التعليق على تفسير القرطبي - سورة هود (02)
ثُمَّ بُيِّنَتْ بِذِكْرِ آيَةٍ آيَةٍ بِجَمِيعِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْبَعْثِ وَغَيْرِهَا وَقِيلَ: جُمِعَتْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، ثُمَّ فُصِّلَتْ فِي التَّنْزِيلِ. وَقِيلَ: {فُصِّلَتْ} أُنْزِلَتْ نَجْمًا نَجْمًا لِتُتَدَبَّرَ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ {فُصِّلَتْ} مُخَفَّفًا أَيْ حُكِمَتْ بِالْحَقِّ {مِن لَّدُنْ} أَيْ مِنْ عِنْدِ .حَكِيمٍ أَيْ مُحْكِمٌ لِلْأُمُورِ خَبِيرٍ بِكُلِّ كَائِنٍ وَغَيْرِ كَائِنٍ {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ} قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: أَيْ بِأَلَّا أَيْ أُحْكِمَتْ ثُمَّ فُصِّلَتْ بِأَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ".
يعني هذا تفصيلها، هذا تفصيل ما أُجمِل، في الآية الأولى {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}، التفصيل {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ}، ولو قيل: (ألَّا) وما بعدها تعليل لهذا التفصيل؛ وذلك لإحكام {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}، لــ {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ}، لكي {لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ}، لهذه العلة؛ لأنه إذا لم يُحكم وتطرق إليه الخلل؟ وحاشاه من ذلك، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، لو وُجد فيه هذا الاختلاف ما عُبد الله، كلامه هو المُعجِز، فكيف يُعبَد وكلامه غير مُحكَم؟ فكأنه قال: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} أُتقنت فُصلت بعد أن أُجمِلت، كل هذا من أجل {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ}.
"قَالَ الزَّجَّاجُ : لِئَلَّا أَيْ: أُحْكِمَتْ ثُمَّ فُصِّلَتْ لــ {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ}".
نعم هذا جاء به.
"قِيلَ: أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ}، أَيْ مِنَ اللَّهِ {نَذِيرٌ} أَيْ مُخَوِّفٌ مِنْ عَذَابِهِ وَسَطْوَتِهِ لِمَنْ عَصَاهُ "وَبَشِيرٌ" بالرضوان والجنة لمن أطاعه".
نعم. "نَذِيرٌ" مخوِّف، يخوف من عصى بالنار، بعذاب الله –سبحانه وتعالى-، "وَبَشِيرٌ" بالرضوان والجنة لمن أطاعه، لمن أطاع الله –سبحانه وتعالى- يبشره بالرضوان من الله –سبحانه وتعالى- وجنته.
"وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ أَوَّلًا وَآخِرًا، أَيْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ، أَيِ اللَّهُ نَذِيرٌ لَكُمْ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ، كَمَا قَالَ: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه}[آل عمران:30]، قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ} عَطْفٌ عَلَى الْأَوَّل، {ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} أَيِ ارْجِعُوا إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ "ثُمَّ" هُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَيْ وَتُوبُوا إِلَيْهِ".
نعم. يعني لا تقتضي ترتيب، {وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} يعني بعد الاستغفار تحصل التوبة أو أن التوبة قبل، ثم الاستغفار، أو هما معا في آنٍ واحد؟ وحينئذٍ تكون ثم بمعنى الواو لمطلق الجمع.
"أَيْ وَتُوبُوا إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِغْفَارَ هُوَ التَّوْبَةُ، وَالتَّوْبَةَ هِيَ الِاسْتِغْفَارُ. وَقِيلَ: اسْتَغْفِرُوهُ مِنْ سَالِفِ ذُنُوبِكُمْ، وَتُوبُوا إِلَيْهِ مِنَ الْمُسْتَأْنَفِ مَتَى وَقَعَتْ مِنْكُمْ. قَالَ بَعْضُ الصُّلَحَاءِ: الِاسْتِغْفَارُ بِلَا إِقْلَاعٍ تَوْبَةُ الْكَذَّابِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي "آلِ عِمْرَانَ" مُسْتَوْفًى".
يعني مثل هذا الاستغفار بلا إقلاع كأنه أقرب ما يكون إلى الاستهزاء، تستغفر وأنت على المعصية مُصر عليها؟ عازم على العود إليها؟ ما معنى الاستغفار؟ الاستغفار طلب المغفرة، من شرط التوبة الإقلاع عن المعصية، والعزم على ألا يعود إلى هذه المعصية والندم، كيف تجامع هذه الشروط الاستمرار في المعصية؟ فالذي يستغفر بلسانه وقلبه يحن إلى هذه المعصية التي يزعُم أنه يطلب المغفرة منها، هذا أشبه ما يكون بالساخر المستهزئ، وأشبه ما يكون بالمكذِّب.
