التعليق على تفسير القرطبي - سورة الحديد (03)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى:
قوله تعالى:الآية: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}
قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ}، قال مقاتل: القحط وقلة النبات والثمار. وقيل: الجوائح في الزرع. {وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ} بالأوصاب والأسقام، قاله قتادة. وقيل: إقامة الحدود، قاله ابن حيان. وقيل: ضيق المعاش، وهذا معنى رواه ابن جريج. {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} يعني في اللوح المحفوظ."
{ما أصاب من مصيبة}؛ مصيبة نكرة بسياق النفي تعم جميع المصائب الكائنة والواقعة في الأرض من قحط وقلة نبات وارتفاعًا في الحرارة أو انخفاضًا فيها أو زلازل أو فياضنات أو ما أشبه ذلك، أو جوائح في الزروع أو حرائق، {وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ} يعنى في ذواتكم مباشرة بأوجاع وأسقام وأمراض وغير ذلك. وقيل إقامة الحدود. إقامة الحد هل هو مصيبة أو أن ارتكاب الحد هو المصيبة؟ إقامة الحد نعمة من نعم الله جل وعلا. نعمة من نعم الله جل وعلا إقامة الحدود. السبب الذي من أجله أقيم الحد هو ارتكاب الذنب هذا لا شك أنه في أول الأمر من المعايب، فإن تاب صاحبه انتقل إلى كونه مصيبة. وقيل ضيق المعاش إلى أخر ما قال. كلها داخل في المصيبة التي تعم أنواع المصائب كلها.
طالب: ابن حيان أو أبو حيان؟
لا، حيان، مقاتل بن حيان.
"{إِلاَّ فِي كِتَابٍ} يعني في اللوح المحفوظ. {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} الضمير في..."
يعنى قدرت وكتبت وسجلت في كتاب هو اللوح المحفوظ من قبل أن تبرأ الناس معه، ومن قبل أن تخلق النفس ومن قبل أن تخلق الأرض، توجد الأرض فالمقادير كتبت قبل الخلق بخمسين ألف سنة، ويرسل ملك إلى الجنين في بطن أمه ويكتب الكتابة الخاصة بهذا الجنين وإلا فالكتابة الآن مكتوبة قبل، ونبرأها؛ يعنى نخلقها، قبل أن تخلق هذه النفوس قدرت وسجلت وكتبت في الكتاب المحفوظ، في اللوح المحفوظ.
"{مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} الضمير في {نَبْرَأَهَا} عائد على النفوس أو الأرض أو المصائب أو الجميع. وقال ابن عباس: من قبل أن يخلق المصيبة. وقال سعيد بن جبير: من قبل أن يخلق الأرض والنفس."
التي تقع عليها المصيبة، والتعميم أولى.
"{إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير} أي خلق ذلك وحفظ جميعه {عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} هين."
لكن قالوا: نبرأها الضمير يعود على مفرد أو على مجموعة أشياء؟ {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} ضمير مفرد فهل يمكن أن يقال: من قبل أن نخلق الأرض أو نخلق النفوس أو نخلق المصيبة؟ لكن المصيبة من فعله جل وعلا، المصيبة التي قدرها على الإنسان من فعله بالإنسان. قد يكون الإنسان خلق فعلاً من أفعاله تسببت عنه هذه المصيبة، لكن يبقى أن إفراد الضمير في {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} الأولى عوده إلى أقرب مذكور وهي النفوس أو يعود إلى الجميع؟ وإذا عاد إلى الجميع، هل يصح أن يكون مفردًا كما هنا؟ هو ثلاث أشياء. جواب؟...
لكن مع التأكيد مثل ما عرف العلم نبرأها؟ يخلق هذه المخلوقات ولذلك تقول هذه المخلوقات، تشير إليها بالمفرد، {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} أن نبرأ هذه المخلوقات المتقدمة، فهي تشير إليها بالمفرد، هذه.
"قال الربيع بن صالح: لما أخذ سعيد بن جبير رضي الله عنه بكيت..."
أخذه الحجاج ليقتله.
"فقال: ما يبكيك؟ قلت: أبكي لما أرى بك ولما تذهب إليه. قال: فلا تبك فإنه كان في علم الله أن يكون، ألم تسمع قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ} الآية. وقال ابن عباس: لما خلق الله القلم قال له اكتب، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة."
وفي الحديث: «أول ما خلق الله القلم، قال له اكتب. أول ما خلق الله القلم قال له اكتب»، استدل بعضهم على أن أول المخلوقات القلم، لكن هذه الأولية ليست المطلقة إنما هي مقيدة بالأمر بالكتابة فالعرش قبله.
"ولقد ترك لهذه الآية جماعة من الفضلاء الدواء في أمراضهم فلم يستعملوه ثقة بربهم وتوكلا عليه، وقالوا قد علم الله أيام المرض وأيام الصحة، فلو حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا."
لكنه تعطيل للأسباب، فالذي قدر المقادير وكتبها هو الذي أمر بفعل الأسباب والنتائج هو ما في اللوح المحفوظ، خفي لا يدري عنه الإنسان، فهو يباشر السبب الذي تكون نتيجته مطابقة لما في اللوح المحفوظ، فإذا بذل العلاج لا يكون معارضًا لما كتبه الله جل وعلا لئلا يقع إلا ما قدره الله لكن مع ذلك الأسباب نافعة بإذن الله.
"قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}. وقد قيل: إن هذه الآية تتصل بما قبل، وهو أن الله سبحانه هون عليهم ما يصيبهم في الجهاد من قتل وجرح، وبين أن ما يخلفهم عن الجهاد من المحافظة على الأموال وما يقع فيها من خسران، فالكل مكتوب مقدر لا مدفع له، وإنما على المرء امتثال الأمر. ثم أدبهم فقال هذا: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} أي حتى لا تحزنوا على ما فاتكم من الرزق، وذلك أنهم إذا علموا أن الرزق قد فرغ منه لم يأسوا على ما فاتهم منه."
لكن مع بذل السبب. السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، فعلى الإنسان أن يبذل السبب فإذا لم تترتب آثاره عليه لا يأس على ذلك.
"وعن ابن مسعود أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجد أحدكم طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه» ثم قرأ {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} أي كي لا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا فإنه لم يقدر لكم ولو قدر لكم لم يفتكم {وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} أي من الدنيا، قاله ابن عباس. وقال سعيد بن جبير: من العافية والخصب. وروى عكرمة عن ابن عباس: ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبرا، وغنيمته شكرا. والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدى فيهما إلى ما لا يجوز، قال الله تعالى: { وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي متكبر بما أوتي..."
