هذا الهدف: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77].
أنت مأمور أن تسعى في إصلاح معاشك بقدر ما يحقق لك الهدف، أنت ما خلقت للدنيا، ولو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرًا شربة ماء، لكنها أحقر من ذا الجناح القاصر الطيران كما قال ابن القيم، الدنيا كلها ما تزن شيئًا، وركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها.
لكن بعض الناس، وهذا في الكفار هو الأصل وفي المسلمين على خلاف الأصل، لكنه موجود، كأنما خلق للدنيا، ورأيتم وسمعتم كما رأينا وسمعنا أمثلة كثيرة من هذا النوع على مر العصور وكثروا في عصرنا هذا، تجد بعض الناس يلهث وراء الدنيا، ويؤذن المؤذن، وكأنه لا يسمعه، وتقام الصلاة وهو في بيعه وشرائه، وفي غير ذلك من أعماله وفي مراجعة حساباته، وكأنه لا يسمع، هذا عابد الدنيا، وليس معنى هذا أنه يجعل نصبًا وتمثالًا مثل ما جاء يجعل الدرهم قدامه والدينار أمامه ويسجد له، لا، ليس هذا، إذا آثره على أمر الله وأمر رسوله -عليه الصلاة والسلام- فقد عبده، إذا تعلق قلبه بهذه الأشياء من حطام الدنيا، وهذه أمثلة، قد تكون همته في أنواع المتاع الأخرى من قصور ومن زخرف الدنيا.
بعضهم من سيارات يُشرب قلبه حب شيء من أمور الدنيا بحيث يؤثره على أوامر الله ونواهيه، هذه هي العبادة، وإن آثر شخصًا يقدم أمره على أمر الله فقد اتخذه ربًّا كما جاء في حديث عدي بن حاتم عند قوله -جل وعلا-: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] قال: ما كنا نعبدهم، فقال: أليس يأمرونكم فتأتمرون، وينهونكم فتنتهون، يعني بما جاء عن الله وعن رسوله، قال: فتلك عبادتهم.
«تعس» خسر وهلك، هذا ظاهر فيمن قدم الدنيا وآثرها وآثر متاعها وزينتها، منهم من يعبد أمورًا أخرى كالنساء مثلاً، تأمره الزوجة بما يسخط الله ويمتثل، وتنهاه عما أمره الله به فيمتثل. من المشاهد التي لا أنساها في حياتي: طالب علم في الدراسات العليا في قسم شرعي من أجمل الناس وجهًا، ولحيته إلى ثدييه، ويحضر الدروس، فجأة جاء في يوم من الأيام حليق! أين الجمال الذي بالأمس، والذي جمل الرجال باللحى؛ تقول عائشة، أين الجمال الذي بالأمس؟ ويُتحقق من أمره، فإذا زوجته قالت: إما أنا أو اللحية، أنا واللحية ما نجتمع، فحلقها، نسأل الله العافية.
«تعس عبد الدينار»، الدينار العملة المضروبة من الذهب، والدرهم العملة المضروبة من الفضة، وفي حكم الذهب والفضة الأوراق المتداولة بين الناس من الريالات والجنيهات والدولارات وغيرها من أنواع العملات.
و«القطيفة» نوع من الفرش، وهذا إشارة إلى من يكون اهتمامه بالأثاث، ويكون صرف وقته وشغل باله وهمه في الأثاث، وهذا مع الأسف موجود عند بعض الناس، بعض الناس يقضون الأوقات اليومية لا يلزم أن يكون رجلًا، الخطاب للجميع، وهم يُسرحون هدب الفرش يعني أطرافها بالاستشوارات، أما مسألة الكنس في كل لحظة وكذا فهذا موجود.
«تعس عبد الدرهم والدينار والقطيفة والخميصة»، الخميصة كساء، وهذا إشارة إلى ألوان الثياب وأنواعها، وغالبًا يكون من الخز أو الصوف مُعلمًا، يعني مُخططًا، والغالب أنها تكون سوداء.
المقصود أن هذه أمثلة، وليست حصرية على متاع الدنيا وزينتها وزخرفها، وجه العبودية أن يتعلق قلبه وهمته في هذه الأشياء.
