الطَّاعةُ بِالمَعْرُوفْ، وعلى الوَلَد أنْ يَبَرَّ بِوَالِدَيْهِ، وعليه أنْ يَنْظُر فِي مَصَالِحِهِمَا، وألَّا يُقَدِّم عليهما أحدًا؛ لِأَنَّ الغِيرة إنَّما تَأْتِي للوالدين الذين تَعِبَا على الولد، ثُمَّ بعد ذلك في يَوْمٍ وليلة يَنْقَلِب خَيره كُلّه لِأَهْلِهِ! ويُفْهَم من حديث: ((خَيْرُكُم خَيْرُكم لِأَهْلِهِ)) أَنَّهُ لَا بُدَّ أنْ يَكُون الخَير كُلُّه لِأَهلِهِ، ويَتْرُك من عَدَاهم مِن الأَهْل، وهَذا الكلام ليس بصحيح، الوالد والد، والوالدة والدة، ولهُمَا من الحُقُوق ما جاءت النُّصُوص القطعِيَّة التِّي لا تَحْتمل التَّأويل بِوُجُوبِ بِرِّهِمَا والنَّظر في مَصَالِحِهِمَا، إذا كان الجِهَاد مَوْقٌوف على رِضَاهُما ((أحيٌّ والداك؟ قال: نعم، قال: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ)) وهذا هو الجِهَاد فكيف بغيره؟! ومع الأسف أنَّهُ يُوجد من طُلَّاب العِلْم من أَغْفَلَ هذا الجَانِبْ، يكون لهذا الطَّالب مَجْمُوعة من الشَّباب يَرْتَبِط معهم، وهم شباب فيهم خير يَحْضُرُون الدُّرُوس، وبقاؤُهم في المساجد كثير، في المكتبات وغيرها؛ لكنْ من السَّهْل جِدًّا أنْ يَأْتِي الزَّمِيلْ ويَضْرِب مُنَبِّه السِّيَّارة عند الباب، فَمُبَاشرة يَخْرُج الولد! ويَذْهَب مع زَمِيلِهِ مِنْ صَلاة العَصر إِلى مُنْتَصَف اللَّيْل، وهذا أبْرَد على قَلْبِهِ من المَاء البَارِد في الصِّيفْ؛ لَكِنْ بِالإِمْكَان أنْ تقول لَهُ أُمُّهُ: نُريد أنْ نَزُور خَالَتُك فُلَانة، أو أُخْتُكَ فُلَانة في الحَيّ نفسه ثُمَّ يَتَثَاقَل! هذا خلل! وش مَعنى إنَّك تُجيب زَمِيلك وترتاح إليهِ وتسهر معهُ، وقد تقضي حَوَائِجُهُ؛ وأُمُّكَ أقْرَب النَّاسْ إليك، وأَحَقُّ النَّاس وحَقُّها أوْجَبْ الواجِبات عليك؛ ثُمَّ بعد ذلك يَصْعُبُ عليك! وذَكَرُوا فِي تَرْجَمَةِ شخص أنَّهُ حَجَّ مِرَارًا، حجَّ ثَلَاث مَرَّات أو أرْبَع مِنْ بَغْدَاد حَافِيًا مَاشِيًا ثَلَاث مَرَّات يَحُجُّ مِنْ بغداد مَاشِي! لمَّا قَدِم إلى الحَجَّة الثَّالثَة دَخَل البَيت، فإذا بالأُم نَائِمَة، فاضْطَجَعَ بِجَانِبِها انْتَبَهَت فَإِذا بِهِ مَوْجُود قالت: يا وَلَدِي أَعْطِنِي مَاء، القِرْبَة مُعَلَّقة أمتار، يقول: أنا مُتْعَبْ، وكَأَنِّي مَا سَمِعْتْ الكَلَام! كَأَنِّي نَائِم، سَكَتَتْ، ثُمَّ بعد ذلك أَعَادَتْ، يا وَلَدِي أَعْطِنِي مَاءً، ومِثل، تَرَكَهَا فِي المَرَّة الثَّالِثَة رَاجَع نَفْسَهُ؛ أَذْهَبْ آلَافْ الأَمْيَال مَاشِياً والأُمْ تَطْلُب مِنْ أَمْتَار المَاء؟! يعني هل هذا يدُلُّ على صِدْقٍ في النِّيَّة؟ وإخْلَاصٍ لله -جلَّ وعَلَا- في هذا الحَجّ ؟! ما الذِّي يَظْهَر من هذا الصَّنِيع؟! الذِّي يَظْهر أنَّهُ ما حَجَّ لله! لِأَنَّ المَسْأَلة هذا أَوْجَب، يعني حَج نَافِلَة، يَحُجُّ مَاشِياً آلَافْ الأَمْيَال، أَوْ بِضْعَة أَمْتَار لِإِجَابَة أَمْر واجِب؛ فَلَمَّا أَصْبَح ذَهَبَ وسَأَلْ، لَوْ سَأَلَ فَقِيه وقال: أَنَا حَجَجْت وتَوَافَرَت الشُّرُوط والأَرْكَان والوَاجِبَات ومَا فَعَلْتْ مَحْظُور ولا تَرَكْتْ مَأْمُور! قال: حَجُّكَ صَحِيح ومُسْقِط للطَّلَبْ، ومُجْزِئْ، والفَتْوَى على هذا، ما فِيه إِشْكَال ما يُؤْمَر بِإِعَادَتِهِ؛ لَكِنَّهُ ذَهَبَ إِلى شَخْص نَظَرُهُ إلى أَعْمَال القُلُوب أَكْثَر من نَظَره إلى أعمَال الأَبْدَان، فقال لَهُ أَعِدْ حَجَّة الإِسْلَام؛ لِأَنَّ حَجُّكَ لَيس لله! لو كان لله ما تَرَدَّدْت في قَبُول المَاء؛ لكنْ لَا شَكَّ أنَّ مثل هذا لا يُمْكِن أنْ يُفْتَى بِهِ؛ لَكنْ يُذْكَر هذا مثال على ما يَقَعْ مِنْ بَعْضِ الشَّبَاب المُلْتَزمين المُنْتَسِبين إلى طَلَبِ العِلم، فَيَسْهُلُ عليهِ أنْ يَطْلب منهُ زَمِيله أنْ يَخْرُج معهُ فِي رِحْلَة لِمُدَّة أُسْبُوع؛ لكنْ لَو قالت لَهُ أُمُّهُ: نَزُور فُلَانة أو عَلَّانة أُخْتِي أو خَالَتِي أو عَمَّتِي أو ما أَشْبَه ذلك صَعُبَ عليه، فعلينا أنْ نُعِيد النَّظر في تَصَرُّفَاتِنا، وأنْ يَكُون هَوَانَا تَبَعاً لما جاء به النَّبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام-.