جاء النهي عن الفرح، (إن الله لا يحب الفرحين)، الفرح الذي يكون باعثًا على ترك العمل أما إذا فرح الإنسان بما قدر له من خير وشكر الله على ذلك، فرح لا يلهيه ولا يطغيه، توسط في أمره، توسط في فرحه، وتوسط في حزنه، لا يحمله الفرح على الأشر والبطر كما يفعل كثير من الناس في أوقات الأعياد والأعراس وغيرها، ولا يحمله الحزن على أن يتسخط وأن يقع فيما لا يرضي الله من الجزع. بل على المسلم أن يتوسط في أموره كلها، لا يخرج عن حدود ما أباح الله له في الحالين. ومن كثرة الضغوط النفسية على البشر صار ديدن الناس التحذير من الحزن. تجد الأطباء النفسيين وغيرهم يربطون العافية بعدم الحزن، والفرح يحثون عليه ويجعلونه من أنواع العلاج، وألف في ذلك كتبًا تلقفها الناس منها ما سمي بهذا الاسم: لا تحزن، ومنها دع القلق. كتب شهيرة طبقت الآفاق كل هذا من أجل ما يعيشه الناس من ضغوط نفسية للتخفيف عليهم وإلا فليس التأليف بلا تحزن بأولى من التأليف بلا تفرح، لكن الناس يستجيبون لهذه الضغوط ويظنون أن العلاج فيما يضاده، لا العلاج في التوسط في الأمور كلها. إذا جاء ما يستدعى الفرح يفرح لكن بحدود ولا يخرج عن مراد الله جل وعلا وإذا جاء ما يستدعي الزن يحرن، «إن القلب يحزن» كما قال النبي عليه الصلاة والسلام وحزن «وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزنون» إذا النهي عن الحزن بإطلاق هذا ليس بشرعي، لكن لا يكون عادة الإنسان دائمًا مقطب ومقفهر الوجه والآم تعتصر قلبه هذا ليس بشرعي، لكن إذا وجد ما يستدعيه وضبط بضوابط الشرع فلا مانع منه ومثله الفرح. تجد كثير من الناس لا يستطيع أن يتوسط في مثل هذه الظروف، إن فرح زاد في فرحه وخرج عن حدود الشرع، وإن حزن زاد في حزنه وخرج عن حدود. فلا يطلب هذا بإطلاق ولا هذا بإطلاق إنما يطلب التوسط في الأمور كلها.
"{ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي متكبر بما أوتي من الدنيا، فخور به على الناس. وقراءة العامة {آتَاكُمْ} بمد الألف أي أعطاكم من الدنيا. واختاره أبو حاتم. وقرأ أبو العالية ونصر بن عاصم وأبو عمرو {أتَاكُمْ} بقصر الألف واختاره أبو عبيد. أي جاءكم، وهو معادل لـ {فَاتكُمْ} ولهذا لم يقل أفاتكم."
والمعادل يعنى المقابل، شيء تحصل عليه وتعطى إياه، وشيء يفوتك فلا تعلق قلبك بهذا ولا بهذا. لا تفرح بما أعطيت ولا تأس ولا تحزن على ما فاتك إذ كل هذه أمور مقدرة، وذلك بعد أن تبذل الأسباب لحصول ما ينبغي تحصيله وفوات ما ينبغي فواته. فإذا بذلت السبب فإنك أديت ما عليك ولا تؤاخذ ولا تلام. قد يذاكر الإنسان المدة الكافية ويبذل أسباب النجاح فلا ينجح، هذا لا يأسى على ذلك لأنه بذل ما في وسعه والنتيجة بيد الله جل وعلا، وما فوق ذلك لا يكلف إياه، لكن الذي يندم هو الذي يفرط في الطلب والدفع فإذا فرط فيما ينبغي طلبه أو فرط في دفع ما ينبغي دفعه فإن هذا يلام ويؤاخذ على ذلك، والله المستعان.
"قال جعفر بن محمد الصادق: يا ابن آدم ما لك تأسى على مفقود لا يرده عليك الفوت، أو تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت. وقيل لبرز جمهر: أيها الحكيم! مالك لا تحزن على ما فات..."
هو أحد من الحكماء الفرس.
" مالك لا تحزن على ما فات ولا تفرح بما هو آت؟ قال: لأن الفائت لا يتلافى بالعبرة، والآتي لا يستدام بالحبرة."
نعم العقول السليمة تدل على هذا، ما الفائدة؟ إذا مات لك ابن أو أب أو أم ثم بكيت الليل النهار، هل يرجع؟ ما فيه فائدة، ومثل هذا إذا نزل بك مرض لو تبكي الليل والنهار ما ارتفع إلا للأسباب التي جعلت شفاء لمثل هذا المرض.
طالب:....
لا، لا يكون ما نبتت أشجار الهند إلا من بكاؤه، لا... يبكي الإنسان من خشية الله كما ذكر الأوزاعي وقد يبكي على المصيبة التي حلت به وبعدته من جوار ربه لكن إلى حد ما ذكروه لا، ذكر على الأوزاعي رحمه الله أنه من البكائين وله مصلى في بيته يكون مليئًا بالدموع إذا سجد حتى أن بعض أصحابه لما زاره تكلم على الخادم، كيف تترك الصبيان يلعبون مصلى الشيخ ويبولون فيه، فذكر الخادم هذا من دموع الشيخ. نعم البكاء من خشية الله من صفات أهل الخشية. والله المستعان.
"وقال الفضيل بن عياض في هذا المعنى: الدنيا مبيد ومفيد، فما أباد فلا رجعة له، وما أفاد آذن بالرحيل. وقيل: المختال الذي ينظر إلى نفسه بعين الافتخار، والفخور الذي ينظر إلى الناس بعين الاحتقار، وكلاهما شرك خفي. والفخور بمنزلة المصرات تشد أخلافها ليجتمع فيها اللبن، فيتوهم المشتري أن ذلك معتاد وليس كذلك."
لأنه يرتكب مما يدعيه من العقل والحشمة بحضرة الناس ما ليس من طبعه، فيظهر للناس بمظهر غير ما جبل عليه وما اعتاده فكأنه صار مثل المصرات، بمجرد غش الناس وخداعهم فيفتخر عليهم بهذا الذي هو في الحقيقة لا شيء.
"فكذلك الذي يرى من نفسه حالا وزينة وهو مع ذلك مدع فهو الفخور.
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} أي لا يحب المختالين {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} فـ {الَّذِينَ} في موضع خفض نعتا للمختال. وقيل: رفع بابتداء أي الذين يبخلون فالله غني عنهم. قيل: أراد رؤساء اليهود الذين يبخلون ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم التي في كتبهم، لئلا يؤمن به الناس فتذهب مأكلهم، قال السدي والكلبي. وقال سعيد بن جبير: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} يعني بالعلم {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} أي بألا يعلموا الناس شيئا."
فالبخل كما يكون بالمال يكون بالجاه، ويكون بالبدن عند الحاجة إليه فهو أعم من أن يكون بالمال، وكذلك الجود.
"وقال زيد بن أسلم: إنه البخل بأداء حق الله عز وجل. وقيل: إنه البخل بالصدقة والحقوق، قاله عامر بن عبد الله الأشعري. وقال طاوس: إنه البخل بما في يديه. وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعنى. وفرق أصحاب الخواطر بين البخل والسخاء بفرقين: أحدهما أن البخيل الذي يلتذ بالإمساك. والسخي الذي يلتذ بالإعطاء. الثاني: أن البخيل الذي يعطي عند السؤال، والسخي الذي يعطي بغير سؤال."