"وَفِي "الْبَقَرَةِ" عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة:231]، قِيلَ: إِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ الِاسْتِغْفَارِ؛ لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ هِيَ الْغَرَضُ الْمَطْلُوبُ، وَالتَّوْبَةَ هِيَ السَّبَبُ إِلَيْهَا، فَالْمَغْفِرَةُ أَوَّلٌ فِي الْمَطْلُوبِ وَآخِرٌ فِي السَّبَبِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى اسْتَغْفِرُوهُ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَتُوبُوا إِلَيْهِ مِنَ الْكَبَائِرِ، {يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا} هَذِهِ ثَمَرَةُ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ، أَيْ يُمَتِّعُكُمْ بِالْمَنَافِعِ من سَعَةِ الرِّزْقِ وَرَغَدِ الْعَيْشِ، وَلَا يَسْتَأْصِلُكُمْ بِالْعَذَابِ كَمَا فَعَلَ بِمَنْ أَهْلَكَ قَبْلَكُمْ. وَقِيلَ: يُمَتِّعُكُمْ يُعَمِّرُكُمْ، وَأَصْلُ الْإِمْتَاعِ الْإِطَالَةُ وَمِنْهُ أَمْتَعَ اللَّهُ بِكَ وَمَتَّعَ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: الْمَتَاعُ الْحَسَنُ تَرْكُ الْخَلْقِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْحَقِّ. وَقِيلَ: هُوَ الْقَنَاعَةُ بِالْمَوْجُودِ، وَتَرْكُ الْحُزْنِ عَلَى الْمَفْقُودِ".
سهل بن عبد الله التوستري من العبَّاد المعروفين، له تفسيرٌ مختصر، وله أقوال تُتَداول، كلها تدل على أنه على حد تعبيرهم واصطلاحهم من العارفين، يعني من العُبَّاد الذين نهجوا أو سلكوا مسلك الزهد والتصوُّف، وإن كان عندهم شيء مما يُلاحظ من إغفال بعض السنن والإيغال في بعض الأمور التي هي على خلاف هديه -عليه الصلاة والسلام-. وعلى كل حال هو ممن تنقلل الأقوال وتُتَداوَل، وليس بمغرق في تصوفه بحيث يُخرجه عن أن يكون من العُبَّاد الزُهَاد العارفين على اصطلاحهم.
المتاع الحسن، {يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا}، يكون المراد بالمتاع الحسن ترك الخَلْق، والإقبال على الحق؛ لأنه ما الذي تجنيه من معرفة الخَلْق؟ باستثناء من تلزم صلته، وباستثناء معاشرة الخَلْق للنفع، لنفعهم، وما عدا ذلك فمعرفتهم في الغالب ضارة، والإقبال على الحق فيه الإنجماع على النفس، وفيه التلذذ بالخلوة به –سبحانه وتعالى-، والتلذذ بمناجاته، لكن هذا يحتاج إلى عسفٍ للنفس، وقصرٍ لها، وتمرين على الطاعة، كثير من الناس ما يستطيع مثل هذا الأمر، فلا يستطيع ترك الخَلْق؛ لأنه يأنس به، ويفضي إليهم بأسراره، وقد يتعدى ذلك إلى أن يتلذذ بكلامهم فيما حرمه الله.
ولذا تجدون أكثر ما يتلذذ به الناس الغيبة، ومن اغتاب الناس في الغالب أنه يُحرم لذة المناجاة، يتلذذ بما حرمه الله، فلن يتلذذ بما طلبه الله منه، فإذا ترك الخَلْق إلا بالقدر المطلوب شرعًا من بر الوالدين وصلة الأرحام والزيارات في الله وزيارة المرضى وعيادتهم، والاجتماع بهم من أجل نفعهم وتوجيههم، أما مجرد الإقبال عليهم من أجل الأنس بهم وقضاء الأوقات معهم لا شك أن الإنسان كما يقول ابن القيم -رحمه الله-، ونُقلت عن ابن خلدون: "الإنسان مدني بالطبع"، يعني ما يمكن أن يعيش وحده، لكن عليه أن يقلل بقدر الإمكان من هذا الاجتماع، بقدر الإمكان، نعم. يزور من في زيارته مصلحة في دينه أو في دنياه بقدر الحاجة، أما أن يكون ديدنه اليوم دورية مع فلان وغدًا طلعة مع فلان، ودورية الآن مع آل فلان واليوم طلعة المدرسين، وغدًا اجتماع كذا، يضيع العمر، قد اختلف العلماء -رحمهم الله- منذ قرون في الخلطة والعزلة، وأيهما أفضل؟
ففي مثل هذه الأوقات التي يندر فيها سلامة مجامع الناس ومحافلهم من المنكرات، يعني باستثناء ما أمر الله به العزلة أفضل، وقد قرر ذلك شُراح الحديث في القرن السابع وما دونه، قرروا أن العزلة أفضل، كيف لو رأوا أزماننا المتأخرة؟ التي فاكهة المجالس فيها الغيبة والنميمة، وتجد من أثقل الناس على القلوب الذي لا يغتاب الناس، يستثقلونه، إذ كثيرٌ من الناس لا يرغب في كثيرٍ من الصالحين لهذا الأمر، بزعمه أنه اجتمع بهم يستأنس، كيف يستأنس؟
لا يستأنس إلا بهذا الكلام الفاضي، لكن لو تقول: هذا الكتاب نقرأه، من المؤسف أن هذه صفة بعض من ينتسب إلى العلم، قراءة ثقيلة فضلاً عن إلزام النفس وخطمها بخطام الشرع وزمامه، الثقيل على النفس ثقيل على النفوس، الناس جُبلت على الراحة، وكما هو معروف «الْجَنَّةُ حُفَّتِ بِالْمَكَارِه، والنَّارُ حُفَّتِ بِالشَّهَوَاتِ»، فكل ما تشتهيه النفس في الغالب أنه غير محمود شرعًا، في الغالب إلا إذا استُعمل من أجل أن يعين على طاعة الله –سبحانه وتعالى-، فهنا يقول: المتاع الحسن ترك الخَلْق، والإقبال على الحق، ومن يقبل على الله ويأنس به، عباراتهم في هذا كثيرة، من انقطع إلى الله أنس به حق الأنس، والله المستعان.