«إن أعطي رضي، وإن لم يعطَ لم يرضَ» ولا ينظر إلى أمور أخرى، كمن يبايع الإمام للدنيا إن أعطاه من حطام الدنيا وفى، وإن لم يعطه لم يفِ، هذا همته الدنيا. ألا يعلم هذا الشخص أن الأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم من قبل المهاجرين وآووا الرسول ونصروه وأشركوا المهاجرين في أموالهم ونسائهم بايعوا على الأثرة، ولما قُسمت غنائم حنين وأعطى النبي -عليه الصلاة والسلام- صناديد قريش الأعداد الهائلة من الإبل والغنم وترك الأنصار، وكَلهم إلى ما في قلوبهم من إيمان، هذا الذي يؤثر الدنيا ولا يفي إلا إذا أُعطي، مثل هذا يوكل إلى ما في قلبه من إيمان؟
همته تدور على هذا الحطام، والنبي -عليه الصلاة والسلام- أعطى رهطًا وسعد جالس، وهذا في الصحيح صحيح البخاري، أعطى رهطًا وزع عليهم وسعد جالس، سعد بن أبي وقاص، ورأى النبي -عليه الصلاة والسلام- ترك شخصًا ما أعطاه شيئًا، فقال له: ما لك عن فلان، وإني لأُراه مؤمنًا؟ قال: أو مسلمًا؛ لأن الإيمان أمر قلبي، فالشهادة تكون على الظاهر، قالها مرارًا، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «إني أعطي، وأدع من هو خير منه»، بمعنى أنه يكله إلى ما عنده من إيمان، فلو لم يعط هؤلاء الذين هم دونه في الإيمان لكان على بعضهم خطر، كان بعضهم على خطر، من هذا النوع الذي إذا أعطي وفى، وإذا لم يعط لم يوفِ.
وفي الزكاة بعض وصنف من أصناف من تُدفع إليهم الزكاة المؤلفة قلوبهم: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60] فيعطون من الزكاة، وهي ركن من أركان الإسلام، وقسمتها تولى الله إياها، حصرها في ثمانية أصناف، ومنهم المؤلفة قلوبهم، وهذا النوع الذي يُخشى أن يزيغ إذا لم يعط.
المقصود أننا رأينا في أسواق المسلمين من يتحقق فيه هذا الكلام، عبودية الدنيا، ويوجد من التجار والأثرياء الكبار الذين ليسوا بحاجة إلى تعب، ليسوا بحاجة إلى نهامة، مئات الملايين، وبعضهم آلاف يراقبون الشاشات إلى أن يبزغ الفجر، والنتيجة لا شيء؛ لأن القدر الزائد عن الحاجة لا سيما الزائد زيادة مهولة لا يستفيد منه الإنسان، لا سيما وأنه في الغالب أن مثل هذا النوع من يكون من كبار السن الذي لا يتلذذ بأكل ولا بفراش ولا بنوم ولا... بل العكس عند مراقبة الشاشات، ولهم أسهم كبيرة جدًّا وعالية في أنواع ما يساهم به، إذا انخفض عنده كم مليون سهم اضطر إلى أن يأكل حبة للسكر أو حبة للضغط، الناس نيام نائمون على فروشهم، وهذا المسكين، طيب وبعد ثم ماذا؟
وسمعنا ورأينا في يوم انخفاض الأسهم وكسادها من أصيب بالجنون وبجلطات، لماذا؟ لأن همته هذا الحطام.