التفريق بين البخل والسخاء لا يحتاج إلى ذكر أصلاً. الذي يحتاج إلى ذكر التفريق بين الجود والسخاء مثلاً، الجود والكرم من هذه الدقائق التي تخفى على الناس. أما البخل والسخاء فريق بينهم، أحدهما أن البخيل الذي يلتذ بالإمساك، حتى بعض من وصف بالكرم يلتذ بالإمساك لكنه يخرج ما ينبغي إخراجه، لأن المال جبرت النفوس على حبه، والسخي الذي يلتذ بالعطاء. والفرق الثاني البخيل الذي يعطي عن السؤال، إذا أعطى ما صار بخيلا. والسخي الذي يعطي بغير سؤال، هذا قالوا: المنان الذي يعطي بغير سؤال. من المنة لا من المن ومع ذلك لا يلحق ولا يتبع ما أعطى منًا ولا أذى.
طالب: أصحاب الخواطر.
أصحاب الخواطر في الغالب تطلق على أنواع من العباد الذين عندهم شيء من التفكر، أو عندهم شيء من الاعتبار.
"{وَمَنْ يَتَوَلَّ} أي عن الإيمان {فَإِنَّ اللَّهَ} غني عنه. ويجوز أن يكون لما حث على الصدقة أعلمهم أن الذين يبخلون بها ويأمرون الناس بالبخل بها فإن الله غني عنهم. وقراءة العامة {بِالْبُخْلِ} بضم الباء وسكون الخاء. وقرأ أنس وعبيد بن عمير ويحيى بن يعمر ومجاهد وحميد وابن محيصن وحمزة والكسائي {بِالْبَخْل} بفتحتين وهي لغة الأنصار. وقرأ أبو العالية وابن السميقع..."
على زنة الكرم.
"وقرأ أبو العالية وابن السميقع {بالبَخلِ} بفتح الباء وإسكان الخاء. وعن نصر بن عاصم {بِالْبُخُلِ} بضمتين وكلها لغات مشهورة. وقد تقدم الفرق بين البخل والشح في آخر [آل عمران]."
البخل؛ هو الإمساك عن الإنفاق فيما أوجب الله جل وعلا الإنفاق فيه، لكنه لا يصاحبه حرص بينما الشح هو البخل المقرون بالحرص. تجده ممسكًا لما في يده حريص على اكتساب ما ليس عنده. وموجود في أوساط الناس من يحرص على الجمع ثم يمنع، هذا شحيح. يمنع ما أوجب الله عليه. ومن الناس تجد ما عنده الحرص على الجمع لكن إذا وقع الدرهم والدينار في يده أمسكه، هذا بخيل.
"وقرأ نافع وابن عامر" {فَإِنَّ اللَّهَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} بغير {هُوَ}. والباقون: {هُوَ الْغَنِيُّ} على أن يكون فصلا. ويجوز أن يكون مبتدأ و {الْغَنِيُّ} خبره والجملة خبر إن. ومن حذفها فالأحسن أن يكون فصلا، لأن حذف الفصل أسهل من حذف المبتدأ."
المبتدأ عمدة، لا يحذف بخلاف الفصل الذي من حيث المعنى يؤكد لكنه من حيث الإعراب لو حذف لا يؤثر في الجملة.
"قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} أي بالمعجزات البينة والشرائع الظاهرة. وقيل: الإخلاص لله تعالى في العبادة، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، بذلك دعت الرسل: نوح فمن دونه إلى محمد صلى الله عليه وسلم . {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ} أي الكتب..."
جنس الكتاب والمراد جميع الكتب.
"أي أوحينا إليهم خبر ما كان قبلهم {وَالْمِيزَانَ} قال ابن زيد: هو ما يوزن به ومتعامل {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} أي بالعدل في معاملاتهم."
ولا يتحقق العدل بين الناس في المعاملات إلا بالميزان. كيف يعرف صاحب الحق حقه إلا بالوزن والكيل لأن الجزاف لا يحقق العدل بدقة، وإن وجد من بعض الناس من يخلص قريبا من الواقع لكن يبقى أن عموم الناس لا يتحقق العدل فيهم إلا بهذا.
"وقوله: {بِالْقِسْطِ} يدل على أنه أراد الميزان المعروف. وقال قوم: أراد به العدل. قال القشيري: وإذا حملناه على الميزان المعروف، فالمعنى أنزلنا الكتاب ووضعنا الميزان فهو من باب: علفتها تبنا وماء باردا."
يعنى وسقيتها علفتها تبنا وسقيتها ماء باردا لأن الماء البارد لا يعلف كما أن الميزان لم ينزل من السماء نزول الكتاب.
"ويدل على هذا قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} ثم قال: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} وقد مضى القول فيه. {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} روى عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: الحديد والنار والماء والملح»..."
مخرج؟ متفرد برواية الديلمي...
"وروى عكرمة عن ابن عباس قال: ثلاثة أشياء نزلت مع آدم عليه السلام: الحجر الأسود وكان أشد بياضا من الثلج، وعصا موسى وكانت من آس الجنة، طولها عشرة أذرع مع طول موسى، والحديد أنزل معه ثلاثة أشياء: السندان والكلبتان والميقعة وهي المطرقة، ذكره الماوردي. وقال الثعلبي: قال ابن عباس نزل آدم..."
أما نزول الحجر الأسود وكان أشد بياضًا من الثلج هذا له ما يشهد له، وأورد بعضهم أنه ما دام سودته خطايا بني آدم، فلماذا لم تبيضه حسناتهم، لأن بني آدم لهم سيئات ولهم حسنات؟ أعظم السيئات الشرك وأعظم الحسنات التوحيد، لماذا لم يبيضه توحيد الموحدين؟ قالوا: إن الأبيض يتأثر بما يرد عليه من ألوان والأسود لا يتأثر بما يرد عليه من ألوان. ما دام سودته بني آدم انتقل من البياض إلى السواد والبياض سهل تأثره، لكن إذا انتقل من البياض إلى السواد، هل يمكن أن يصير الأسود أبيضا في يوم من الأيام؟ بذاته ينقلب؟ لو أتيت بورقة بيضاء وكتبت عليها بأي لون بان، لكن لو أتيت بورقة سوداء وكتبت عليها، وقد يكون الشيء له جرم، جئت بورقة سوداء وكتبت عليها بطامس أبيض أو ضربتها وجه بويا أبيض يمكن، لكن ليس تأثر الأسود بالألوان الأخرى مثل تأثير الأبيض لأن هذا إشكال أورده بعضهم وأجيب عنه بهذا وهذا ظاهر، هذا ظاهر أن الناس يعمدون إلى الثياب ذات الألوان الداكنة، الغامقة من أجل ألا تتأثر بالألوان الأخرى من الأوساخ، بينما الأبيض يتأثر. ومن غريب ما ذكر عن رجيع الذباب أنهم قالوا: يقع على الأبيض أسود وعلى الأسود أبيض، من الغرائب.