وقيل: هو القناعة بالموجود وترك الحزن على المفقود، عن أحسن من هذا القناعة بالموجود، الحرص يُشقي، لا شك أنه يُتعب النفس والبدن، يُتعب القلب، الحرص على الدنيا وعلى حطامها الزائل لا شك أنه مُتعب للروح وللبدن، والحزن على المفقود كذلك {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} إيش؟ {وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23] إذًا بماذا نفرح؟
فرح يعني مَلَكَة وغريزة، لابد أن يفرح الإنسان، {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ} إيش؟ {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]، هذا الذي يفرح به، وليس في الدنيا- الآن لكثرة المعاصي والمنكرات وعدم خلو أي جهة من الجهات من هذه المنكرات- شيءٌ يُفرَح به ويُحرَص عليه، اللهم إلا قراءة كلام الله بالتدبُر، وعلى الوجه المأمور به، فمثل هذا يُفرَح به، وأما ما يتعلق بالدنيا، فكما قال الله –سبحانه وتعالى-: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46]، الواحد يفرح إذا رأى أولاده لاسيما الصغار منهم ويأنس بهم، لكن المسؤولية أعظم.
"إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قِيلَ: هُوَ الْمَوْتُ، وَقِيلَ: الْقِيَامَةُ، وَقِيلَ: دُخُولُ الْجَنَّةِ، وَالْمَتَاعُ الْحَسَنُ عَلَى هَذَا وِقَايَةُ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَأَمْرٍ مَخُوفٍ، مِمَّا يَكُونُ فِي الْقَبْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ وَكَرْبِهَا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود:52]، وَهَذَا يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ وَهُوَ الْأَجَلُ الْمُسَمَّى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: فَأَبَوْا فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَابْتُلُوا بِالْقَحْطِ سَبْعَ سِنِينَ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ الْمُحْرِقَةَ وَالْقَذَرَ وَالْجِيَفَ وَالْكِلَابَ".
دعا عليهم أن يجعلها سنين كسني يوسف، سني جدب وقحط فصارت، ثم جاءوا إليه بأن يدعو الله -سبحانه وتعالى- أن يرفع عنهم ما حصل بهم أو ما حل بهم.
"{وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} أَيْ يُؤْتِ كُلَّ ذِي عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ جَزَاءَ عَمَلِهِ، وَقِيلَ: وَيُؤْتِ كُلَّ مَنْ فَضُلَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَضْلَهُ أَيِ الْجَنَّةَ، وَهِيَ فَضْلُ اللَّهِ".
نعم. من رجحت حسناته على سيئاته هذا يدخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته هو تحت المشيئة يُعذَّب بقدر هذه الزيادة ثم يدخل الجنة، ما دام مات على التوحيد.
"فَالْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ: فَضْلُهُ تَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى".
الكناية المراد بها الضمير، كناية يريد بها الضمير.
"وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ مَا يَحْتَسِبُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ كَلَامٍ يَقُولُهُ بِلِسَانِهِ، أَوْ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ بِيَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ، أَوْ مَا تَطَوَّعَ بِهِ مِنْ مَالِهِ فَهُوَ فَضْلُ اللَّهِ، يُؤْتِيهِ ذَلِكَ إِذَا آمَنَ، وَلَا يَتَقَبَّلُهُ مِنْهُ إِنْ كَانَ كَافِرًا، {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ كَبِيرٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ، وَقِيلَ: الْيَوْمُ الْكَبِيرُ هُوَ يَوْمُ بَدْرٍ وَغَيْرُهُ: وَ"تَوَلَّوْا" يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَاضِيًا، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ لَهُمْ: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَلًا حُذِفَتْ مِنْهُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَالْمَعْنَى: قُلْ لَهُمْ: إِنْ تَتَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ" .
