أثابكم الله.. هذا سؤال من أحد الأخوة الحضور يسأل عن حُدُود الوَسَطِيَّة ومفهُومها، يقول: لأنَّ من النَّاس منْ يَذُمّ التَّمييع والتَّساهُل ويهرب طالباً الوسطيَّة وإذا هو يسقط مع الجانب الآخر وهو جانب التَّنطُّع والغلو والتَّشدُّد، ومنهم بالعكس من يَذُمّ التَّنطُّع والغلو ويهرب طالباً الوسطيَّة ثُم يسقط مع جانب التَّسهيل والتَّيسير على ما يذكُر... فما حُدُود الوسطيَّة ومَفْهُومُها؟
الوَسَطِيَّة هي سِمَةُ هذا الدِّينْ، وهي سِمَةُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعة، فالدِّين وسط بين الأدْيَان، وأهلُ السُّنَّة والجماعة وسط بين المَذَاهب، وشيخ الإسلام -رحمهُ الله تعالى- أَبْدَعَ في تقرير مذهب أهلِ السُّنَّة والجماعة في الواسِطِيَّة حينما شرح طرفي النَّقيض في كل مسألةٍ من مسائل الاعتقاد ثُمَّ قال وأهل السُّنَّة وسطٌ في ذلك في باب كذا بين كذا وكذا إلى آخرهِ، فالوسط هو أنْ تَتَّقِيَ الله -جلَّ وعلا- وتَسْأَلَهُ الإعانة والتَّوفِيق والتَّسديد، وأنْ تعمل الواجِبَات وتترُك المُحرَّمات، إذا أُمِرْتَ بشيء فَبَادِر إلى العملِ بِهِ، وإذا نُهيتَ عن شيء فبَادِر إلى الامْتِناع عنهُ ((إذا أمرتُكُم بشيءٍ فأتُوا منهُ ما استطعتُم، وإذا نهيتُكُم عن شيءٍ فاجْتَنِبُوه))، ((إنَّ الدِّين يُسْر ولنْ يُشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلاَّ غَلَبهُ))، ((يَسِّرَا ولا تُعَسِّرَا، بَشِّرَا ولا تُنَفِّرَا))، المَقْصُود أنَّ دين الله وسط بين الغالي والجافي، لا شكَّ أنَّ التَّكاليف تكاليف وهي إِلْزَامٌ فيهِ كُلْفَة على النَّفْسْ، الواجِبَات فيها كُلْفَة على النَّفْسْ ، تارك المُحرَّمات ورَغَبَات النُّفُوس فيها كُلْفَة على النَّفْسْ، لا يعني أنَّ الدِّين وسَط، وأنَّهُ يُسر، بأنَّنا نَتَفَلَّتْ من الواجِبَاتْ، ونَرتكبُ المُحرَّمات والدِّين يُسْر – لا يا أخي – اللهُ -جلَّ وعلا- الذِّي قال: إنَّ رَحْمَتَهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء، هُو شَدِيدُ العِقَابِ أَيْضاً؛ فَأَنْتَ مَأْمُورٌ ومَنْهِي، فَعَلَيْكَ أَنْ تَأْتَمِر بقَدْر طاقتك واستِطاعَتِك {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة/286]، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطَّلاق/7]؛ لكنْ أيضاً عليك أنْ تنتهي، فالجنَّةُ حُفَّت بالمكاره؛ لأنَّ بعض النَّاس يستغلّ مثل هذهِ النُّصُوص على التَّنَصُّلْ من الدِّين بالكُلِّيَّة، وهذا مَسْلَكٌ سَلَكَهُ بعض المُبْتَدِعة إلى أنْ وَصِلُوا إلى حدٍّ تَوََلَّغَوا فيهِ، خَرَجُوا من الدِّين بالكُلِّيَّة، فالدِّين مجموعة وعبارة عن أوامِر ونَواهي، والجنَّةُ حُفَّت بالمكاره، فأنت اسْتَفْتِ قلبك إذا عُرِضَ عليك أمر؛ فإنْ كُنتَ من أهلِ النَّظر والاسْتِدْلال وعندَكَ من الدَّليل ما يَدْعُوكَ إلى الإقْدَام عليهِ فَأَقْدِمْ، وما يدْعُوك إلى الإحْجَامِ عنهُ فَأَحْجِمْ، إذا لمْ تَكُنْ من أهلِ النَّظر فَفَرْضُكَ التَّقليد وسُؤال أهل العلم، فاسأل من تَبْرَأ الذِّمَّة بِتَقْلِيدِهِ، اسأل أهل العلم، اسأل الدِّين، اسأل الوَرَع..
ولَيْسَ في فَتْواهُ مُفْتٍ مُتَّبَع
|
|
مَا لمْ يُضِفْ للعِلْمِ والدِّينِ الوَرَعْ |
فالمَسْألة دَائِرةٌ بين أمرين، والنَّاس اثنان، أحدُهما صاحبُ علمٍ ونَظَر مثل هذا فَرْضُهُ النَّظر ينظُر في النُّصُوص على أنَّها دِينْ، لا على أنَّها إتِّباع شَهَواتْ؛ بل بعض النَّاس ينظُر في المذاهب لا يَنْظُر في النُّصُوص، يقول النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام-: ((ما خُيِّرَ بينَ أَمْرَيْنْ إلاَّ اختَار أيْسَرَهُما)) أبُو حنيفة يقول كذا ومالك يقول كذا، إذاً أبو حنيفة أَسْهَل أو مالك أسهل؟! مالك إمامٌ مُعْتَبَر، مالك نجمُ السُّنَنْ، أبُو حنيفة الإمام الأعظم، كُلُّهُم أَئِمَّة، وكُلُّهُم على العَيْن والرَّأْس؛ لكنْ وش معنى هذا؟! هذا أنَّك تَتْبَع هواك ما تَتْبَع الدِّينْ، انْظُر في أَدِلَّةِ هؤُلاء وهَؤُلاء، ثُمَّ إذا تَرَجَّحَ عِندك فَاعْمَل بِما تَدِينُ الله بِهِ، واتْرُك عنكَ بُنَيَّاتِ الطَّريق ولو كَثُرَ الكلام، ولو كَثُرتْ الدندنة، ولو كَثُر من يَخْرُج في القنوات ويُقلِّلْ من شَأْنِ الدِّينْ والمُتَدَيِّنِينْ، ويُريد أنْ يُخرِج النَّاس مِنْ أَدْيَانِهِمْ بِالفَتَاوى المَائِعَة التِّي لا تَعْتَمِد لا على عَقِل ولا على نَقِلْ؛ فعلى الإنسان إنْ كانَ من أهلِ النَّظر أنْ يَعْمَل بما يَدِينُ الله بِهِ منْ خِلال الدليل الصَّحيح، وإنْ لَمْ يَكُنْ منْ أهلِ النَّظر، فَعَلَيْهِ أنْ يُقلِّد مَنْ تَبْرَأُ الذِّمَّة بِتَقْلِيدِهِ، واللهُ المُستعان.