هؤلاء الذين يتهاونون في الصلاة، هذا التهاون يتفاوت من التهاوُن بفعلها وتركها، أو التهاون بفعلها مع الجماعة، أو التهاون بفعلها مع جماعة المسلمين في المسجد.
أولًا: صلاة الجماعة واجبة كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة، كحديث ابن أم مكتوم –رضي الله عنه- وفيه: «هل تسمع النداء بالصلاة؟» قال: نعم، قال: «فأجب» [مسلم: 653] «لا أجد لك رخصة» [أبو داود: 552]، وحديث الهَمّ بالتحريق؛ حيث همَّ النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يحرق على الذين يتخلفون عن الصلاة بيوتَهم [البخاري: 644]، هذا نوع من التهاون، ومن تَهاون بصلاة الجماعة فهو آثم.
وهناك أيضا التهاون بفعل الصلاة، وهذا ينقسم إلى قسمين: التهاون بفعلها في وقتها، فمن يؤخرها عن وقتها إذا نام عنها أو نسيها بعد أن بذل الأسباب ونفى الموانع، فـ«من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك» [البخاري: 597 – ومسلم: 684]، هذا إذا كان بعذر، وبَذَل الأسباب فلا إشكال، لكن إذا أخرها عن وقتها متعمدًا بدون عذر وأخرج وقتها، ففيه الوعيد بالويل {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4-5]. ومن أهل العلم من يُشدِّد في هذه المسألة حتى إنه يحكم عليه بحكم تارك الصلاة ويقول: إنه لا يقضيها، فالأمر شديد؛ لأن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا، يعني: محددة الأوقات، فكما أنه لا يجوز فعلها قبل الوقت ولا تجزئ قبله، كذلك لا تجزئ بعده عند جمع من أهل العلم، بل نقل عليه ابن حزم الإجماع، مع أن المعروف عند جمهور أهل العلم أنها صحيحة ومجزئة ومسقطة للطلب، فهو يُطالب بقضائها، لكن عليه إثم عظيم، نسأل الله العافية، فتأخيرها عن وقتها عمدًا موبقة من الموبقات، نسأل الله السلامة والعافية، وفيه القول الشديد لأهل العلم أنه كالتارك.
وأما من يتهاون بها فيتركها بالكلية فهذا جاءت فيه النصوص الشديدة: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر» [الترمذي: 2621]، و «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» [مسلم: 82]، فهذا أمر عظيم، حتى ذكر بعض علماء المغرب في القرن السابع -وهذا من غرائب العلم- قال: إن الخلاف في حكم تارك الصلاة نظري ليس بحقيقي. لماذا؟ قال: لأنه لا يُتصور –افتراضي- مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويترك الصلاة، فتكون المسألة والخلاف فيها افتراضية، كما يُقال في الفرائض: هلك هالك عن ألف جَدة –افتراض فقط-، فَتَرْكُ الصلاة في تلك الأوقات أشبه ما يكون بالمسائل المفترضة؛ لاستبعاد ذلك، قد يوجد، لكنه نادر، بخلاف ما يوجد في العصور المتأخرة، حيث كثر بين المسلمين من يترك الصلاة بالكلية -نسأل الله السلامة والعافية-، وهذه هفوة وزلة عظيمة، وصاحبها على خطر عظيم؛ ففيه الأحاديث: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر»، هذا نوعٌ من التهاون وهو أشدها.
يقول السائل: (كثير من الناس يتهاونون في الصلاة)، والسؤال يشمل التهاون بترك الجماعة، والتهاون بتأخيرها عن وقتها، والتهاون بتركها بالكلية أحيانًا أو مطلقًا. هؤلاء الذين يتهاونون بالصلاة ويبرّرون لأنفسهم، ويستدلون على أن الإيمان مقره القلب، نعم النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: «التقوى هاهنا» ويشير إلى صدره [مسلم: 2564]، فالتقوى مقرها القلب، لكن ما الدليل على هذه التقوى؟
أولًا: ما حقيقة التقوى؟ حقيقة التقوى: فعل الأوامر واجتناب النواهي، فالذي يتهاون في الصلاة حقق التقوى أو لم يحققها؟ لم يحقق التقوى لا ظاهرًا ولا باطنًا، فكيف يقول: (التقوى هاهنا) وهو يرتكب المحرمات ويترك الواجبات، يشير إلى أي شيء في قلبه؟! ليس هناك تقوى ما دام لم يحقق حد التقوى الذي هو فعل الأوامر واجتناب النواهي، وكون الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: «التقوى هاهنا» صحيح؛ لأنه إمام المتقين -عليه الصلاة والسلام-، لكن يأتي شخص يرتكب المحرمات ويبارز بها ويترك الواجبات، ويقول: (التقوى هاهنا)! أين التقوى؟ أين حقيقة التقوى؟
وقوله: (يستدلون على أن الإيمان مقره القلب)، نعم مقره القلب، لكن كون الإنسان يَدَّعِي الإيمان بدون عمل لا بد أن يكون هناك دليلٌ وبرهان على صدق دعواه، فالإيمان ما وقر في القلوب وصدقه العمل.
