التعليق على تفسير القرطبي - سورة يس (01)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-: "سورة يس، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِإِجْمَاعٍ، وَهِيَ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ آيَةً، إِلَّا أَنَّ فِرْقَةً قَالَتْ: "إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ}[يس:12] نَزَلَتْ فِي بَنِي سَلِمَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يَتْرُكُوا دِيَارَهُمْ، وَيَنْتَقِلُوا إِلَى جِوَارِ مَسْجِدِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى مَا يَأْتِي.
وَفِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ: عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «اقْرَءُوا يس عَلَى مَوْتَاكُمْ». وَذَكَرَ الْآجُرِّيُّ: مِنْ حَدِيثِ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَا مِنْ مَيِّتٍ يُقْرَأُ عَلَيْهِ سُورَةُ يس إِلَّا هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِ». وَفِي مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ يس فِي لَيْلَةٍ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ غُفِرَ لَهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ». خَرَّجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ أَيْضًا. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ: عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبًا، وَقَلْبُ الْقُرْآنِ يس، وَمَنْ قَرَأَ يس كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِقِرَاءَتِهَا قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عَشْرَ مَرَّاتٍ» قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَفِي إِسْنَادِهِ هَارُونُ أَبُو مُحَمَّدٍ شَيْخٌ مَجْهُولٌ، وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي الله عنه-، وَلَا يَصِحُّ حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ قِبَلِ إِسْنَادِهِ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.
وَعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ :«إِنَّ فِي الْقُرْآنِ لَسُورَةً تَشْفَعُ لقرائها".
لقارئها.
طالب: لقارئها؟
نعم.
" لِقَارِئِهَا وَيُغْفَرُ لِمُسْتَمِعِهَا، أَلَا وَهِيَ سُورَةُ يس، تُدْعَى فِي التَّوْرَاةِ المعممة".
المعمة.
"الْمُعِمَّةِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْمُعِمَّةُ؟ قَالَ: تَعُمُّ صَاحِبَهَا بِخَيْرِ الدُّنْيَا، وَتَدْفَعُ عَنْهُ أَهَاوِيلَ الْآخِرَةِ، وَتُدْعَى الدَّافِعَةَ وَالْقَاضِيَةَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: تَدْفَعُ عَنْ صَاحِبِهَا كُلَّ سُوءٍ، وَتَقْضِي لَهُ كُلَّ حَاجَةٍ، وَمَنْ قَرَأَهَا عَدَلَتْ لَهُ عِشْرِينَ حَجَّةً، وَمَنْ سَمِعَهَا كَانَتْ لَهُ كَأَلْفِ دِينَارٍ تَصَدَّقَ بِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَنْ كَتَبَهَا وَشَرِبَهَا أَدْخَلَتْ جَوْفَهُ أَلْفَ دَوَاءٍ وَأَلْفَ نُورٍ وَأَلْفَ يَقِينٍ وَأَلْفَ رَحْمَةٍ وَأَلْفَ رَأْفَةٍ وَأَلْفَ هُدًى، وَنُزِعَ عَنْهُ كُلُّ دَاءٍ وَغِلٍّ». ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، وَالتِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مُسْنَدًا.
وَفِي مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ: عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ :قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما-: "مَنْ قَرَأَ "يس" حِينَ يُصْبِحُ أعطى".
أعطي.
" أُعْطِيَ يُسْرَ يَوْمِهِ حَتَّى يُمْسِيَ، وَمَنْ قَرَأَهَا فِي صَدْرِ لَيْلَتِهِ أُعْطِيَ يُسْرَ لَيْلَتِهِ حَتَّى يُصْبِحَ". وَذَكَرَ النَّحَّاسُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: "لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبٌ، وَقَلْبُ الْقُرْآنِ "يس"، مَنْ قَرَأَهَا نَهَارًا كُفِيَ هَمَّهُ، وَمَنْ قَرَأَهَا لَيْلًا غُفِرَ ذَنْبُهُ". وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: "يَقْرَأُ أَهْلُ الْجَنَّةِ "طَه" وَ "يس" فَقَطْ".