والمسلم المؤمن الراضي بما كتب الله له القانع بما قدر الله له يعيش على الكفاف تجده في مكان مرتاح ومطمئن ويقرأ في كتاب الله، ويذكر الله ذكرًا كثيرًا: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، فالمسألة تحتاج وقفة، وتحتاج أن يعيد الإنسان حساباته على ما يقولون: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، هذه هي الحياة السعيدة التي ينبغي أن يسعى لها المسلم، وهذا الأمر موجود، ولله الحمد، وفي الأمة كثير، لكن مع الأسف أنه يوجد للأمثلة التي ذُكرت في الحديث له وجود، خسرت الأسهم، أنت كنت تجبي فوائد وأرباحًا مدة طويلة، ثم خسرت، ماذا يصير؟
اختل عقله، وأصابه جنون أو جلطة من أجل ماذا؟ خسر الدنيا والآخرة، وسمع من يقول: آمييييين وهو ساجد في صالة البنك، من أجل ماذا؟ والله ما تساوي، لكن ينبغي أن يكون المسلم عزيزًا لا يكون عالة يتكفف الناس، يسعى لكسب ما يعينه على تحقيق الهدف، ولا يكون من نوع المتصوفة الذين يعيشون على أرزاق الناس ويتكففونهم، ويزعمون أنهم انقطعوا للعبادة ويؤولون الحديث: «اليد العليا خير من اليد السلفى» اليد العليا يقولون: إنها الآخذة؛ ليشحذ هذه هي اليد العليا، والذي يعطيه هي اليد السفلى، الآن الصورة صحيحة؟
الذي يعطي عادة والآخذ هو المتلقي، يقولون: لا، الآخذ نائب عن الله، ما يمكن أن يصير سفلى، يبررون ما يزاولونه من هذا الهوان، وعلى كل حال المسلم ينبغي أن يكون متوازنًا في حياته كلها.
ثم قال -رحمه الله-: (وعنه -رضي الله عنه-) يعني أبا هريرة (عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل أخوه») من سمعه («أو صاحبه: يرحمك الله»).
«فليقل» اللام لام الأمر، «وليقل أخوه» أيضًا لام الأمر، والأصل في الأمر الوجوب كما قرره أهل العلم، الوجوب، من أظهر أدلته على الوجوب: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] رتب عليه وعيد شديد لمخالفة الأمر، مما يدل على أن الأمر للوجوب، قد يوجد ما يصرفه عن الوجوب إلى الاستحباب، لكن الأصل فيه الوجوب.
«فليقل: الحمد لله» هذا ظاهر في أنه أمر لكل عاطس، ما يكفي حمد الثاني الذي عطس ....... لكن القول أو التشميت بيرحمك الله هل هو للوجوب العيني، يعني كل من سمع يقول يرحمك الله أو وجوب كفائي على الكفاية إذا قال به بعض السامعين يكفي عن البعض؟ مثل رد السلام، يعني لو جاء واحد يسلم هل يلزم كل المجموعة يقولون: وعليكم السلام، ولو عطس واحد فهل يلزم كل من سمع يقول: يرحمك الله؟
ابن القيم يميل إلى أنه يلزم كل من سمع.
«وليقل أخوه أو صاحبه: يرحمك الله»، لكنه ما نُقل أن من سمع في عهده -عليه الصلاة والسلام- وبوجوده من عطس في الجموع الكثيرة أنهم يقولون: يرحمك الله، يرحمك الله، يرحمك الله، لكن هذا لا يلزم، دليل غير مجزم، الأصل أن أخاه الذي سمعه يقول: يرحمك الله، ولا يلزم أن تكون المسألة فوضى كلهم بصوت مرتفع وكذا. أبو داود صاحب السنن سمع شخصًا عطس وحمد الله وهو في سفينة، فاستأجر قاربًا حتى حاذى السفينة فقال: يرحمك الله، بدرهم، فقيل له: كلفت نفسك ما لا يلزمك، قل يرحمك الله ....... قال: لعله يكون مجاب الدعوة، فإذا قال: يرحمك الله، ترجى هذه الإجابة، فالقصة تقول: إنه سمع قائلًا يقول: اشترى أبو داود الجنة بدرهم.
كان بعض المحققين والمعلقين يستبعدون مثل هذه الأمور ويقول: الجنة بدرهم عرضها السماوات والأرض، بدرهم! يستبعدون مثل هذه الأمور، والبغي التي سقت الكلب دخلت الجنة، البغي! فضل الله عظيم، وفضله واسع، وقد يحقر الإنسان العمل الصالح، ويكون في نظره يسيرًا، ويصل به من المنازل ما لا يصل إليها في الأعمال الكبيرة: «اتقوا النار ولو بشق تمرة»، فمثل هذه الأمور لا يحقرها الإنسان، عليه أن يمتثل ما سمع من الأوامر، ويجتنب ما نهي عنه، وهذه حقيقة التقوى.