طالب:.......
لا، لكن انقلاب الأسود إلى غيره من الألوان صعب، شيء محسوس... هو وارد.
طالب:.....
إي، سودته خطايا بني آدم لكن لما أورد مثل هذا الإشكال أجيب عنه بهذا بأمر واضح ومحسوس. لا يلزم المطابقة من كل وجه لكن هذا مجرد دفع إشكال.
طالب:........
لكن هؤلاء الذين وحدوا الله جل وعلا بعد أن أشركوا، وورثوا من أشركوا وحلوا محلهم بالتوحيد على كل حال هو مجرد جواب عن إشكال.
" وقال الثعلبي: قال ابن عباس: نزل آدم من الجنة ومعه من الحديد خمسة أشياء من آلة الحدادين: السندان، والكلبتان، والميقعة، والمطرقة، والإبرة. وحكاه القشيري قال..."
وفي بعض التفاسير قالوا: والإزميل، يعنى آلات مستعملة وما زالت أسماؤها إذا كان الإزميل هو المستعمل الآن، لأن الميقعة وهي المطرقة استعمالها عند الناس غير هذا. الميقعة إناء من الأواني يستعملونها على أنها إناء.
"قال: والميقعة ما يحدد به، يقال وقعت الحديدة أقعها أي حددتها. وفي الصحاح: والميقعة الموضع الذي يألفه البازي فيقع عليه، وخشبة القصار التي يدق عليها، والمطرقة والمسن الطويل. وروي أن الحديد أنزل في يوم الثلاثاء. و{فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} أي لإهراق الدماء. ولذلك نهى عن الفصد والحجامة في يوم الثلاثاء، لأنه يوم جرى فيه الدم. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «في يوم الثلاثاء ساعة لا يرقأ فيها الدم». وقيل: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ}."
مخرج؟
طالب:......
ابن القيم رحمه الله ذكر بعض الأحاديث التي فيها كراهية الحجامة في بعض الأيام وبعض التواريخ، وعلى كل حال هي مضعفة عند أهل العلم وإن حاول بعضهم إثباتها.
"وقيل: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} أي أنشئناه وخلقناه، كقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} وهذا قول الحسن. فيكون من الأرض غير منزل من السماء. وقال أهل المعاني: أي أخرج الحديد من المعادن وعلمهم صنعته بوحيه، {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} يعني السلاح والكراع والجنة. وقيل: أي فيه من خشية القتل خوف شديد. {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} قال مجاهد: يعني جنة."
ولا شك أن الحديد مثار خوف وانزعاج لأنه قاتل إما بحده وإما بثقله.
"قال مجاهد: يعني جنة. وقيل: يعني انتفاع الناس بالماعون من الحديد، مثل السكين والفأس والإبرة ونحوه {وليعلم الله من ينصره} أي أنزل الحديد ليعلم من ينصره. وقيل: هو عطف على قوله تعالى: {ليقوم الناس بالقسط} أي أرسلنا رسلنا وأنزلنا معهم الكتاب، وهذه الأشياء، ليتعامل الناس بالحق، {وليعلم الله من ينصره} وليرى الله من ينصر دينه {و} ينصر {رسله بالغيب}. "
لأن الواو عاطف على مقدر، {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} يعني إنزال هذه الأشياء ليعلم الله من ينصره. والواو تعطف على مقدر، ولذلك قال: وهذه الأشياء ليتعامل الناس بالحق من أجل أن يتعامل الناس بها. الحديد وميزان وكتاب يتعامل الناس بها ويحكم عليهم بما في الكتاب ويتعامل الناس من خلال الموازين والحديد. قال: ليتعامل الناس بالحق وليعلم الله من ينصره؛ فلتقدير من أجل المعطوف، والمعطوف لابد أن يوجد معطوف عليه فيقدر.
"وليرى الله من ينصر دينه {و} ينصر {رسله بالغيب}. قال ابن عباس: ينصرونهم لا يكذبونهم، ويؤمنون بهم {بِالْغَيْبِ} أي وهم لا يرونهم. {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيز} {قَوِيٌّ} في أخذه {عَزِيزٌ} أي منيع غالب. وقد تقدم وقيل: {بِالْغَيْبِ} بالإخلاص."
يعنى إذا غاب عن أعين الناس وعبد الله جل وعلا وتعامل مع الخلق بالعدل، هذا دليل على إخلاصه. والإيمان بالغيب هو الإيمان المطلوب خلاف الإيمان بالشهادة. الشهادة لا يسمى إيمانا، ولذلك إذا طلعت الشمس من مغربها أو ظهر الدجال أو الدابة ما نفع نفسا إيمانها، خلاص الأمور مشاهدة، والإيمان النافع هو الإيمان ما دام غيبًا. أما إذا شوهد الناس كلها تسلم، والعبرة بما حصل وقت الغيب قبل أن يخرج إلى عالم الشهود وإذا خرج إلى عالم الشهود فإن الإيمان لا ينفع حينئذ.
طالب:........
إذا قلنا إن السماء جهة العلو ويمكن أن يكون الحديد من أعالي الجبال وسفوحها، يمكن حملها على حقيقتها.
"قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ} فصل ما أجمل من إرسال الرسل بالكتب، وأخبر أنه أرسل نوحا وإبراهيم وجعل النبوة في نسلهما {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} أي جعلنا بعض ذريتهما الأنبياء، وبعضهم أمما يتلون الكتب المنزلة من السماء: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. وقال ابن عباس: الكتاب الخط بالقلم {فَمِنْهُمْ} أي من ائتم بإبراهيم ونوح {مُهْتَدٍ} وقيل: {فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ} أي من ذريتهما مهتدون. {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} كافرون خارجون عن الطاعة. قوله تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا} فيه أربع مسائل: الأولى: قوله تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا} أي اتبعنا {عَلَى آثَارِهِمْ} أي على آثار الذرية. وقيل: على أثار نوح وإبراهيم {بِرُسُلِنَا} موسى وإلياس وداود وسليمان ويونس وغيرهم {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} فهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه {وَآتَيْنَاهُ الأِنْجِيلَ} وهو الكتاب المنزل عليه. وتقدم اشتقاقه في أول سورة [آل عمران]. الثانية: قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} على دينه يعني الحواريين وأتباعهم {رَأْفَةً وَرَحْمَةً} أي مودة فكان يواد بعضهم بعضا. وقيل: هذا إشارة إلى أنهم أمروا في الإنجيل بالصلح وترك إيذاء الناس وألان الله قلوبهم لذلك بخلاف اليهود..."