رَفَعَ هَذِهِ الْأَخْبَارَ الثَّلَاثَةَ الْمَاوَرْدِيُّ فَقَالَ: "رَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٌ قَلْبًا، وَإِنَّ قَلْبَ الْقُرْآنِ يس، وَمَنْ قَرَأَهَا فِي لَيْلَةٍ أُعْطِيَ يُسْرَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَمَنْ قَرَأَهَا فِي يَوْمٍ أُعْطِيَ يُسْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَإِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يُرْفَعُ عَنْهُمُ الْقُرْآنُ، فَلَا يَقْرَءُونَ شَيْئًا إِلَّا طَهَ وَيس».
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: "بَلَغَنِي أَنَّ مَنْ قَرَأَ سُورَةَ "يس" لَيْلًا لَمْ يَزَلْ فِي فَرَحٍ حَتَّى يُصْبِحَ، وَمَنْ قَرَأَهَا حِينَ يُصْبِحُ لَمْ يَزَلْ فِي فَرَحٍ حَتَّى يُمْسِيَ، وَقَدْ حَدَّثَنِي مَنْ جَرَّبَهَا"، ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: "وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ التَّجْرِبَةُ".
وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ، عَنْ عمرو بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: "مَنْ وَجَدَ فِي قَلْبِهِ قَسَاوَةً فَلْيَكْتُبْ "يس" فِي جَامٍ بِزَعْفَرَانٍ ثُمَّ يَشْرَبُهُ، حَدَّثَنِي أَبِي-: رَحِمَهُ اللَّهُ- قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْرَمُ بْنُ حَوْشَبٍ، عَنْ بَقِيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ أَشْرَفَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الْقُرْآنُ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ دُونَ اللَّهِ، وَفَضْلُ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ، فَمَنْ وَقَّرَ الْقُرْآنَ فَقَدْ وَقَّرَ اللَّهَ، وَمَنْ لَمْ يُوَقِّرِ الْقُرْآنَ لَمْ يُوَقِّرِ اللَّهَ، وَحُرْمَةُ الْقُرْآنِ عِنْدَ اللَّهِ كَحُرْمَةِ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ، الْقُرْآنُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَمَاحِلٌ مُصَدَّقٌ، فَمَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ شُفِّعَ، وَمَنْ مَحَلَ بِهِ الْقُرْآنُ صُدِّقَ، وَمَنْ جَعَلَهُ أَمَامَهُ قَادَهُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَهُ سَاقَهُ إِلَى النَّارِ، وَحَمَلَةُ الْقُرْآنِ هُمُ الْمَحْفُوفُونَ بِحُرْمَةِ اللَّهِ، الْمُلْبَسُونَ نُورَ اللَّهِ، الْمُعَلَّمُونَ كَلَامَ اللَّهِ، مَنْ وَالَاهُمْ فَقَدْ وَالَى اللَّهَ، وَمَنْ عَادَاهُمْ فَقَدْ عَادَى اللَّهَ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا حَمَلَةَ الْقُرْآنِ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ بِتَوْقِيرِ كِتَابِهِ يَزِدْكُمْ حُبًّا وَيُحَبِّبْكُمْ إِلَى عِبَادِهِ، يُدْفَعُ عَنْ مُسْتَمِعِ الْقُرْآنِ بَلْوَى الدُّنْيَا، وَيُدْفَعُ عَنْ تَالِي الْقُرْآنِ بَلْوَى الْآخِرَةِ، وَمَنِ اسْتَمَعَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَانَ لَهُ أَفْضَلُ مِمَّا تَحْتَ الْعَرْشِ إِلَى التُّخُومِ، وَإِنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَسُورَةً تُدْعَى الْعَزِيزَةَ، وَيُدْعَى صَاحِبُهَا الشَّرِيفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، تَشْفَعُ لِصَاحِبِهَا فِي أَكْثَرِ مِنْ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ، وَهِيَ سُورَةُ يس».
وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ يس لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَصْبَحَ مَغْفُورًا لَهُ»، وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ دَخَلَ الْمَقَابِرَ فَقَرَأَ سُورَةَ يس خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ لَهُ بِعَدَدِ حُرُوفِهَا حَسَنَاتٌ»".