نعم. "إن تولوا" صيغته صيغةٌ ماضٍ، تولوا يعني فيما مضى، وإن قلنا: إنه بحذف تاء المضارعة، والمقصود تتولوا يعني في المستقبل ثم حُذفت وحذفها كثير، حذفها كثير، ويجوز أن يكون ماضيًا، وأن يكون مستقبلًا.
"قوله تعالى: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} أَيْ بَعْدَ الْمَوْتِ، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ، {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} أَخْبَرَ عَنْ مُعَادَاةِ الْمُشْرِكِينَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَالْمُؤْمِنِينَ، وَيَظُنُّونَ أَنَّهُ تَخْفَى عَلَى اللَّهِ أَحْوَالُهُمْ، {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} أَيْ يَطْوُونَهَا عَلَى عَدَاوَةِ الْمُسْلِمِينَ فَفِيهِ هَذَا الْحَذْفُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، يُخْفُونَ مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنَ الشَّحْنَاءِ وَالْعَدَاوَةِ، وَيُظْهِرُونَ خِلَافَهُ، نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ، وَكَانَ رَجُلًا حُلْوَ الْكَلَامِ حُلْوَ الْمَنْطِقِ، يَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِمَا يَجِبُ، وَيَنْطَوِي لَهُ بِقَلْبِهِ عَلَى مَا يَسُوءُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} شَكًّا وَامْتِرَاءً، وَقَالَ الْحَسَنُ، يَثْنُونَهَا عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الْكُفْرِ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ، كَانَ إِذَا مَرَّ بِالنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ثَنَى صَدْرَهُ وَظَهْرَهُ، وَطَأْطَأَ رَأْسَهُ وَغَطَّى وَجْهَهُ؛ لِكَيْلَا يَرَاهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَيَدْعُوهُ إِلَى الْإِيمَانِ، حُكِيَ مَعْنَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، فَالْهَاءُ فِي مِنْهُ تَعُودُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، وَقِيلَ: قَالَ الْمُنَافِقُونَ: إِذَا غَلَّقْنَا أَبْوَابَنَا، وَاسْتَغْشَيْنَا ثِيَابَنَا، وَثَنَيْنَا صُدُورَنَا عَلَى عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ، فَمَنْ يَعْلَمُ بِنَا؟ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، وَقِيلَ: إِنَّ قَوْمًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَتَنَسَّكُونَ بِسَتْرِ أَبْدَانِهِمْ، وَلَا يَكْشِفُونَهَا تَحْتَ السَّمَاءِ.
يعني يتعبدون بها، يرون هذا عبادة، وأنه من تعظيم الله، لكنها عبادةٌ لم يشرعها الله –سبحانه وتعالى-، لا في كتابه ولا على لسان رسوله -عليه الصلاة والسلام-، من معاني أو مما يتطلبه الإيمان بالرسول -عليه الصلاة والسلام- ألا يُعبَد الله إلا بما شرع، ألا الله إلا بما شرع، فكونهم يتعبدون بعبادات لم ينزل الله بها من سلطان هذا ابتداع، خطرٌ عظيم. من هذا الصنف ما ذكره بعضهم.
يقول أحمد أمين في حياته ومذكراته يقول: أنه درسهم شخص في مدرسة القضاء الشرعي مصري، ثم انقطع عنهم مدةً طويلة، يقول: فصرت أبحث عنه، كأنه معجبٌ به، فلم أقف له على خبر، فقُدِّرَ لي أن- قُدِّر لأحمد أمين أن يزور تركيا، فوجد هذا الشخص، وإذا بهذا الشخص قد ترهب وانقطع عن الدنيا للعبادة، كان صاحب قيام وصيام، لكنه قيامٌ من نوعٍ خاص، وصيامٌ من نوعٍ خاص، يقول: إنه يصوم من الضحى إلى نصف الليل، والعلة في ذلك أن تحته عائلة، ما أدري قال: يهودية أو نصرانية، لا يريد أن يزعجهم في آخر الليل؛ من أجل إعداد الطعام والسحور، وما أشبه ذلك، لكنه وصفه بكثرة العبادة والعزوف عن الدنيا، لكنها عبادةٌ لم ينزل الله بها من سلطان فهي بدعة، نسأل الله العافية، فضررها أكثر من نفعها، بل لا نفع فيها ألبتة ولا خير فيها، نسأل الله العافي.