«فإذا قال له: يرحمك الله» قال المشمت أو المسمت -بالسين-: «يرحمك الله، فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم»، بعض العامة يقولون: يهدينا ويهديكم الله، وجاء في التشميت: يرحمنا وإياكم ويغفر لنا ولكم، وهذا الحديث مخرج في السنن عند أبي داود والترمذي والبزار، وفيه كلام، فيه راوٍ فيه ضعف.
على كل حال هذا الحديث الثابت في الصحيح في البخاري هو المعتمد، يقول المشمت: يرحمك الله، العاطس يقول: الحمد لله، ثم يقول أخوه الذي سمعه بعد أن حمد الله يقول له: يرحمك الله، ثم يقول العاطس: يهديكم الله ويصلح بالكم.
إذا لم يحمد العاطسُ، ما امتثل الأمر، ولا حمد الله، فإنه في هذه الحالة لا يستحق التشميت؛ لأنه عطس عند النبي -عليه الصلاة والسلام- شخص فحمد الله فشمته، وعطس آخر فلم يشمته؛ لأن الأول قال: الحمد لله، والثاني ما حمد الله على ذلك.
طيب الحمد ما مناسبته للعطاس؟
لأن العطاس نعمة من نعم الله، يُخرج من الأبخرة المجتمعة في الدماغ ما لا يخرج بغير العطاس، ولو اجتمع وتراكم على الإنسان ضر به ضررًا بالغًا، لكن إذا عطس خرج ما يخرج، إذا عطس ثانية كذلك وهكذا. إذا عطس في الأولى وحمد الله يُشمت، إذا عطس في الثانية وحمد الله يشمت، والثالثة كذلك، ثم بعد ذلك يقف التشميت ويقال له: إنك مزكوم، ولو قيل له: عافاك الله كما في بعض الروايات لكان جيدًا.
(وعنه -رضي الله تعالى عنه- أن رجلاً) جاء في رواية أحمد أنه جارية بن قدامة (قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أوصني، قال: «لا تغضب»، فردد مرارًا، قال: «لا تغضب»).
في النهي عن الغضب، والغضب قد يكون صفة راسخة عند بعض الناس، مجبول على الغضب، فكونه ينهى عما جُبل عليه يعني فيه شيء، فما الأمر الذي ينصب عليه النهي في قوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا تغضب» يعني لا تباشر أسباب الغضب، ابتعد عنها، وحينئذٍ لا يحصل الغضب منك، أو إذا غضبت قُدر أنك باشرت سببًا من الأسباب وغضبت، اكظم هذا الغيظ وهذا الغضب، ولا ترتب عليه آثارًا، واعمل بالأسباب التي تخفف أو تنهي هذا الغضب من الوضوء أو تغيير الحال إن كنت قائمًا فاجلس، وإن كنت جالسًا فاضطجع، أو اخرج من البيت الذي فيه النزاع؛ لأن بعض الناس كثير المشاكل مع زوجته وأولاده، مثل هذا إذا حصل أو خشي أن يحصل هذا الغضب يخرج من البيت، بعض الناس عند أدنى سبب يحصل له الغضب، وما أكثر السائلين عن الطلاق في حال الغضب، كثيرًا ما تحصل حالات القتل، بل الغالب في حال الغضب.
فالغضب لا شك أنه جمرة محرقة في القلب تدفع إلى أذى المغضوب عليه، لكن على الإنسان أن يخفف بقدر استطاعته، ولا يجوز له أن يرتب على غضبه ما يضر بغيره، وإلا بعض الناس عنده ملكة إذا غضب يثور لأدنى سبب، ولكن هذه الملكة تزول بالتدريب للنفس وقصرها، ومثل ما يقال: العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، هناك أشياء جِبلية مجبول عليها الإنسان وأشياء مكتسبة، أشياء غريزية وأشياء مكتسبة، فالإنسان قد يكتسب الصفة الحميدة فيتخلص من الصفة الذميمة بالتدريج.
قالوا في هذه الجملة النهي عن الغضب خير الدنيا والآخرة؛ لأن الغضب يحمل على التقاطع؛ لأنه قد لا يقتصر الغضب على زوجة أو أولاد ولا على جيران، كل هذا مذموم، لكن قد يكون الغضب على الوالد أو الوالدة، ويتلفظ بألفاظ بذيئة، فيتعرض لغضب الله وسخطه وعقوبته العاجلة.