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد،
فقد حكم جمع من الحفاظ أنه لم يصح من هذه الأحاديث شيء، هذه الأحاديث التي ذكرها المؤلف كلها ضعيفة؛ بل منها ما هو موضوع، وبعضهم حَسَّن حديث: «اقْرَءُوا يس عَلَى مَوْتَاكُمْ»، حَسَّنه بطرقه، ومراده من الحديث: أنها تقرأ على المحتضر، لا مَنْ مات بالفعل، وعللوا ذلك كما جاء في بعض روايات الحديث، أنها تسهِّل خروج الروح، ويُسَهْل بها على الميت، وما عَدَا ذلك مما ذكرها المؤلف كله ضعاف؛ بل منها ما هو موضوع، وعلامات الوضع تلوح على بعضها.
وعلى كل حال ليس فيها فضلٌ خاص بها إنما فيها ما في القرآن، من أنها كلام الله، وفضله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه؛ ذلك أن له بكل حرف عشر حسنات، مَنْ قرأها فله بكل حرف عشر حسنات، في قراءتها فضلٌ عظيم، لكن ما ذُكر في الباب من تخصيصها بهذه الأحاديث فلا يثبت منها شيء.
طالب:.....
نعم.
طالب: ........
على كل حال مَنْ أُشْرِبَ قلبه حب البدع صُرِفَ عن السنة، وما حلَّت البدع في قلب إلا مُحِيَ منه بقدرها من السنة، فإذا أُشْرِبَ قلبه مثل هذا الترغيب الذي لم يثبت، صُرِفَ عن الترغيب الصحيح، هذا مُجرّب، وجاءت به بعض الآثار.
طالب:.....
التجربة لا تكفي، وكون الكلام صحيحًا في نفس الأمر لا يعني أنه يصح مرفوعًا إلى النَّبِي- عليه الصلاة والسلام- يعني؛ تستطيع أن تحلف أن الواحد نصف الاثنين، صح أم لا؟ تحلف على هذا، ولا تجد مَنْ يخالفك، وهذا هو الواقع، وهذا أمر مجمع عليه، لكن لا تستطيع أن ترفعه إلى النَّبِي -عليه الصلاة والسلام-؟
ليس كل ما يصح يصح رفعه، التجربة لا تُثْبِت، نعم، إذا كان الأمر مغيبًا ووقع كما أخبر النَّبِي- عليه الصلاة والسلام-، ولو كان في إسناده ضعف، فبعض أهل العلم يُثْبِت في ذلك، يعني إذا كان من الأمور المغيبة، جاء في خبر ضعيف إنه يكون في آخر الزمان كذا، ووقع بالصورة المشروحة، بعضهم يقول: إنَّ وقوعه يدل على أنَّ راويه الضعيف حفظه، فهو قرينة على ثبوته، ومع ذلك المُعَوَّل على الأسانيد، المعول على الأسانيد.
طالب:.....
إذا وقع ما أُخْبِرَ به في خبر ما، فبعض أهل العلم يُثْبِته؛ لأنه وقع مطابقًا لهذا الخبر، وإن كان في إسناده ضعف، والضعيف لا يعني أن كل ما يقوله يرد؛ لأنه قد يضبطه ضعيف، فيدل على أنه ضبط هذا الخبر، كما أنه لو وافقه غيره من الرواة دَلَّ على أنه ضبط هذا الخبر، وإن كان ضعيفًا، هذا منهج لبعض أهل العلم يُثْبِت بها إن صح.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}[يس:1-5].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يس}[يس:1]. في {يس} أَوْجُهٌ مِنَ الْقِرَاءَاتِ: قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَالْكِسَائِيُّ: {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} بِإِدْغَامِ النُّونِ فِي الْوَاوِ وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ".
لأنها نون ساكنة وقع بعدها الواو.
"وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ: "يَسِنْ" بِإِظْهَارِ النُّونِ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ :"يَسِنَ" بِنَصْبِ النُّونِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ: "يَسِنِ" بِالْكَسْرِ. وَقَرَأَ هَارُونُ الْأَعْوَرُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ السَّمَيْقَعِ: "يَسِنُ" بِضَمِّ النُّونِ، فَهَذِهِ خَمْسُ قِرَاءَاتٍ. الْقِرَاءَةُ الْأُولَى: بِالْإِدْغَامِ عَلَى مَا يَجِبُ فِي الْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ النُّونَ تُدْغَمُ فِي الْوَاوِ، وَمَنْ بَيَّنَ قَالَ: سَبِيلُ حُرُوفِ الْهِجَاءِ أَنْ يُوقَفَ عَلَيْهَا".
لكن هل الإدغام واجب في العربية أو واجب في القرآن؟ يعني في الكلام العادي إذا وقع نون ساكنة وبعدها واو في الكلام العادي تًدغم، أم أن هذا خاص بأحكام القرآن؟ يعني لو أن الإنسان قرأ حديثًا، يقرأ في صحيح البخاري يطبق عليه أحكام التجويد مصيب أم مخطئ؟
طالب: مخطئ.
مخطئ؛ لأن هذا يُشَبِّه كلام المخلوق بكلام الخالق، والأحكام هذه خاصة بالقرآن، قال: "على ما يجِب في العربية"، ما يجِب في العربية هذا.
"وَمَنْ بَيَّنَ قَالَ: سَبِيلُ حُرُوفِ الْهِجَاءِ أَنْ يُوقَفَ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِدْغَامُ فِي الْإِدْرَاجِ. وَذَكَرَ سِيبَوَيْهِ النَّصْبَ وَجَعَلَهُ مِنْ جِهَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا وَلَا يَصْرِفُهُ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ بِمَنْزِلَةِ "هَابِيلَ"، وَالتَّقْدِيرُ: اذْكُرْ "يَسِنَ". وَجَعَلَهُ سِيبَوَيْهِ اسْمًا لِلسُّورَةِ. وَقَوْلُهُ الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى الْفَتْحِ مِثْلَ "كَيْفَ، وَأَيْنَ". وَأَمَّا الْكَسْرُ فَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّهُ مُشَبَّهٌ بِقَوْلِ الْعَرَبِ: جَيْرِ لَا أَفْعَلُ فَعَلَى هَذَا".
لأن هذا مبني على الكسر، مثل: الحذامي والقطامي.
"فَعَلَى هَذَا يَكُونُ {يَسِنِ} قَسَمًا. وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما-. وَقِيلَ: مُشَبَّهٌ: بِأَمْسِ، وَحَذَامَ، وَهَؤُلَاءِ، وَرَقَاشَ. وَأَمَّا الضَّمُّ فَمُشَبَّهٌ: بِمُنْذُ، وَحَيْثُ، وَقَطُّ، وَبِالْمُنَادَى الْمُفْرَدِ إِذَا قُلْتَ: يَا رَجُلُ، لِمَنْ يَقِفُ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ السَّمَيْقَعِ وَهَارُونُ: "وَقَدْ جَاءَ فِي تَفْسِيرِهَا: يَا رَجُلُ، فَالْأَوْلَى بِهَا الضَّمُّ" قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ".
لأنها بمنزلة المنادى المفرد، والمنادى المفرد بناؤه على الضم، وإن كان في محل نصب.
"قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: "{يس} وَقْفٌ حَسَنٌ، لِمَنْ قَالَ: هُوَ افْتِتَاحٌ لِلسُّورَةِ. وَمَنْ قَالَ: مَعْنَى {يس} يَا رَجُلُ لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ". وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ مَعْنَاهُ: "يَا إِنْسَانُ، وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ}[الصافات:130]".
امشِ على القراءة التي مشى عليها المؤلف.
"وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَلامٌ عَلَى آلْ يَاسِينَ} أَيْ: عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ". وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَدَلِيلُهُ: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}[يس:3]. قَالَ السَّيِّدُ الْحِمْيَرِيُّ:
يَا نَفْسُ لَا تَمْحَضِي بِالنُّصْحِ جَاهِدَةً |
عَلَى الْمَوَدَّةِ إِلَّا آلَ يَاسِينَ |
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ".
يعني على آل محمد -عليه الصلاة والسلام- "يَا نَفْسُ" هذه منادى مضاف إلى ياء المتكلم، يجوز فيه ما يجوز في نظرائه من اللغات الخمس، تقول: "يا نَفْسُ" "يَا نَفْسِ" "يَا نَفْسَ".
"وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: "مَعْنَاهُ يَا سَيِّدَ الْبَشَرِ". وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ; قَالَه مَالِكٌ: رَوَى عَنْهُ أَشْهَبُ قَالَ: "سَأَلْتُهُ: هَلْ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَسَمَّى بِيَاسِينَ؟ قَالَ: مَا أَرَاهُ يَنْبَغِي؛ لِقَوْلِ اللَّهِ: {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ}[يس:1،2]، يَقُولُ: هَذَا اسْمِي {يس}".
وماذا عن قوله تعالى: {سَلامٌ عَلَى آلْ يَاسِينَ}[الصافات:130]؟ هذا سُمِيَ به، ويقول: لا يجوز التسمية به؛ لأنه من أسماء الله، لا يجوز التسمية به على هذا القول باعتباره حرفًا، مكتوبًا على سورة الحرف، مثل ما في صدر هذه السورة، أما إذا كُتِبَ على نطقه بياء، ثم ألف، ثم سين، ثم ياء، ثم نون، يُسَمَّى به؛ لأنه حرف ما يُدْرَى ما المراد به، فلعله متضمن لوصفٍ يختص بالله - جلَّ وعلا-، فإذا سُمِيَ به وهو حرف من الحروف المقطعة ولا يعرف معناه، فإنه حينئذٍ قد يقع في التسمية بما يختص الله به، كالفظ الجلالة، أنت ما تدري هذا حرف من الحروف المقطعة ما تدري ما معناه؛ لأن مذهب كثير من أهل العلم في الحروف المقطعة: أن الله أعلم بالمرد بها، وإذا قلت: "ياسين" رسمته على نطقه ياء، ألف، سين، ياء، نون، فهل يجوز أن تُكْتَب في صدر السورة بهذه الصورة؟ ما يمكن، فإذا كتبته على ما تنطق به جاز التسمية به، ولذ قال: {سَلامٌ عَلَى آلْ يَاسِينَ}[الصافات:130] يعني: على هذه القراءة، القراءة الأخرى: {إِلْ يَاسِينَ} يراد به حينئذٍ: إلياس، وتزاد الياء والنون للتأكيد.
"قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: "هَذَا كَلَامٌ بَدِيعٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَسَمَّى بِاسْمِ الرَّبِّ إِذَا كَانَ فِيهِ مَعْنًى مِنْهُ؛ كَقَوْلِهِ: عَالِمٌ، وَقَادِرٌ، وَمُرِيدٌ، وَمُتَكَلِّمٌ. وَإِنَّمَا مَنَعَ مَالِكٌ مِنَ التَّسْمِيَةِ بِـ {يس}؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ لَا يُدْرَى مَعْنَاهُ، فَرُبَّمَا كَانَ مَعْنَاهُ يَنْفَرِدُ بِهِ الرَّبُّ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَلامٌ عَلَى آلْ يَاسِينَ}[الصافات:130]؟
قُلْنَا: ذَلِكَ مَكْتُوبٌ بِهِجَاءٍ فَتَجُوزُ التَّسْمِيَةُ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي لَيْسَ بِمُتَهَجَّى هُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ مَالِكٌ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِشْكَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ".
لكن الأجر المرتب على قراءة {يس} في صدر هذه السورة، والأجر المرتب على قراءة: {يس} المسبوقة: بـ {آل}، {يس} مكتوبة بحرفين؛ "ياء، وسين" فقط، وهذه مكتوبة: {سَلامٌ عَلَى آلْ يَاسِينَ} خمسة حروف، فهل الأجر المرتب على: {يس} في صدر السورة هو الأجر المرتب على: {آلْ يَاسِينَ}؟ لأن {يس} كتابتها حرفان؛ "ياء، وسين" فقط، و{آلْ يَاسِينَ}، {يَاسِينَ} خمسة حروف: ياء، ألف، سين، ياء، نون.
طالب: ........