فالشيطان يملي للناس، ويسول لهم، ويهون عليهم، ويحسِّن في أنفسهم بعض الصور القبيحة، فتجدهم على هذا النوع، ووُجد من الطوائف من زج به الشيطان إلى أن ارتكب كثيرًا من المحرمات، بل المكفرات، وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعًا، نسأل الله العافية.
"فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّ التَّنَسُّكَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُهُمْ مِنْ مُعْتَقَدٍ، وَأَظْهَرُوهُ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ" .
نعم
طالب:......
نعم
طالب:......
ماذا؟
طالب:.......
هذا من حيائه -رضي الله عنه- نقول: عُرف بذلك، من حيائه- رضي الله عنه- ولا يتعبد بذلك، ما يرى أن الغُسل عريان فيه شيء، هو مشهودٍ له بذلك، تستحي منه الملائكة- رضي الله عنه-.
"قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ -رضي الله عنه- يَقُولُ: "أَلَا إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ" قَالَ: كَانُوا لَا يُجَامِعُونَ النِّسَاءَ، وَلَا يَأْتُونَ الْغَائِطَ وَهُمْ يُفْضُونَ إِلَى السَّمَاءِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَرَوَى غَيْرُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" أَلَا إِنَّهُمْ تَثْنَوِي صُدُورُهُمْ" بِغَيْرِ نُونٍ بَعْدَ الْوَاوِ، فِي وَزْنِ تَنْطَوِي، وَمَعْنَى "تَثْنَوِي" وَالْقِرَاءَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ مُتَقَارِبٌ؛ لِأَنَّهَا لَا تَثْنَوِي حَتَّى يَثْنُوهَا، وَقِيلَ: كَانَ بَعْضُهُمْ يَنْحَنِي عَلَى بَعْضِ يُسَارُّهُ فِي الطَّعْنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبَلَغَ مِنْ جَهْلِهِمْ أَنْ تَوَهَّمُوا أَنَّ ذَلِكَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
{لِيَسْتَخْفُوا} أَيْ لِيَتَوَارَوْا عَنْهُ، أَيْ عَنْ مُحَمَّدٍ أَوْ عَنِ اللَّهِ، {أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} أَيْ يُغَطُّونَ رُءُوسَهُمْ بِثِيَابِهِمْ، قَالَ قَتَادَةُ: أَخْفَى مَا يَكُونُ الْعَبْدُ إِذَا حَنَى ظَهْرَهُ، وَاسْتَغْشَى ثَوْبَهُ، وَأَضْمَرَ فِي نَفْسِهِ هَمَّهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}، {مَا} نَفْيٌ وَ{مِنْ} زَائِدَةٌ وَ{دَابَّةٍ} فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، التَّقْدِيرُ: وَمَا دَابَّةٌ، {إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} {عَلَى} بِمَعْنَى مِنْ، أَيْ مِنَ اللَّهِ رِزْقُهَا، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ مُجَاهِدٍ: كُلُّ مَا جَاءَهَا مِنْ رِزْقٍ فَمِنَ اللَّهِ، وَقِيلَ: "عَلَى اللَّهِ" أَيْ فَضْلًا لَا وُجُوبًا" .
خلافًا لما تزعمه المعتزلة، أنه يجب على الله –سبحانه وتعالى- رعاية الأصلح للمكلَّفين، في أمور دينهم وأمور دنياهم، والرزق بالنسبة للمخلوقين أصلح، فيجب على الله –سبحانه وتعالى- أن يرزقهم، عندهم أيضًا في مذهبهم في مسألة الرزق، أن الرزق المراد به الحلال، وأن الحرام ليس برزق؛ لأنه ليس من الله، هذا جريًا على القاعدةٍ وطردًا لمذهبهم في أن الخير من الله والشر ليس منه، بل هم يخلقونه وعندهم أن العبد يخلُق فعله، ولذا جاء تشبيههم في الخبر بأنهم مجوس هذه الأمة.
طالب:.....
من زائدة من الناحية الإعرابية، وإلا هي معناها التأكيد، يعني تأكيد النفي، أما زيادتها فمن حيث الإعراب، من حيث الإعراب بحيث لو حذفتها استقام المعنى، لكن وجودها من حيث المعنى لابد منه.
"وَقِيلَ: وَعْدًا مِنْهُ حَقًّا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى فِي "النِّسَاءِ" وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، رِزْقُهَا رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ بِالصِّفَةِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْعُمُومُ وَمَعْنَاهَا الْخُصُوصُ".
نعم. ما معنى رُفع بالابتداء؟ "إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا"؟
طالب:....
نعم، مبتدأ مؤخر، مبتدأ مؤخر، رُفع بالابتداء، عند الكوفيين بالصفة، رُفع بالصفة، أين الصفة؟
طالب:.....
ماذا؟
طالب:.....
نعم
طالب:.....