يعنى هذه صفة النصارى الذين يقتدون بالمسيح عليه السلام، ويحقون الاقتداء به ولو حصل عندهم ما حصل من تحريف لكن الذين نبذوه ونبذوا تعاليمه وخرجوا على تعاليمه، لا شك أن هذه ليست صفتهم، لأن الأصل في النصارى الذين هم يقتدون بالمسيح عليه السلام أصحاب رحمة ورأفة بخلاف الطوائف الأخرى من اليهود والمشركين وغيرهم، {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا}[المائدة:82]، المقصود أنهم اتبعوا عيسى فاكتسبوا منه هذه الصفة وأثر فيهم الاقتداء هذه الصفة المحمودة: الرأفة والرحمة. والرحمة والرأفة لها مجال كما أن الغلظة والشدة لها مجال، { جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}، فمن يستحق الرحمة والرأفة يعامل بها، ومن يستحق الغلظة والشدة والقتل يعامل به، فالإنسان يدور مع أوامر الله جل وعلا وينبغي أن تكون تصرفاته وعواطفه ومشاعره تبعًا لما جاء عن الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام.
طالب:......
على كل حال الأصل في النصارى أن هذا وصفهم، هذا وصفهم لأن وصف المسيح عليه السلام هذا وصفه، وأثر فيهم فمن تبعه تأثر، ومن نبذ تعاليمه وخرج على شريعته انتهى تأثره.
"بخلاف اليهود الذين قست قلوبهم وحرفوا الكلم عن مواضعه. والرأفة اللين، والرحمة الشفقة..."
يعنى الإنسان يجبل على بعض الصفات التي هي محمودة في بعض الأوقات لكنها في أوقات أخرى مذمومة. لو أن إنسانًا جبل على الشدة، هذه الشدة تكون محمودة في أوقات جهاد، في أوقات تطلب فيها الشدة لكنها مذمومة في سائر الأوقات والعكس. إنسان مجبول على اللين والرفق هذا في الجهاد يكون أثره ما هو مثل أثر ثاني ولذلك جبل المسيح على الرأفة والرفق واللين وجبل موسى عليه السلام على شيء من الشدة، وهذه في موضعها محمدان، وتلك في موضعها محمدان، وظرف موسى عليه السلام يختلف عن ظرف عيسى. الظروف تختلف فموسى بعث لأناس طبعهم الغلظة والشدة، ومن حكمة الله جل وعلا أن بعث إليهم موسى لكن لو بعث عيسى إلى فروعن مثلًا. حكم إلهية ينزل الأمور مواضعها ومنازلها. الحكمة الإلهية تقتضي هذا فتجد أنسب الأشخاص هو الذي يبعث إلى هؤلاء القوم وإلى هذا الجيل، فموسى عليه السلام فيه شيء من الشدة المناسبة للظرف الذي عاشه، والمناسبة للقوم الذين بعث فيهم، وتجد عيسى عليه السلام على العكس من ذلك. كل هذا خاضع لحكمة الله جل وعلا. وذكروا في القرآن ما يدل على شيء من هذا حتى في حق موسى عليه السلام، لكن يذكر من الإسرائيليات ما لا يثبت ولا يليق بهؤلاء الأنبياء وهؤلاء الرسل. ذكروا في الإسرائيليات أن موسى عليه السلام إذا غضب اشتعلت قلنسوته، هل هذا معقول؟ بناء على الأصل الذي سمعوه أو قرءوه له شيء من الأصل الذي هو الشدة، وكزه موسى فقضى عليه ثم استرسلوا في أساطير وأخبار إسرائيلية ينزه عنها موسى عليه السلام، فيبقى أن القدر الذي أشير إليه في القرآن وما صح من السنة هو المقبول وما عاداه مردود حتى يثبت به النص.
"وقيل: الرأفة تخفيف الكل، والرحمة تحمل الثقل. وقيل: الرأفة أشد الرحمة. وتم الكلام. ثم قال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} أي من قبل أنفسهم. والأحسن أن تكون الرهبانية منصوبة بإضمار فعل. قال أبو علي: وابتدعوها رهبانية ابتدعوها. "
لا داعي للضمير في الفعل الأول، ابتدعوا رهبانية ابتدعوها، يعنى يكون منصوبا بفعل محذوف يفسره المذكور.
"وقال الزجاج: أي ابتدعوها رهبانية، كما تقول رأيت زيدا وعمرا كلمت. وقيل: إنه معطوف على الرأفة والرحمة، والمعنى على هذا أن الله تعالى أعطاهم إياها فغيروا وابتدعوا فيها. قال الماوردي: وفيها قراءتان، إحداهما بفتح الراء وهي الخوف من الرهب. الثانية بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان كالرضوانية من الرضوان، وذلك لأنهم حملوا أنفسهم على المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والنكاح والتعلق بالكهوف والصوامع، وذلك أن ملوكهم غيروا وبدلوا وبقي نفر..."
ولهذا الإشكال في قوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} يعني كلام المفسرين في هذا كثير جدًا، والآية في ظاهرها مشكلة. ابتدعوها، ما معنى ابتدعوها؟ أي اخترعوها من غير أصل ثابت، من تلقاء أنفسهم. {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} إلا هذه استثناء متصل أو منقطع؟ ما كتبناها عليهم. ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها. لأنهم في الأصل ابتدعوها واخترعوها ثم ضيعوها. فمن ابتدع بدعة يذم بتضييعها أو يمدح؟ ابتدع بدعة في الدين ثم ضيعها يذم أو يمدح؟ يمدح. وهنا السياق سياق ذم أو مدح: {فما رعوها حق رعايتها}؟ سياق ذم؟ إذا كيف يذم على تضييع بدعة؟
هي في الأصل ابتدعوها ولم تكتب عليهم، متى اكتسبت الشرعية؟ بالإقرار، أقروا عليها. فلما أقروا عليها وصارت مشروعة في حقهم اكتسبت الشرعية فما رعوها حق رعايتها. الآن لما سمع النبي عليه الصلاة والسلام خشخشة بلال في الجنة أو وقع قدميه سأله النبي عليه الصلاة والسلام عن السبب، فقال: إنه ما توضأ وضوء إلا صلى ركعتين. هل عنده أصل يستند عليه، يستند إليه أن مما يشرع الصلاة بعد الوضوء أو اجتهاد منه؟ بدليل أنه لم يوجد لغيره، ولو وجد لغيره لذكره النبي عليه الصلاة والسلام معه؟ اجتهاد منه، لكن متى اكتسب الشرعية هذا الاجتهاد؟ لما ساقه النبي عليه الصلاة والسلام مساق المدح وأقره عليه، وأقره عليه اكتسب الشرعية. هؤلاء الذين ابتدعوا ما لم يكتب عليهم اكتسب الشرعية لما أقروا على هذه البدعة وهذا يحصل في وقت التشريع، ألزموا بها. يحصل في وقت التشريع أما بعد وقت التشريع فمن الذي يقر؟ الابتداع كله مذموم، ما يمكن أن يوجد من يقره.
طالب:.........
ابتدعوها ما كتبناها عليهم والاستثناء منقطع... يعني ما كتبنا عليهم بعد ذلك، يعنى ما كتبنا عليهم بالإقرار. الأمر سهل سواء أن وقفنا عليها أو ما قبل، ما كتبناها في أول الأمر، ابتدعوها ما كتبنا عليهم في أول الأمر أو ابتدعوها ما كتبنا عليهم إلا ابتغاء رضوان الله في أخر الأمر يعنى بعد الإقرار.