(وعنه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) كل هذه الأحاديث عن أبي هريرة قال: (قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من يرد الله به خيرًا»)، في حديث معاوية: «يفقهه في الدين»، وهنا يقول: («من يرد الله به خيرًا يصب منه»).
«يصب منه» يبتليه بالمصائب المتنوعة، وهذه المصائب يجب الصبر عليها، فإذا أصيب المسلم فصبر فلا شك أن هذا خير له: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، ويقول الإمام أحمد: إن الله -جل وعلا- ذكر الصبر في تسعين موضعًا من كتابه، والإمام ابن القيم له كتاب من أنفس ما كُتب في الموضوع اسمه: عِدَة الصابرين وذخيرة الشاكرين، تكلم عن هذه المسألة عن الصبر وما جاء فيه في كتاب الله بالتفصيل في كلام لا يوجد لغيره على حد ما نعرف مما كتب في الباب، فالإصابة بما يضر، فقد الولد، المرض مع الصبر على ذلك حتى قيل: إنه يأتي أناس يوم القيامة يتمنون أن أجسادهم قرضت بالمقاريض؛ لما يرون من ثواب الصابرين، فـ«من يرد الله به خيرًا يصب منه» هذه المصائب تكفر الذنوب، ولا يزال الإنسان في هذه المصائب حتى يخرج من الدنيا وليس عليه ذنب، وهذه الدنيا كما جاء في الحديث الصحيح «سجن المؤمن وجنة الكافر»، ومثل المؤمن مثل خامة الزرع مثل خامة الأرض تكفئها الرياح يمينًا وشمالاً، والكافر كالأرزة، شجرة الأرزة ثابتة لا يهزها شيء، كناية عن أن المؤمن يصاب بالأمراض ويصاب بالكوارث، وجاء في فقد الأولاد من الثواب العظيم ما يعرف من نصوص السنة فيمن فقد الولد والولدين والثلاثة، وأما المؤمن الذي لا يصاب أو المسلم الذي لا يصاب تبقى عليه سيئاته لا يخفف عنه إلا برحمة أرحم الراحمين، وليس من علامات السعادة أن الإنسان يبقى سليمًا معافى موفور الصحة موفور المال والولد؛ لأن مفهوم الحديث «من يرد الله به خيرًا يصب منه» أن الذي لم يصب منه لم يرد الله به خيرًا، كما قلنا في حديث: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين».
لا شك أن الفقه في الدين من أعظم أبواب الخير، لكن هل معناه أن الذي لا يتفقه في الدين أراد الله به شرًّا؟ هل أراد الله به شرًّا؟ لأننا نرى فئامًا من عوام المسلمين ما يقرأون ولا يكتبون ولم يتعلموا ولا تفقهوا، لكن عندهم أبواب من أبواب الخير، منهم من عنده بذل في الجهاد، وكثير منهم عنده بذل في المال، يبذل الأموال الطائلة لنصر الإسلام ورفع حاجة المحتاجين، ويبذل في جميع أبواب الخير، نقول: هذا لم يرد الله به خيرًا من هذا الباب الذي هو خير، لكن لا يلزم منه أن يكون الله -جل وعلا- أراد به شرًّا.
(وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ»).