مُتَعَلَّق بجار ومجرور.
طالب:.....
صفة التي هي متعلق الجار ومجرور، "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ" إلا كائنٌ "عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا"، مُتَعَلَّق الجار والمجرور هو الذي رفع رزقها.
"أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الدَّوَابِّ هَلَكَ قَبْلَ أَنْ يُرْزَقَ، وَقِيلَ: هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ دَابَّةٍ، وَكُلُّ دَابَّةٍ لَمْ تُرْزَقْ رِزْقًا تَعِيشُ بِهِ فَقَدْ رُزِقَتْ رُوحَهَا".
نعم رُزقت الوجود بعد أن كانت عدمًا.
"وَوَجْهُ النَّظْمِ بِمَا قَبْلُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ بِرِزْقِ الْجَمِيعِ، وَأَنَّهُ لَا يَغْفُلُ عَنْ تَرْبِيَتِهِ، فَكَيْفَ تَخْفَى عَلَيْهِ أَحْوَالُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْكُفَّارِ وَهُوَ يَرْزُقُكُمْ؟"
مكتوب معاشر أم معشر؟
مَعْشَرَ!
معشر.
"فكَيْفَ تَخْفَى عَلَيْهِ أَحْوَالُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْكُفَّارِ وَهُوَ يَرْزُقُكُمْ؟! وَالدَّابَّةُ كُلُّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ".
الدابة هي كل حيوان يدب على وجه الأرض فهو دابة، وإن خصه العُرف بذوات الأربع، حقيقة الدابة العرفية ذوات الأربع، لكن كل ما يدُب على الأرض فهو دابة، وهل يدخل الطير في الدابة أو لا يدخل؟
طالب:.....
نعم.
طالب:.........
يدخل أم ما يدخل؟
طالب:....
العطف "ولا طائرٍ".
طالب:.....
يقتضي المغايرة، يدل على أن الطير ليس من الدواب، مع أنه يمكن أن يقال: إن عطف الطائر من باب عطف الخاص على العام، فيدخل الطائر في الدابة.
"وَالرِّزْقُ حَقِيقَتُهُ مَا يَتَغَذَّى بِهِ الْحَيُّ، وَيَكُونُ فِيهِ بَقَاءُ رُوحِهِ وَنَمَاءُ جَسَدِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرِّزْقُ بِمَعْنَى الْمِلْكِ، لِأَنَّ الْبَهَائِمَ تُرْزَقُ، وَلَيْسَ يَصِحُّ وَصْفُهَا بِأَنَّهَا مَالِكَةٌ لِعَلَفِهَا، وَهَكَذَا الْأَطْفَالُ تُرْزَقُ اللَّبَنُ وَلَا يُقَالُ: إِنَّ اللَّبَنَ الَّذِي فِي الثَّدْيِ مِلْكٌ لِلطِّفْلِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} [الذاريات:22]، وَلَيْسَ لَنَا فِي السَّمَاءِ مِلْكٌ، وَلِأَنَّ الرِّزْقَ لَوْ كَانَ مِلْكًا لَكَانَ إِذَا أَكَلَ الْإِنْسَانُ مِنْ مِلْكِ غَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَكَلَ مِنْ رِزْقِ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ".
ملك بالضم غالبًا ما يُطلق على الولاية العظمى، مُلك، والمِلك يعني مِلك الأموال وما شابهها، نعم.
"لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا رِزْقَ نَفْسِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي "الْبَقَرَةِ" هَذَا الْمَعْنَى وَالْحَمْدُ لِلَّه، وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ: مِنْ أَيْنَ تَأْكُلُ؟ وَقَالَ: الَّذِي خَلَقَ الرَّحَى يَأْتِيهَا بِالطَّحِينِ، وَالَّذِي شَدَّقَ الْأَشْدَاقَ هُوَ خَالِقُ الْأَرْزَاقِ، وَقِيلَ لِأَبِي أُسَيْد: مِنْ أَيْنَ تَأْكُلُ؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ! إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ الْكَلْبَ أَفَلَا يَرْزُقُ أَبَا أُسَيْد؟ وَقِيلَ لِحَاتِمٍ الْأَصَمِّ: مِنْ أَيْنَ تَأْكُلُ؟ فَقَالَ: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَقِيلَ لَهُ: اللَّهُ يُنْزِلُ لَكَ دَنَانِيرَ وَدَرَاهِمَ مِنَ السَّمَاءِ؟ فَقَال: كَأَنَّ مَا لَهُ إِلَّا السَّمَاءُ! يَا هَذَا الْأَرْضُ لَهُ وَالسَّمَاءُ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يُؤْتِنِي رِزْقِي مِنَ السَّمَاءِ سَاقَهُ لِي مِنَ الْأَرْضِ، وَأَنْشَدَ :
وَكَيْفَ أَخَافُ الْفَقْرَ وَاللَّهُ رَازِقِي |
| وَرَازِقُ هَذَا الْخَلْقِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ |
تَكَفَّلَ بِالْأَرْزَاقِ لِلْخَلْقِ كُلِّهِمْ |
| وَلِلضَّبِّ فِي الْبَيْدَاءِ وَالْحُوتِ فِي الْبَحْرِ" |
نعم. ومع ذلك مع أنه تكفَّل بالأرزاق إلا أنه أمر بفعل الأسباب، فطلب الرزق من غير سبب حُمق، كما أن طلب الولد من غير نكاح جنون، إن كان الله يقدِّر لي أولادًا فسيأتون، المقدر كائن تزوجت أو ما تزوجت، يمكن أن يقول عاقل هذا الكلام؟
فلابد من مباشرة الأسباب، والسماء كما قال عمر -رضي الله عنه-: لا تمطر ذهبًا ولا فضة، «لوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو وَتَرُوحُ»، ولا تجلس في أوكارها تغدو وتروح، «تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بطانًا»، المقصود أن بذل الأسباب لطلب الرزق أمرٌ مطلوبٌ شرعًا، وفعل الأسباب ومباشرتها لا يعني أن هذا معارض للقدر ولا نقض للتوكل، بل هو من التوكل.
"وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي "نَوَادِرِ الْأُصُولِ" بِإِسْنَادِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ أَبَا مُوسَى وَأَبَا مَالِكٍ وَأَبَا عَامِرٍ فِي نَفَرٍ مِنْهُمْ، لَمَّا هَاجَرُوا وَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي ذَلِكَ وَقَدْ أَرْمَلُوا مِنَ الزَّادِ، فَأَرْسَلُوا رَجُلًا مِنْهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَسْأَلُهُ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى بَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سَمِعَهُ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا الْأَشْعَرِيُّونَ بِأَهْوَنِ الدَّوَابِّ عَلَى اللَّهِ، فَرَجَعَ وَلَمْ يَدْخُلْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَبْشِرُوا أَتَاكُمُ الْغَوْثُ، وَلَا يَظُنُّونَ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَوَعَدَهُ.
فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَتَاهُمْ رَجُلَانِ يَحْمِلَانِ قَصْعَةً بَيْنَهُمَا مَمْلُوءَةً خُبْزًا وَلَحْمًا فَأَكَلُوا مِنْهَا مَا شَاءُوا، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَوْ أَنَّا رَدَدْنَا هَذَا الطَّعَامَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؛ لِيَقْضِيَ بِهِ حَاجَتَهُ، فَقَالُوا لِلرَّجُلَيْنِ: اذْهَبَا بِهَذَا الطَّعَامِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَإِنَّا قَدْ قَضَيْنَا مِنْهُ حَاجَتَنَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا رَأَيْنَا طَعَامًا أَكْثَرَ وَلَا أَطْيَبَ مِنْ طَعَامٍ أَرْسَلْتَ بِهِ، قَالَ : «مَا أَرْسَلْتُ إِلَيْكُمْ طَعَامًا»، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ أَرْسَلُوا صَاحِبَهُمْ، فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ مَا صَنَعَ، وَمَا قَالَ لَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «ذَلِكَ شَيْءٌ رَزَقَكُمُوهُ اللَّهُ».
نعم هذا الخبر نقله المؤلف عن النوادر، نوادر الأصول للترمذي الحكيم، وهو غير صاحب السنن، غير أبي عيسى صاحب السنن المعروف، الإمام المشهور، هذا الترمذي الحكيم، له كتاب اسمه نوادر الأصول، وهذا الكتاب مشتمل على أخبار مرفوعة وموقوفة وقصص، وما تفرَّد به فهو ضعيف، والرجل فيه كلام طويل لهذا العلم؛ لأنه من المتصوفة، وله رأي في المعرفة، وله أيضًا قولٌ في الولاية وتعظيمها.
المقصود أنه الرجل منتَقَد، وليس بمعتدل الرأي عند عامة أهل العلم، وكتابه هذا النوادر فيه أخبار، وفيه أحاديث، لكن عامة ما يتفرد به هذا الكتاب ضعيف، وفيه شيء من الموضوعات، نعم.
طالب:.........
ماذا؟
طالب:.........
نعم.
طالب:......