طالب:........
فشدد عليهم مثل ما سئل اليهود عن البقرة.
طالب:........
نعم، هذا الأصل لأن الرهبانية ليست معطوفة على ما قبله، لأنه ما يصح أن يقول: وجعلنا رهبانية، لأن العامل في الرأفة والرحمة غير العامل في الرهبانية.
طالب:.......
لكنه في النهاية سار على ما أشار عليه... لا هذا ما هو بثواب هذا الثواب بعد الموت.. على كل حال إذا كان المشرع مقرا مثل ما يثبت بالرؤى، يعنى بعد التشريع ما يمكن إثبات حكم شرعي برؤيا، والآذان ثبت برؤية لكن اكتسبت الشرعية من إقراره عليه الصلاة والسلام
"وبقي نفر قليل فترهبوا وتبتلوا. قال الضحاك: إن ملوكا بعد عيسى عليه السلام ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة، فأنكرها عليهم من كان بقي على منهاج عيسى فقتلوهم، فقال قوم بقوا بعدهم: نحن إذا نهيناهم قتلونا فليس يسعنا المقام بينهم، فاعتزلوا الناس واتخذوا الصوامع."
مثل ما يساور كثير من أهل الفضل والخير في كثير من المجتمعات التي تنتسب إلى الإسلام. يعنى بعضهم يقول: نخالط الناس وننفعهم بقدر الإمكان ونصبر على آذاهم، ولو رأينا ما يغضب الله جل وعلا من بعض الأشياء التي لا يمكن إنكارها، هذا اجتهاد وله وجهه وهو الأصل. ومن الناس من يقول: والله ما لي طاقة أن أرى المنكرات ولا أستطيع إنكارها، نقول: تستطيع أن تنفع، قال: أنفع لكن المنكرات ما أستطيع إنكارها فأعتزل، فهي وجهات نظر قد يترجح في ظرف الخلطة، وقد يترجح العزلة في ظرف، فهؤلاء بعضهم خالط وأنكر حتى قتل وبعضهم اعتزل، وعلى كل حال العزلة في وقتها شرعية والخلطة في وقتها شرعية. والناس يتفاوتون، قد يناسب زيد الخلطة لأنه يؤثر ولا يتأثر، وقد يناسب عمرو العزلة لأنه يتأثر ولا يستطيع أن يؤثر.
"وقال قتادة: الرهبانية التي ابتدعوها رفض النساء واتخاذ الصوامع. وفي خبر مرفوع: "هي لحوقهم بالبراري والجبال." {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} أي ما فرضناها عليهم ولا أمرناهم بها، قاله ابن زيد. وقوله تعالى: {إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} أي ما أمرناهم إلا بما يرضي الله، قاله ابن مسلم. وقال الزجاج: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} معناه لم نكتب عليهم شيئا البتة. ويكون {ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} بدلا من الهاء والألف في {كَتَبْنَاهَا} والمعنى: ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله. وقيل: {إِلاَّ ابْتِغَاءَ} الاستثناء منقطع، والتقدير ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله. {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}"
يكون مثل قريب من قول الله جل وعلا: { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ} [آل عمران:93] إسرائيل يحرم؟ لكنه حرم فألزم.
"أي فما قاموا بها حق القيام. وهذا خصوص، لأن الذين لم يرعوها بعض القوم، وإنما تسببوا بالترهب إلى طلب الرياسة على الناس وأكل أموالهم، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}."
لأن الناس عمومًا جبلوا على الميل إلى من ترك الدنيا وأقبل على العبادة، يحسنون بهم الظن ويلتفون حولهم لأنهم لا ينازعونهم في دنياهم، «وازهد فيما أيدي الناس يحبك الناس»، فالناس غالبًا يحسنون الظن بالعباد، وإن كان عندهم شيء من التقصير والمخالفات التي تخفى على العوام، ويعرف حقيقتهم وواقعهم بدقة أهل العلم والنظر الصحيح على مقتضى النصوص. فتجد مثل هؤلاء الرهبان يتأكلون ويرتزقون بهذا العمل لأن أمرهم يخفى على العامة فيحسنون الظن بهم ويعطونهم شيء من أموالهم، يقولون: هؤلاء انقطعوا لعبادة الله جل وعلا ولا يزاحموننا في أموالنا ولا في أرزاقنا فتجدهم يحسنون إليهم، ولذا قال جل وعلا: { لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} تجدهم يحرفون الكلم عن مواضعه، وتجدهم إذا جاء من يستشيرهم ببيان الحق والصواب والعمل الصالح تجدهم لا يوجهونهم الوجهة الصحيحة السليمة، لأنها تنبههم على حقيقتهم وواقعهم، على حقيقة هؤلاء الرهبان إذا وجهوا على مقتضى النظر الشرعي انتبه هؤلاء لحقيقة هؤلاء الذين يأكلون أموال الناس بالباطل فانقطع عنهم المدد، نسأل الله العافية.
"وهذا في قوم أداهم الترهب إلى طلب الرياسة في آخر الأمر."
يعنى هذا مسلك يسلكه بعض الناس للارتزاق. والمسلك الثاني مسلك التحريف والتأويل، يأكلون به أموال الناس ويتزلفون به إلى الحكام ويخففون عنهم الأوامر والنواهي، وقد يسهلون لهم بعض الجرائم والمنكرات. التحريف الذي حصل من اليهود والنصارى في السابق هذا سببه، يشترون به ثمنًا قليلًا، وتجد بعض الكتاب اليوم وما أشبه الليلة بالبارحة تجد يحرف المعاني، معاني ما جاء عن الله وعن رسوله لأنه يرى أن هذا أقرب طريق للشهرة والارتزاق، مثل ما يصنع أولئك نسأل الله السلامة والعافية.
"وروى سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} قال: كانت ملوك بعد عيسى بدلوا التوراة والإنجيل، وكان فيهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل ويدعون إلى دين الله تعالى، فقال أناس لملكهم: لو قتلت هذه الطائفة. فقال المؤمنون: نحن نكفيكم أنفسنا. فطائفة قالت: ابنوا لنا أسطوانة ارفعونا فيها، وأعطونا شيئًا نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نرد عليكم. وقالت طائفة: دعونا نهيم في الأرض ونسيح، ونشرب كما تشرب الوحوش في البرية، فإذا قدرتم علينا فاقتلونا. وطائفة قالت: ابنوا لنا دورا في الفيافي ونحتفر الآبار ونحترث البقول فلا تروننا. وليس أحد من هؤلاء إلا وله حميم منهم ففعلوا، فمضى أولئك على منهاج عيسى."
كل واحد من هؤلاء الين طلبوا هذه المطالب له حميم وله صديق، له واسطة عند هؤلاء الجبارين فأجيبوا على دعوتهم، هذا إن صح الخبر.
"وخلف قوم من بعدهم ممن قد غير الكتاب فقالوا: نسيح ونتعبد كما تعبد أولئك، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان من تقدم من الذين اقتدوا بهم، فذلك قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} الآية، يقول: ابتدعها هؤلاء الصالحون {فَمَا رَعَوْهَا} المتأخرون {حَقَّ رِعَايَتِهَا} {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} يعني الذين ابتدعوها أولا ورعوها {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} يعني المتأخرين، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا قليل، جاؤوا من الكهوف والصوامع والغيران فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. الثالثة: وهذه الآية دالة على أن كل محدثة بدعة، فينبغي لمن ابتدع خيرا أن يدوم عليه، ولا يعدل عنه إلى ضده فيدخل في الآية."
يقول: ينبغي لمن ابتدع خيرًا، ينبغي ألا يبتدع خيرًا لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: «كل بدعة ضلالة» من ابتدع في وقت تشريع وأقر على ذلك اكتسب الشرعية من الإقرار، وحينئذ لا يكون ابتداعا. لكن بعد التشريع لا يمكن أن يشرع ما لا أصل له في كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وليس من البدع ما يمدح وليس فيها الحسن بل جميع البدع قبيحة.
"وعن أبي أمامة الباهلي - واسمه صدي بن عجلان - قال: أحدثتم قيام رمضان ولم يكتب عليكم، إنما كتب عليكم الصيام..."
النبي عليه الصلاة والسلام قام بأصحابه ثلاث ليال ثم ترك القيام جماعة لئلا يكتب عليهم، فلما مات النبي عليه الصلاة والسلام وأمن من أن يفرض عليهم القيام، جمعهم عمر رضي الله على إمام واحد، وليس هذا من البدع وإنما أصله موجود في عهده عليه الصلاة والسلام، والعدول عنه لا رغبة عنه ولا نسخًا له وإنما خشية أن يفرض، فلما أمن عمر رضي الله عنه هذه المفسدة جمعهم على إمام واحد، فخرج عليهم ليلة وهم يصلون فأعجبه ما رأى وقال: نعمت البدعة والتي ينامون عنها أفضل منها أو خير منها. هذه بدعة يعنى على سبيل المشاكلة والتنزل كأن قائلا: ابتدعت يا عمرو! ليست بدعه لا لغوية ولا شرعية وإنما سماها بدعة من باب المشاكلة ولا المجانسة لئلا يقول قائل: ابتدعت يا عمر، سبقه بذلك وقطع عليه الطريق، وهنا يقول: حديث أبي أمامة «أحدثتم قيام رمضان ولم يكتب عليكم إنما كتب عليكم الصيام» مخرج؟ وهو ما يخرج الآثار. على كل حال سماها عمر بدعة من باب المشاكلة.
طالب: يقولون إن هذا الآية دالة على أن كل محدثة بدعة فينبغي أن من ابتدع خيرًا أن يدوم عليه.
لا، غلط، أنا ما قلت هذا، لا يبتدع أصلاً. من سن سنة حسنة يعنى الأصل أنها مشروعة لكن خصوص هذه القضية أو الفرع الذي بادر إليه أو هذه السنة التي اندثرت ثم أحياها بدليل الرواية الأخرى «من أحيا سنة فله أجرها وأجر من عمل بها» والحديث قيل في مناسبة وهي أن النبي عليه الصلاة والسلام حث على الصدقة، فجاء رجلاً بمال كثير فرآه الناس واقتدوا به، فقال عليه الصلاة والسلام: « من سن في الإسلام سنة حسنة... »
"إنما كتب عليكم الصيام فدوموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه، فإن ناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعا لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله..."
جاء في الحديث الصحيح: «اكلفوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا» فلا شك أن ترك العمل الذي يلزم الإنسان به نفسه مما له أصل في الشرع لكنه قد يعجز عنه جاء الأصل في الشرع أن الصلاة خيرًا مستكثر منه، وجاء في الأصل في الشرع أعني على نفسي بكثرة السجود، وجاء بالنسبة للقرآن من قرأ بالقرآن فله بكل حرف عشر حسنات، أراد الإنسان أن يستكثر من هذا، لزم في كل يوم أن يصلي مائة ركعة كما أثر عن السلف وهو يقرأ القرآن في ليلة أو في يوم ثم وجد نفس بعد ذلك عنده شيء من الفتور ولا يستطيع الاستمرار عليه، هو من الأول الأصل أن لا يكلف نفسه أكثر ما تطيق، ولا يعمل عملا يجد نفسه في يوم من الأيام هو عاجز عنه كما ندم عبد الله بن عمرو بن العاص، لكن قد يجد الإنسان نشاطًا في بعض الأوقات فيزيد، لكن يلتزم عددا معينا ثم بعد ذلك يعجز عنه، يقع في مثل هذا، فإن الله لا يمل حتى تملوا.
"ابتغوا بها رضوان الله فما رعوها حق رعايتها، فعابهم الله بتركها فقال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} الرابعة: وفي الآية دليل على العزلة عن الناس في الصوامع والبيوت، وذلك مندوب إليه عند فساد الزمان وتغير الأصدقاء والإخوان."
يعنى في الصحيح « يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال يفر بدينه من الفتنة»، يعنى إذا وجدت الفتنة وخشي الإنسان على نفسه أعتزل، ما دام يستطيع أن يؤثر في غيره وينفع الناس فالخلطة هي الأصل.
"وقد مضى بيان هذا في سورة [الكهف] مستوفى والحمد لله. وفي مسند أحمد بن حنبل من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه فقال: مر رجل بغار فيه شيء من ماء، فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار، فيقوته ما كان فيه من ماء ويصيب ما حوله من البقل ويتخلى عن الدنيا. قال: لو أني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فإن أذن لي فعلت إلا لم أفعل، فأتاه فقال: يا نبي الله! إني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل، فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى من الدنيا. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في الصف الأول خير من صلاته ستين سنة»."
مخرج؟ علي بن زيد بن جدعان ضعيف.
"وروى الكوفيون عن ابن مسعود، قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تدري أي الناس أعلم» قال قلت: الله ورسول أعلم. قال: «أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس فيه وإن كان مقصرا في العمل وإن كان يزحف على إسته هل تدري من أين اتخذ بنو إسرائيل الرهبانية ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بمعاصي الله فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات فلم يبق منهم إلا القليل فقالوا إن أفنونا فلم يبق للدين أحد يدعن إليه فتعالوا نفترق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الأمي الذي وعدنا عيسى يعنون محمدا -صلى الله عليه وسلم- فتفرقوا في غيران الجبال وأحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر -وتلا {وَرَهْبَانِيَّةً} الآية- أتدري ما رهبانية أمتي الهجرة والجهاد والصوم والصلاة والحج والعمرة والتكبير على التلاع يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم من اليهود على إحدى وسبعين فرقة فنجا منهم فرقة وهلك سائرها واختلف من كان من قبلكم من النصارى على اثنين..."
اثنتين. الأصل اثنتين.