يقول: (وأخطر من ذلك يقولون: هل أنت أحسن حالاً ومالاً وجمالاً وسعادة من الناس الذين لا يصلون؟)، يعني: ينظر إلى المظاهر وبهرج الدنيا، وكون الكفار سبقونا في كثير من ميادين الحياة وعرفوا ما لم نعرفه منها، والله -جل وعلا- يقول: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم: 7] ومع ذلك قال: {ظَاهِرًا} فقط، حتى حقيقة الدنيا ما يعلمونها، والذي يعلم حقيقة الدنيا هو الذي يحقق الهدف الذي من أجله خُلِقَ، وأن الدنيا هي مجرد مُعين على تحقيق الهدف، هذا الذي يعرف حقيقة الدنيا، أما الذي يجعل هدفه الدنيا هذا لا يعلم حقيقة الدنيا، وأنها ظِلٌ زائلٌ، ولو عرفوا حقيقة الدنيا لأسلموا، إنما يعرفون الظاهر، وأما الباطن فلا يعرفه إلا من يُحقق الهدف الذي من أجله خُلِقَ وهو تحقيق العبودية، أما بالنسبة للدنيا فليست هدفًا وليست مقرًّا، نعم جاء النهي عن النسيان، ويتضمن الأمر بطلب شيء من الدنيا يعينه على تحقيق الهدف {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]، نعم، من أجل أن تُحقق الهدف الذي من أجله خُلِقت، وليست الدنيا هدفًا، «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» وكان ابن عمر –راوي الحديث-، يقول: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء» [البخاري: 6416]، والدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة، و«لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء» [الترمذي: 2320]، فالذين يعرفون حقيقة الدنيا هم الذين يأخذون منها ما يُبلّغهم، ويحقق لهم الهدف، ويغنيهم عن التكفف وسؤال الناس.
هذا الذي نظر إلى هذا التطور الهائل والتقدم عند الكفار في الحياة المادية، هذا نظرته قاصرة، وفيها بُعْد عن نصوص الكتاب والسنة.
يقول: (ما فائدة الصلاة إن لم تحقق أهدافي في الحياة)، نقول: أولًا: ما أهدافك في الحياة؟ هل هدفك في الحياة تحقيق الهدف الذي من أجله خُلقت؟ إذا لم تحقق ذلك فانظر إلى صلاتك فهي تحقق من الأهداف الشرعية بقدر موافقتها للنبي -عليه الصلاة والسلام- كما يــقول: «صـــلوا كما رأيتموني أصلي» [البخاري: 631]، والله –جل وعلا- يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت: 45]، قد يقول قائل: نعم فلان يصلي لكن يرتكب المنكرات، نقول: الخلل في صلاته، ولو كانت صلاته على مراد الله ومراد رسوله -عليه الصلاة والسلام- على ضوء ما جاء عنه من قوله وفعله -عليه الصلاة والسلام- لنَهته عن الفحشاء والمنكر.
يقول: (ما فائدة صلاتي إن لم تحقق أهدافي في الحياة؟) نقول: انظر إلى هدفك، فإن كان الهدف الشرعي الذي من أجله خُلقت، فإنها إذا لم تحقق هذا الهدف فالخلل في الصلاة، وإن كان هدفك من الصلاة أهدافًا مادية تصلي من أجل كذا أو كذا، كما قال بعضهم:
صلّى المُصَلِّي لأمر كان يطلبه |
| فلمَّا انقضى الأمر لا صلّى ولا صامَا |
نسأل الله العافية والسلامة.
والجواب يحتاج إلى مزيد من التفصيل ولعله يُتاح فرصة أخرى نُفَصِّلُ القول فيه؛ لأن جميع العبادات لها أهداف كبرى، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، لكن متى؟ إذا أُدِّيت وأُقِيمت على ضوء ما جاء عن الله وعن رسوله –عليه الصلاة والسلام-، الصوم من أجل تحقيق التقوى، لكن أي صوم؟! وقل مثل ذلك في الحج {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203]، لا بد من تحقيق التقوى لتُصاحِب هذه العبادات، ويُراقَب الرب -جل وعلا- في هذه العبادات؛ لتترتب عليها آثارها.