نعم، يعني: هذا الخلاف في المراد بالحرف، هل المراد به حرف المعنى، أو حرف المبنى؟ النَّبِي -عليه الصلاة والسلام- يقول: «لَا أَقُول: "الم" حَرْف، لَكِن أَلِفٌ حَرْف، وَلَامٌ حَرْف، وَمِيمٌ حَرْف» مع أنها ينطق بها، إذا قلت: "أ" ثلاثة حروف: أ، لام، فاء، ثم بعد ذلك: "ميم" ثلاثة حروف، و"لام" كذلك؛ تسعة حروف، ومقتضى هذا أن تكون: تسعين حسنة، والنَّبِي –عليه الصلاة والسلام- يقول: «أَلِفٌ حَرْف، وَلَامٌ حَرْف، وَمِيمٌ حَرْف»، يعني ثلاثة حروف، بثلاثين حسنة، يعني هل {الم} أجرها مثل: "ألم" أو أعظم؟
هذه مثل ما تفضل الأخ. يعني مَرَدُّ ذلك وسببه ومنشئه؛ الخلاف في الحرف، هل المراد به: حرف المبنى أو حرف المعنى؟
إذا قلنا: حرف المبنى زاد الأجر بلا شك، والقرآن أكثر من ثلاثمائة ألف حرف، فيكون في الختمة أكثر من ثلاثة ملايين حسنة، وإذا قلنا: حرف المعنى، فالقرآن فيه سبعون ألف كلمة، فيكون أجره سبعمائة ألف حسنة، على الربع أو أقل من الربع، شيخ الإسلام -رحمه الله- يميل إلى أن المراد: حرف المعنى، وعلى هذا يقل الأجر، وما دام الأمر محتملًا، وفي لغة العرب يطلق الحرف على هذا وعلى هذا، فاللائق بفضل الله -جلَّ وعلا- أن يكون المراد: حرف المبنى، فذلك أعظم في الأجور، وهو اللائق بكرم الله -جلَّ وعلا-.
"وقال بعض العلماء: "افتتح الله هذه السورة "بالياء والسين"، وفيهما مجمع الخير، ودل المفتتح على أنه قلب، والقلب أمير على الجسد، وكذلك {يس} أمير على سائر السور، مشتمل على جميع القرآن".
هذا مرده إلى ما ورد في أن: «قَلْبُ الْقُرْآنِ يس»، وإلا كونها تُعرف بأنها قلب من مجرد هذه الحروف، ما فيه ما يدل على ذلك، لكن القائل مستصحب ما جاء في هذه السورة من أنها قلب القرآن، ولو لم يَرِد ما انتبه إلى مثل هذا الكلام؛ لأنه ما فيه شيء يدل عليه.
"ثم اختلفوا فيه أيضًا، فقال سعيد بن جبير وعكرمة: "هو بلغة الحبشة". وقال الشعبي: "هو بلغة طيء". وقال الحسن: "بلغة كلب". وقال الكلبي: "هو بالسريانية فتكلمت به العرب فصار من لغتهم".
على ما عُرِفَ من الخلاف بين أهل العلم في اشتمال القرآن على ألفاظ أعجمية، وقلنا مرارًا: إن القرآن مشتمل على أسماء أعلام أعجمية بالإجماع، إبراهيم أعجمي، والقرآن لم يشتمل على تراكيب أعجمية بالإجماع، ما فيه جُمَل أعجمية، كلمات أعجمية غير الأعلام، هذا المختلف فيها، ومنها هذه الكلمات، لكن الذين قرروا أن فيه بعض الألفاظ الأعجمية، قالوا: إن هذا مما تواردت فيه اللغات، يعني تكلم به العرب، كما تكلم به غيرهم، وبهذا ينتفي كون القرآن فيه شيء مما لم تنطق به العرب؛ لأنه عربي.
"وقد مضى هذا المعنى في {طه} وفي مقدمة الكتاب مستوفى، وقد سرد القاضي عياض أقوال المفسرين في معنى {يس} فحكى ".
لأنه احتاج لذكر {يس} في أسماء النَّبِي -عليه الصلاة والسلام- في "الشِّفَا بالتعريف بحقوق المصطفى" -عليه الصلاة والسلام-.
"فحكى أبو محمد مكي أنه روي عن النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لِي عِنْدَ رَبِي عَشَرَةُ أَسْمَاء»، ذكر أن منها: «طَه وَيَس» اسمان له.