الغبن بيع الشيء بثمن زهيد لا يقابل قيمة هذا الشيء، يعني كونك تبيع السيارة، تشتريها بخمسين ألفًا، ثم تبيعها بعشرة آلاف أنت مغبون، البيت الذي أنت ساكنه تبيعه بربع قيمته أنت مغبون، كيف مغبون؟
«الصحة والفراغ» هما نعمتان بلا شك، الصحة والفراغ نعمتان، كيف يُغبن الإنسان في هاتين النعمتين؟ تَمثل أن هاتين النعمتين أعيان تباع وتشترى، جاءك رجل مريض قال: بع علي الصحة فتبيعها بثمن زهيد، ما معنى هذا؟ أنك ما تستغل وقت هذه الصحة فيما يقربك إلى الله ويزيد من درجاتك في الجنة وينجيك من النار، تبيعها باللهو والغفلة والقيل والقال، هذا الغبن، يعني هل الجلسة في الاستراحات على القيل والقال من أول الليل إلى أن يبزغ الفجر بيع لهذا الفراغ بسعر مناسب، بينما الآخر نام نصف الليل ثم قام يتهجد ويتلو كتاب الله بقية الليل؟ هذا الذي باع بقيمة تناسب وتسوى التعب، أما القيل والقال ونكت واطلاع على ما يُرسل في هذه الوسائل مما لا يفيد، ويقضي الوقت بهذه الطريقة هذا قتل للفراغ وبيع له بالمجان، ما هو بثمن زهيد، إهدار له بالمجان، وقد يكون بالعكس إذا كان يقضى فيما حرم الله -جل وعلا-، هذا مثل الذي يبيع السيارة ويدفع معها قيمة، بكم تشتري هذه السيارة وهي تسوى مائة ألف؟ قال: أشتريها بعشرين، قال: خذ عشرين والسيارة، هذا الذي يقضي الأوقات بما حرم الله عليه، أما الذي يقضيها بالمباحات فهذا مثل الذي دفع السيارة بدون قيمة، ومثله الصحة، وعلى الإنسان أن ينتبه.
«خذ من صحتك لسقمك» أنت الآن صحيح تستطيع أن تبذل في حياتك ما يقربك إلى الله، غدًا ما تدري ماذا يصير عليك، ثم إذا انتبهت لا تستطيع أن تتعبد لله -جل وعلا- بما يقربك إليه، والرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: «يُكتب للمريض والمسافر ما كان يعمله»، طيب ماذا تعمل في الصحة؟ ما عملت شيئًا أو عملت أشياء يسيرة، ماذا تريد أن يكتب لك لما مرضت؟ بقدر ما كنت تعمله في الصحة.
في مثال: مدرس قال للطلاب: أنا أريد أن أقسم الاختبار نصفين شفويًّا وتحريريًّا، فاختبر الطلاب التحريري ورصد درجاتهم، قال واحد من الطلاب: أنا لا أستطيع أن أجيب بالشفوي، أنا ضعيف القدرة في هذا الباب، فأريد أن تضاعف لي درجة التحريري، قال: يا ابن الحلال اختبر أحسن لك، قال: لا أبدًا أنا مقتنع، هذا طالب آخذ صفرًا في التحريري ماذا يفعل له هذا في الشفوي؟ هذا الذي لا يعمل في حال صحته مثل الذي يأخذ صفرًا ماذا يفعل له إذا مرض، ماذا يكتب له إذا مرض؟ فعلى الإنسان أن ينتبه لنفسه، وينظر إلى ما جاء عن الله وعن رسوله بعين الحزم: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63]، ما تتراخى، وإذا جاءك ما يمنعك من العمل قلت: ليتني فعلت، ليتني...
«نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ»، إذا أهدرت حياتك وصحتك وفراغك بدون فائدة، بدون شيء يعود عليك نفعه فأنت بعت برخص، وأحيانًا تبيع بالمجان، وإذا كنت تزاول محرمات في وقت الصحة ووقت الفراغ ما يكفي أنك بعت بالمجان، بعت وأعطيت بعد. فالإنسان عليه أن ينتبه لنفسه، وأن يأخذ من صحته لسقمه، ومن فراغه لشغله، ومن حياته لموته، ومن حياته لموته، فإن هذه الحياة مزرعة تزرع فيها ما ينفعك في الآخرة.
(وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل»). ابن عمر الصحابي الزاهد المقتدي المؤتسي الممتثل: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل»، وما الجواب من ابن عمر؟
(كان ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح) عابر سبيل تريد أن تجلس بهذا المكان؟ والغريب سيرجع إلى أهله، يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء)، فورًا يمتثل ابن عمر، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل»، فكان لا ينام من الليل إلا قليلاً.
«كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» أي لا تطيل الأمل، فإنك مع إطالة الأمل تضعف في العمل، الذي يرى أنه قريبًا ستنتهي حياته فإنه حينئذٍ سيحرص على اغتنام هذه الساعات وهذه الدقائق؛ لأنه لا يدري متى يأتيه الموت فجأة ولا يستطيع أن ينفِّذ ما يخطِّط، وبعض الناس من بُعد آماله يخطط لما سيفعل بعد التقاعد، تجده أول سنة من التوظف ماذا يفعل بعد التقاعد، هذا كأنه غريب أو عابر سبيل؟ لا، يعني ما هي بافتراضات أو خيالات، موجود في واقع الناس.
(فكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك)، (خذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك).
أيام ما كنا في الشباب لنا زميل -رحمة الله عليه- رجل صالح يقول: يا إخوان أنتم الآن شباب في العشرين والثلاثين، فيكم قوة وهمة، ألم يحصل لأحدكم أن أصيب بصداع؟ كلنا يصيبنا صداع وأمراض خفيفة، قال: سيأتي يوم تكون حياتك كلها صداعًا، إذا كبرت وجسمك ضعيف ما تستطيع أن تزاول ما تزاوله الآن، الكبير الذي تقدمت به السن صار يشق عليه أدنى الأشياء، مثلك في حال الشباب إذا مرضت، تصور أنك حياتك كلها بمثل هذا المرض، ماذا يعني؟ يعني أنك تغانم وتسابق إلى الخيرات قبل أن تصل إلى هذه المرحلة، أخونا هذا توفي قبل ثلاثين سنة- رحمة الله عليه- في شبابه، ويرجى له خير كثير، لكن أنا عجبت من انتباهه من أن العمر إذا تقدم وكثرة السن، الكبير دائمًا عاصب رأسه، لماذا؟ فيه صداع. هذه حياته خلاص صارت الحياة كلها على هذا النمط، وإذا أكل شيئًا آلمه بطنه وإذا... كل الحياة تغيرت، فعلى الإنسان أن يغتنم عمره قبل أن يصل إلى هذا الحد.
(إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح) هل معناه أن الإنسان يجلس في زاوية في بيته ولا يعمل شيئًا بناءً على قصر الأمل؟ لا، أنت مأمور بالعمل، ومع ذلك لا تُطل الأمل الذي يجعلك تغفل عما خُلقت له.
يا غافلاً عما خُلقت له انتبه جد الرحيل ولست باليقظان
يقول ابن القيم: يا غافلاً عما خلقت له انتبه، كثير كأنه سكران، كثير من الناس لا يدري ماذا خُلق له، فتجده يتخبط يمينًا ينتظر من يطرق الباب عليه يطلع معه، ولذلك كثير من الناس لا يطيق الوحدة ولا الخلوة لوحده، ولو تعوَّد، لو عوَّد لسانه على ذكر الله، وعوَّد بدنه على بذل الخير ومساعدة الناس ما ضاقت به الدنيا إذا صار عنده مزيد وقت أو في حال الوحدة، كثير من الناس يصاب بالوحشة في حال الوحدة، ولو عوَّد نفسه على الأنس بالله -جل وعلا- والأنس بتلاوة كتابه ما أُصيب بهذه الوحشة.
(وعن خولة الأنصارية -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:...).
انتهى الوقت؟
طالب: .......
نعم التشميت ثلاثًا وإخبار العاطس بأنه مزكوم، والدعاء له ثابت.
معلوم كلٌّ على مذهبه فيما يدركه المسبوق هل هو أول صلاته أو آخر صلاته؟
خلاف بين أهل العلم والمذاهب معروفة في هذا، لكن المرجح أن ما يدركه المسبوق هو أول صلاته، فأول تكبيرة يكبرها يقرأ فيها الفاتحة، وفي الثانية يصلي على النبي -عليه الصلاة والسلام-، وفي الثالثة إذا سلم الإمام يدعو للميت بدعوات مناسبة ومختصرة قبل أن ترفع الجنازة.
هذا وارد يدل على أنه من فروض الأعيان.
أذكار الصباح بطلوع الفجر الغالب أنها بعد الصلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، وحينئذٍ يكون الأفضل بعد صلاة الصبح وقبل طلوع الشمس وبعد صلاة العصر وقبل غروبها.
ما شاء الله كتاب جديد!!!...
أنا قلت المتواتر: «من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار».