الشوكاني صارت عنده ردَّة فعل بسبب كثرة دعاوى الإجماع المنقوضة من قِبَل بعض مَن نَقَل الإجماع، فالمنذري ينقل الإجماع، وابن قدامة ينقل الإجماع، وابن عبد البر ينقل الإجماع، والنووي ينقل الإجماع، وابن القطان ينقل الإجماع، وغيرهم، لكن هذه الإجماعات كثير منها منقوض؛ لوجود المُخالِف، وقد يَنقض الإجماع مَن نقله أحيانًا، فالشوكاني صارت عنده ردَّة فعل من هذا التسرُّع، أو هذا التساهل في نقل الإجماع، حتى قال: إن هذه التصرُّفات تجعل طالب العلم لا يهاب الإجماع.
على كل حال الإجماع إذا ثبت فهو حجَّة قاطعة؛ لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة، لكن إثباته بعد عصر الصحابة -رضي الله عنهم-، وبعد تفرُّق الناس في الأمصار والأقطار، دونه -كما يقول أهل العلم- خَرْط القَتَاد. وقد ينفي العالِم علمَه بالمُخالِف، وهذا سهل، فيقول: (لا أعلم مخالفًا)، (لا أعلم قائلًا)، يقوله على حسب علمه، وهذا مناسب جدًّا، أما أن يَنقل الإجماع في مسائل قد يكون الخلاف فيها مشهورًا! ولا يقال: إن هذا من التساهل، وإنما هو على حدِّ علمه، ولا يُظَن بعالِم من العلماء أنه يُحيط إحاطة تامة بجميع أقوال فقهاء الأمصار أبدًا، فالإمام الشافعي -رحمه الله- يقول: (لا أعلم أحدًا أوجب الزكاة فيما دون الثلاثين من البقر)، والخلاف معروف في العَشر! والإمام مالك -رحمه الله تعالى- يقول: (لا أعلم قائلًا بعدم ردِّ اليمين على المُدَّعي)، والقول به مشهور عند ابن شبرمة، وابن أبي ليلى، وهما من قضاة عصره! فليس في هذا منقصة، لكن على حدِّ علمه. ولا يُظنُّ بعالمٍ مهما بلغ من سعة الاطِّلاع والحفظ والإتقان أنه يُحيط بالعلم كله أبدًا، ولا بد أن يقع من الإنسان ما يقع؛ لأنه بشر، وما سُمِّي إنسانًا إلا لأنه يَنسى، وأيضًا مهما بلغ من الإحاطة والاطِّلاع فلن يخرج عن قوله -جل وعلا-: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85].
فيُظنُّ بأهل العلم الخير والتحرِّي والدقَّة والتثبُّت، لكن يفوتهم ما يفوتهم.