مطبوع مختصر بدون أسانيد.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} أَيْ مِنَ الْأَرْضِ حَيْثُ تَأْوِي إِلَيْهِ، {وَمُسْتَوْدَعَهَا} أَيِ الْمَوْضِعَ الَّذِي تَمُوتُ فِيهِ فَتُدْفَنُ، قَالَهُ مِقْسَمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهم-، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: مُسْتَقَرُّهَا أَيَّامُ حَيَاتِهَا، {وَمُسْتَوْدَعَهَا} حَيْثُ تَمُوتُ وَحَيْثُ تُبْعَثُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {مُسْتَقَرُّهَا} فِي الرَّحِمِ، {وَمُسْتَوْدَعَهَا} فِي الصُّلْبِ. وَقِيلَ: يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا فِي الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ {وَمُسْتَوْدَعَهَا} فِي الْقَبْرِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّار: {حَسُنَتْ مُسْتَقْرَا وَمُقَامًا} [الفرقان:76]، وَ{سَاءَتْ مُسْتَقْرَا وَمُقَامًا} [الفرقان:65]، {كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} أَيْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} تَقَدَّمَ فِي "الْأَعْرَافِ" بَيَانُهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّه. {وَكَانَ عرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} بَيَّنَ أَنَّ خَلْقَ الْعَرْشِ وَالْمَاءِ قَبْلَ خَلْقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاء، قَالَ كَعْبٌ: خَلَقَ اللَّهُ يَاقُوتَةً خَضْرَاءَ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا بِالْهَيْبَةِ، فَصَارَتْ مَاءً يَرْتَعِدُ مِنْ مَخَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى".
العلماء يقولون يختلفون في أول المخلوقات هل هو العرش أو القلم؟ جاء في الحديث الصحيح: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ»، فهل معنى هذا أنه أول المخلوقات، أو أنه في أول خلقه يعني في أول أمره قيل له: اكتب؟ الآية يعني أنه قبل غيره، ولذا يقول العلامة ابن القيم -رحمه الله- في النونية:
|
المقصود أن العرش هو الأول عند جمهور العلماء.
نعم.
"فَلِذَلِكَ يَرْتَعِدُ الْمَاءُ إِلَى الْآنِ وَإِنْ كَانَ سَاكِنًا، ثُمَّ خَلَقَ الرِّيحَ فَجَعَلَ الْمَاءَ عَلَى مَتْنِهَا، ثُمَّ وَضَعَ الْعَرْشَ عَلَى الْمَاءِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ –عز وجل- {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} فَقَالَ: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كَانَ الْمَاءُ؟ قَالَ: عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَال: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، إِذْ جَاءَهُ قَوْمٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: "اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ قَالُوا: بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا فَدَخَلَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ: "اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلِ الْيَمَنِ إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ" قَالُوا قَبِلْنَا، جِئْنَا لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ، وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ مَا كَانَ؟ قَالَ: كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، ثُمَّ أَتَانِي رَجُلٌ فَقَالَ: يَا عِمْرَان.."
يا عمرانُ.
"يا عمرانُ أَدْرِكْ نَاقَتَكَ فَقَدْ ذَهَبَتْ، فَانْطَلَقْتُ أَطْلُبُهَا فَإِذَا هِيَ يَقْطَعُ دُونَهَا السَّرَابُ وَأيْمُ اللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّهَا قَدْ ذَهَبَتْ وَلَمْ أَقُمْ."
يعني فاته، فاته علمٌ عظيم بسبب هذه الدابة.
طالب:....
ماذا فيه؟
طالب:.....
لا، هي بالقطع، أيم الله، أيمُ نعم.
طالب:....
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} أَيْ خَلَقَ ذَلِكَ لِيَبْتَلِيَ عِبَادَهُ بِالِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعَلَى الْبَعْثِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَى {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} أَيُّكُمْ أَتَمُّ عَقْلًا، وَقَالَ الْحَسَنُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ أَيُّكُمْ أَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا، وَذُكِرَ أَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَرَّ بِرَجُلٍ نَائِمٍ فَقَالَ: يَا نَائِمُ قُمْ فَتَعَبَّدْ، فَقَالَ يَا رُوحَ اللَّهِ قَدْ تَعَبَّدْتُ، فَقَالَ وَبِمَ تَعَبَّدْتَ؟ قَالَ: قَدْ تَرَكْتُ الدُّنْيَا لِأَهْلِهَا، قَالَ: نَمْ فَقَدْ فُقْت".
فقتَ.
"قال: نم، فقد فقتَ الْعَابِدِينَ.
قال الضَّحَّاكُ: أَيُّكُمْ أَكْثَرُ شُكْرًا، وقال مُقَاتِلٌ: أَيُّكُمْ أَتْقَى لِلَّهِ، وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيُّكُمْ أَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ –عز وجل-، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- تَلَا: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} قَالَ: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَقْلًا، وَأَوْرَعُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ، وَأَسْرَعُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. فَجَمَعَ الْأَقَاوِيلَ كُلَّهَا، وَسَيَأْتِي فِي "الْكَهْفِ" هَذَا أَيْضًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ".
الفُضيل بن عِياض -رحمه الله- سُئل عن قوله: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} فقال: أخلصه وأصوبه، أخلصه وأصوبه.
"