وقع نزاعٌ وشقاقٌ وخلافٌ قويٌّ بين الإمام البخاري رحمه الله، والإمام محمد بن يحيى الذُّهلي رحمه الله -وهو إمام من أئمَّة المسلمين- في مسألة «اللفظ»، والقصة ذكرها ابن حجر رحمه الله، فقال: «ذكر ما وقع بينه وبين الذُّهليِّ في مسألة اللَّفظ، وما حصل له من المحنةِ بسببِ ذلك، وبراءته مما نُسب إليه من ذلك...» [هدي الساري مقدمة فتح الباري (ص: 490)].
فكان مما ذكر أن الإمام البخاري لما قدم نيسابور ازدحم عليه الناس حتى امتلأت الدَّار والسُّطوح، فلما كان اليوم الثَّاني أو الثَّالث من يومِ قُدومه قام إليه رجلٌ فسَأله عن اللفظِ بالقرآنِ، فقال: أفعالُنا مخلوقةٌ، وألفاظُنا من أفعالِنا.
فوقع بين الناسِ اختلافٌ، وصار هذا مِفتاحَ شرٍّ، بسبب هذا الذي سأل هذا السُّؤال، ومثل هذا يفعله بعضُ الناس اليوم؛ إذا رأى الناس مُقبلين على شخصٍ أراد إسقاطه - على حدِّ اصطلاحهم -، فيسأله سؤالًا مثيرًا يبتغي الفتنة، ثم بعد تقع الفتنُ، وتثار التعصبات، ويحصل العداءُ والتحريشُ، وتزداد الأمورُ شرًّا، ويُفشي الطلاب - لا سيما جهَّالهم - مثلَ هذا الكلامِ ويذيعونه، ويفسرونه، فتزداد الشُّقَّة، مع أن الخلافَ يسير جدًّا.
فالله تعالى يقول: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]، وللإمام البخاريِّ مصنَّف في هذا: «خلق أفعال العباد»، لكن اللفظ مجمل؛ ولذلك لم يطلقه البخاريُّ ولا غيره؛ وإنما ألزموه ما لم يقل.
وقد أورد الذهبيُّ رحمه الله القصَّة بطولها ثم قال معقبًا:
«قلت: المسألة هي أن اللَّفظ مخلوقٌ، سُئل عنها البخاريُّ، فوَقف فيها، فلما وقَف واحتجَّ بأن أفعالَنا مخلوقةٌ، واستدلَّ لذلك، فهم منه الذهليُّ أنه يوجِّه مسألةَ اللَّفظ، فتكلَّم فيه، وأخذه بلازمِ قولِه هو وغيرُه» [سير أعلام النبلاء 12/457، 458].
فوضَحت المسألة، وأن الأمرَ كلَّه من الحسَّاد الذين أساءوا الفهم، وألزَموا البخاريَّ بلازمٍ لم يلتَزمه. وهو رحمه الله كلامُه حقٌّ، فأفعالُ العبادِ مخلوقةٌ، لكن الحسدَ، وإرادةَ التَّفريق بين العلماءِ موجودةٌ في كلِّ عصرٍ وفي كلِّ مِصْرٍ، وقد استغلَّها بعضُ المُغْرضين، وأرادوا أن يُفرِّقوا بين الإمامَين، ووجدوا مدخلًا، فاستغلُّوا هذه الفرصةَ، فحصَل ما حصَل.