نعم كتب الأصول فيها شيء من المنطق، وبعضهم جعل مقدمة الكتاب فيما يُحتاج إليه في علم الأصول من المنطق، كالغزالي وابن قدامة وجمع من أهل العلم، ويبقى أن كثيرًا من الناس يقرأ هذه المقدمة ويقرأ ما في ثنايا الكتاب فلا يستفيد كثيرًا، ولذا جاءت دعوات المخلصين إلى تخليص علم الأصول مما دخله من علم المنطق والكلام، وهذه دعوة لا شك أنها نابعة من غيرة على هذا العلم العظيم، ويريد أصحابها أن يردُّوا الناس إلى مثل: (رسالة الشافعي) وما أُلِّف في الصدر الأول، لكن الإشكال يبقى أن المسائل الأصولية حلقات يربط بعضها بعضًا، فإذا أَسقطتَ هذه المسألة؛ لأنها مبنيَّة على قاعدة أصولية، فما بعدها مرتبط بها، وهناك تجارب لدارسة الأصول على طريقة أهل السنة والجماعة، وهي دراسات نافعة، وفيها خير، لكن يبقى أن هناك حلقات مرتَّبًا بعضها على بعض، إذا أُسقط حلقة من هذه الحلقات قد يُعوِز فهم ما يليه.
ونظير ذلك دعوات بعض الغيورين إلى تنقية كتب السيَر، لا سيما سيرة النبي -عليه الصلاة والسلام-، من الأخبار الضعيفة، وأن يُقتصر على ما صحَّ من ذلك، لكن أحيانًا الخبر يحتاج إلى رابط مع الخبر الذي قبله، ولا يمكن أن تربطه إلا بواسطة هذا الخبر الذي فيه كلام لأهل العلم، فيَفقد الخبرُ هذا الرابط، فيذهب رونق الكلام وتسلسله، فتبقى هذه الكتب على أصلها، ويُعلَّق على ما فيها من مخالفات.
وهذا يجرُّنا إلى الحديث عن الكتب التي فيها مخالفات من كتب التفسير وكتب شروح الحديث التي طلاب العلم بأمسِّ الحاجة إليها، فبعضهم ينبري إلى تفسير أو إلى شرح حديث فيستخرج المخالفات من هذا الكتاب، فيأتي إلى (تفسير القرطبي) ويُصنِّف مجلدًا في المخالفات التي فيه، وطالب العلم إذا رأى مجلدًا كله مخالفات قال: (ما لنا حاجة في هذا الكتاب)، ولا يعلم أن نفع هذا الكتاب عظيم بالنسبة لطلاب العلم، نعم يُعلَّق على هذه المخالفات في مواطنها، أما أن يأتي إلى (فتح الباري) ويُجرِّد هذه المخالفات في مجلد، فيزهِّد طلاب العلم فيه، فهذا ليس بمنهج، إلَّا إذا كان الضرر بالغًا، ويُخشَى على المتعلمين منه، فلا يكفي التعليق عليه، فأنا ما عندي إشكال أن تُجرَّد مخالفات الزمخشري في تفسيره، أو مخالفات الرازي في تفسيره؛ لأن الأمة لن تفقد شيئًا إذا هجره طلاب العلم، لكن إذا هجروا (فتح الباري)، وهجروا (شرح النووي)، وهجروا (تفسير القرطبي)...، فماذا يبقى لنا؟ لكن مثل هذه الكتب التي عمَّ نفعها وكَثُر، وفيها مسائل وفوائد لا توجد في غيرها، ولا يمكن أن يستغني عنها طالب علم، فهذه يُكتفى بالتعليق عليها في مواطنها، وتبرأ الذمة بهذا.
وكثير من طلاب العلم يقولون: (في مكتباتنا كتب بدع، لكننا نحتاج إليها للتوثيق -مثلًا-، فهل الأفضل أن نتخلَّص من هذه الكتب ونحرقها، أو نجعلها في زاوية من قسمٍ في المكتبة، ونقول: هذه كتب لا يطَّلع عليها إلا المتمكِّن، كما يُفعل في المكتبات المركزية في الجامعات وغيرها، يجعلون قسمًا محدود الاطلاع؟)، فهذا نافع، لكن يبقى أنه إذا بيعت هذه المكتبة وهي لشخصٍ فلا بد أن يضع ختمًا فيه: (هذا الكتاب مشتمل على شيء من البدعة، يحذره طالب العلم المبتدئ والمتوسِّط)، أما الذي لا يُخشَى عليه؛ لأنه منتهٍ، ويعرف هذه البدع، ويحتاج إلى قراءة مثل هذا الكتاب؛ ليَرُد عليه، فهذا ما يحسن أن يقال: (يُتخلَّص من هذا الكتاب)، وقد كان الناس يحرقون الكتب التي فيها شيء من البدع، والآن الإحراق ليس بعلاج، فقد يوجد في البلد نسخة أو نسختان أو عشر نسخ، فيمكن أن يُحرَق الكتاب، ويُفرَغ منه، ويُنتهى من ضرره، لكن الآن ماذا تحرق؟ وماذا تُبقي؟ فيبقى هذا الكتاب، ويُختم عليه بختمٍ أن: (هذا كتاب لا يناسب المبتدئين ولا المتوسِّطين، وإنما يناسب المنتهين الذين يريدون نقض هذه المعلومات المبتدعَة، وهذه القواعد المضلِّلة)، وحينئذٍ تبرأ الذمة.