على اثنتين وسبعين فرقة فنجا منهم ثلاثة وهلك سائرها فرقة وازت الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى -عليه السلام- حتى قتلوا وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك أقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فأخذتهم الملوك وقتلتهم وقطعتهم بالمناشير وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك- ولا بأن يقيموا بين ظهراني قومهم فيدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهي التي قال الله تعالى فيهم: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} -الآية- فمن آمن بي واتبعني وصدقني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الفاسقون» يعني الذي تهودوا وتنصروا. وقيل: هؤلاء الذين أدركوا محمد صلى الله عليه وسلم فلم يؤمنوا به فأولئك هم الفاسقون. وفي الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، أي إن الأولين أصروا على الكفر أيضا فلا تعجب من أهل عصرك إن أصروا على الكفر. والله أعلم."
خرج الحديث؟
"قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي آمنوا بموسى وعيسى {اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ} بمحمد صلى الله عليه وسلم {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} أي مثلين من الأجر على إيمانكم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا مثل قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} وقد تقدم القول فيه. والكفل الحظ والنصيب وقد مضى في [النساء] وهو في الأصل كساء يكتفل به الراكب فيحفظه من السقوط، قاله ابن جريج. ونحوه قال الأزهري. قال: اشتقاقه من الكساء الذي يحويه راكب البعير على سنامه إذا ارتدفه لئلا يسقط، فتأويله يؤتكم نصيبين يحفظانكم من هلكة المعاصي كما يحفظ الكفل الراكب. وقال أبو موسى الأشعري: {كِفْلَيْنِ} ضعفين بلسان الحبشة. وعن ابن زيد: {كِفْلَيْنِ} أجر الدنيا والآخرة. وقيل: لما نزلت {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} افتخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية."
يعنى جاء في الحديث الصحيح: «ثلاث يؤتون أجرهم مرتين، رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي، والعبد يؤدي حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمة فرباها وأحسن تربيتها ثم أعتقها أو تزوجها».
"وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الحسنة إنما لها من الأجر مثل واحد، فقال: الحسنة اسم عام ينطلق على كل نوع من الإيمان، وينطلق على عمومه، فإذا انطلقت الحسنة على نوع واحد فليس له عليها من الثواب إلا مثل واحد."
هذا القول باطل لأن الله جل وعلا يقول: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:160]، فلا يقول: ما له إلا مثلها.
"وإن انطلقت على حسنة تشتمل على نوعين كان الثواب عليها مثلين، بدليل هذه الآلة فإنه قال: {كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} والكفل النصيب كالمثل، فجعل لمن اتقى الله وآمن برسوله نصيبين، نصيبا لتقوى الله ونصيبا لإيمانه برسوله. فدل على أن الحسنة التي جعل لها عشر هي التي جمعت عشرة أنواع من الحسنات، وهو الإيمان الذي جمع الله تعالى في صفته عشرة أنواع، لقوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} الآية بكمالها. فكانت هذه الأنواع العشرة التي هي ثوابها أمثالها فيكون لكل نوع منها مثل. وهذا تأويل فاسد، لخروجه عن عموم الظاهر، في قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} بما لا يحتمله تخصيص العموم، لأن ما جمع عشر حسنات فليس يجزى عن كل حسنة إلا بمثلها. وبطل أن يكون جزاء الحسنة عشر أمثالها والأخبار دالة عليه. وقد تقدم ذكرها. ولو كان كما ذكر لما كان بين الحسنة والسيئة فرق. {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً} أي بيانا وهدى، عن مجاهد، وقال ابن عباس: هو القرآن. وقيل: ضياء {تَمْشُونَ بِهِ} في الآخرة على الصراط، وفي القيامة إلى الجنة. وقيل تمشون به في الناس تدعونهم إلى الإسلام فتكونون رؤساء في دين الإسلام لا تزول عنكم رياسة كنتم فيها. وذلك أنهم خافوا أن تزول رياستهم لو آمنوا بمحمد عليه السلام. وإنما كان يفوتهم أخذ رشوة يسيرة من الضعفة بتحريف أحكام الله، لا الرياسة الحقيقية في الدين. {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ذنوبكم {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} أي ليعلم، و {أَنَّ لا} صلة زائدة مؤكدة، قاله الأخفش..."
يعنى تزاد لا في الكلام الذي يستقيم بدونها، وتكلمنا عن هذا في {فلا أقسم بما وقع النجوم}، ما منعك أن تسجد، ما منعك ألا تسجد. على كل حال المعنى واضح إذا كان لا يوقع فيه لبس فلا مانع من ذلك.
"وقال الفراء: معناه لأن يعلم و{لا} صلة زائدة في كل كلام دخل عليه جحد. قال قتادة: حسد أهل الكتاب المسلمين فنزلت: {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} أي لأن يعلم أهل الكتاب أنهم {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} وقال مجاهد: قالت اليهود يوشك أن يخرج منا نبي يقطع الأيدي والأرجل. فلما خرج من العرب كفروا فنزلت: {لِئَلاَّ يَعْلَمَ} أي ليعلم أهل الكتاب {أن أَلاَّ يَقْدِرُونَ} أي أنهم يقدرون، كقوله تعالى: {أَنْ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً}. وعن الحسن: {ليلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} وروي ذلك عن ابن مجاهد. وروى قطرب بكسر اللام وإسكان الياء. وفتح لام الجر لغة معروفة. ووجه إسكان الياء أن همزة (أن) حذفت فصارت (لن) فأدغمت النون في اللام فصار (للا) فلما اجتمعت اللامات أبدلت الوسطى منها ياء، كما قالوا في أما: أيما. وكذلك القول في قراءة من قرأ {لِيْلا} بكسر اللام إلا أنه أبقى اللام على اللغة المشهورة فيها فهو أقوى من هذه الجهة. وعن ابن مسعود {لِكَيْلا يَعْلَمَ} وعن حطان بن عبدالله (لأن يعلم). وعن عكرمة {لِيَعْلَمَ} وهو خلاف المرسوم. {مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} قيل: الإسلام. وقيل: الثواب. وقال الكلبي: من رزق الله. وقيل: نعم الله التي لا تحصى. {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} ليس بأيديهم فيصرفون النبوة عن محمد صلى الله عليه وسلم إلى من يحبون. وقيل: {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} أي هو له {يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} وفي البخاري: حدثنا الحكم بن نافع، قال حدثنا شعيب عن الزهري، قال أخبرني سالم بن عبدالله، أن عبدالله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو قائم على المنبر: «إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس أعطي أهل التوراة التوراة فعملوا بها حتى أنتصف النهار ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ثم أعطي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتى صلاة العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ثم أعطيتم القرآن فعملتم به حتى غروب الشمس فأعطيتم قيراطين قيراطين قال أهل التوراة ربنا هؤلاء أقل عملا وأكثر أجرا قال هل ظلمتكم من أجركم من شيء قالوا لا فقال فذلك فضلي أوتيه من أشاء» في رواية: «فغضبت اليهود والنصارى وقالوا ربنا» الحديث. {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}. تم تفسير سورة [الحديد] والحمد لله."
اللهم صل وسلم على رسولك محمد، يكون هذا آخر الدروس إن شاء الله، تستأنف الدروس في الأسبوع الثاني من الفصل الثاني إن شاء الله.
"