((فوعظنا موعظةً بليغة وجِلت منها القلوب)) خافت؛ لكنْ قُلُوب من؟! قُلُوب الصَّحابة، ومن يُضَاهِيهم ويُحاكِيهم مِمَّن نوَّرَ اللهُ قَلْبَهُ {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال/2] ومن النَّاس مع قَسَاوة القلوب التِّي نعيشُها وإلى المُشتكى لا فرق بين أنْ يُوعَظ ويُذكَّر بالقرآن أو بصحيح السُّنَّة، وبين أنْ يُقرأ عليه قُصاصة من جريدة، أو يسمع خبر من الأخبار من وسيلة – لا فرق –،والنبي -ليه الصلاة والسلام-كما في الحديث المُختلف فيهِ، يقول -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام-: ((شيَّبتني هُود وأخواتُها)) وأتحدَّثُ عن نفسي أنَّني بدأتُ بسُورة يُونس فلم أشعُر إلاّ وأنا في يُوسف، فما الأثر الذِّي تركَتْهُ هُود في نفسي؟! وأَجْزِم أنَّ مثلي موجُود في طُلاَّب العلم... هل هذهِ هي القراءة التِّي تترتَّب عليها آثارُها، على الإنسان أنْ يُعيد حساباتِهِ، حَاسِب نفسك، زُرَارَةُ بن أوفى سَمِعَ الإمام وهو يقول: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} [المُدَّثِّر/8] قالوا خرَّ مغْشِيًّا عليهِ فمات! وبعض النَّاس يُنْكِر مثل هذا القول، ومِمَّن يُنْكِرُهُ من المُتقدِّمين ابن سيرين، يقول لا يُمكن أنْ يُغمى على الإنسان أو يُغشى عليهِ ويُصاب بالغشِي؛ لأنَّهُ يسمع القرآن،والرسُول -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- وصحابتُهُ الكِرام سَمِعُوا وما حصل لهم شيء من هذا، واختبرُوا من يَدَّعِي ذلك فاجْعَلُوهُ على جِدار واقرؤُوا القُرآن إنْ سَقَط من الجِدَار فهو صادق، وجمْعٌ من أهل التَّحقيق ومنهم شيخ الإسلام يرى أنَّهُ لا مانع من وُقُوعِ هذا من بعض النَّاس، لا شكَّ أنَّ القرآن ثقيل، وأَثَرُهُ في القُلُوبِ بالغ؛ لكنَّ القُلُوب تَتَفَاوتْ، منها القلب القويّ كَقَلْبِهِ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام- وقُلُوب صَحابَتِهِ الكِرام هؤُلاءِ يَتَقَبَّلُونَ هذا الكلام القويّ، هذا الكلام الثَّقيل بِقُلُوبٍ قَويَّة فَيَتَحَمَّلُون، يَتَأثَّرُون تأثُّراً بالِغاً؛ لكنَّهُم يَتَحَمَّلُون، منْ جَاءَ بعدهُم اسْتَشْعَرُوا هذهِ العَظَمَة، وهذا الثِّقَلْ لِكَلامِ الله -جلَّ وعلا-؛ لكنْ قُلُوب بعض الصَّحابة ضَعُفَتْ فَصَارُوا لا يَتَحَمَّلُون مثل هذا الكلام الثَّقِيل، وهُم يَسْتَشْعِرُون عَظَمَة ما يَسْمَعُون فَيَحْصُل لهُم ما يَحْصُل؛ ثُمَّ طالَ بالنَّاس الزَّمان معَ ضَعْفِ القُلُوب – ما نقُول قَوِيَت القُلُوب – القلوب ضعيفة؛ لكنْ اسْتِشْعَار عَظَمة القُرآن خَفَّتْ في قُلُوب المُسلمين، اسْتِشْعَار العَظَمَة خَفَّتْ؛ لذا لا يَتَأثَّرُون؛ لكن ما الدَّليل على أنَّ قُلُوبَهُم ضعيفة، لو حَصَل للإنْسَانْ منهم أدْنَى مُشكِلة تَغَيَّرَتْ حِسَابَاتُهُ، وكادَ أنْ يُجَنّ بِسَبَبِها، وقد يُصَاب بالإغْمَاء بالغُشِيّ كما حصل في بعض الكَوَارِثْ التِّجاريَّة أو المصائب التِّي تحصُل لبعض النَّاس... هل هذا هو القلب القوي الذِّي تأثَّر بِأُمُور دُنْيَاهُ؟! هذا ليسَ بِقلْبٍ قويّ؛ لكنْ كونُهُ لا يَتَأثَّر بالقُرآن مع عَظَمَتِهِ وقُوَّتِهِ وثِقَلِهِ؛ لأنَّهُ لا يستشعرها، لا يَسْتَشْعِر هذهِ العَظَمَة؛ فالصَّحابة يَتَأَثَّرُونْ، ومنْ يَسْتَشْعِر عَظَمة هذا القُرآن يَتَأَثَّرُونْ.
((فوعظنا موعظةً بليغة وجِلت منها القلوب وذّرَفَتْ منها العُيُونْ)) والحديث كما قَرَّرْنا ضعيف للانقِطاع؛ لكنْ ألفَاظُهُ صحيحة جاءَتْ منْ طُرق صحيحة لِئَلا يقول قائل كما قال واحد بالأمس أنَّك تُقرِّر الحديث أنه ضعيف وتشرَحُهُ! والضَّعيف ما دام ما يُحتجّ بِهِ... لماذا يُشْرَحْ؟! أقول: يُشرح إذا كان لهُ ما يُشْهَدُ لهُ، ولَهُ أصل يَدُلُّ على أنَّهُ ثابت عن النبي -عليه الصَّلاة والسلام-.
((وذّرَفَتْ منها العُيُونْ)) ذَرَفت الدُّمُوع من العُيُونْ، ((فقيل يا رسُول الله: وَعَظْتَنا موعِظة مُوَدِّع))، يعني كَأنَّنا لنْ نَرَاكَ بعد اليوم ((فَاعْهَد إلينا بِعَهْدٍ)) – وفي بعض الألفاظ: ((فَأَوْصِنا)) – ((فاعهد إلينا بعهد نَأْثُرُهُ بعدك ونَعْمَل بِهِ من بعدك، فقال: عليكم بتقوى الله))، وهي وصِيَّةُ الله للأوَّلِينَ والآخِرين وما منْ نبيٍّ إلاَّ أنْ يأمُرُ قَوْمَهُ بتقوى الله -جلَّ وعلا-، وقد أُمِرَ النَّاسُ قَاطِبَةً بها وحُثُّوا عليها، وجاءَ قولُ الله -جلَّ وعلا-: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التَّحريم/6].