قلت: وذكر الماوردي عن علي -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إِنَّ الله تَعَالَى أَسْمَانِي فِي الْقُرْآن سَبْعَةَ أَسْمَاء: محَمْدُ، وَأَحْمَدُ، وَطَه، وَيَس، وَالْمُزَّمِلُ، وَالْمُدَّثِرُ، وَعَبْدُ الله»، قاله القاضي. وحكى أبو عبد الرحمن السلمي عن جعفر الصادق أنه أراد: "يا سيد"، مخاطبة لنبيه -صلى الله عليه وسلم-. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: {يس} يا إنسان، أراد محمدًا -صلى الله عليه وسلم-. وقال: "هو قسم وهو من أسماء الله سبحانه".
وقال الزجاج: "قيل: معناه: يا محمد، وقيل: يا رجل، وقيل: يا إنسان". وعن ابن الحنفية: {يس} يا محمد".
وعن كعب: {يس}، قسم أقسم الله به قبل أن يخلق السماء والأرض بألفي عام". قال: يا محمد {إنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِين}[يس:3].
ثم قال: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ}[يس:2] فإن قُدِّرَ أنه من أسمائه -صلى الله عليه وسلم-، وصح فيه أنه قسم، كان فيه من التعظيم ما تقدم، ويؤكد فيه القسم عطف القسم الآخر عليه، وإن كان بمعنى النداء فقد جاء قسم آخر بعده لتحقيق رسالته والشهادة بهدايته".
يعني: هل هم من المقدم والمؤخر {يس} {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِين}، يعني: "يا محمد، إنك لمن المرسلين"، ثم بعد ذلك: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ}، أو هو من توالي الأقسام وجوبها واحد؟ {يس} قسم، {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} قسم، {إنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِين} جواب القسمين؟ هذا مُفَادُ كلامه، وأما ما جاء من أسمائه: يس وطه، وغيرهما من الأسماء، نعم خوطب بـ {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}[المزمل:1]، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}[المدثر:1]، {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ...}[الجن:19]، وله أسماء ثابتة، وأسماء الحاشر، الماحي، العاقب -عليه الصلاة والسلام- محمد، وأحمد، هذه من أسمائه الثابتة، وأما يس وطه، فهذه من الأسماء المختلف فيها، وهناك أسماء هي مجرد أوصاف، جاءت بأخبار وآثار بعضها ثابت، وكثير منها لا يَثْبُت، ودُونت في المصنفات، وعلى الكتب في سيرته -عليه الصلاة والسلام- وشمائله، وأسماء دُوِّنَ منها شيء كثير حتى وصلت إلى ما يقرب من المائة، وكُتبت أيضًا على جدار المسجد النبوي القديم، وكثير منها أوصاف.
طالب: حديث علي -رضي الله عنه، أحسن الله إليكم- يصح أم لا؟ «إِنَّ الله تَعَالَى أَسْمَانِي فِي الْقُرْآن».
ما ذكره المارودي؟
طالب: نعم.
على كل حال ثبوته فيه نظر، أما محمد، وأحمد، المزمل، المدثر، عبد الله، فهذه ثابتة بالقرآن، أما: يس، وطه، هذه هي المختلف فيها، والخبر بمفرده لا يثبت، لكن الكلام على وقوعه في القرآن واقع.
"وإن كان بمعنى النداء؛ فقد جاء قسم آخر بعده لتحقيق رسالته والشهادة بهدايته، أقسم الله تعالى باسمه، وكتابه أنه لمن المرسلين بوحيه إلى عباده، وعلى صراط مستقيم من إيمانه، أي طريق لا اعوجاج فيه ولا عدول عن الحق. قال النقاش: "لم يقسم الله تعالى لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتابه إلا له، وفيه من تعظيمه وتمجيده على تأويل من قال: إنه "يا سيد" ما فيه، وقد قال: -عليه الصلاة والسلام-: «أنَا سَيِد وَلَدِ آدَم»" انتهى كلامه".
يعني سين هذه مختصرة من "سيد"، سين الحرف الأول من: "سيد"، فكأنه قال: يا سيد، وقد أخبر النَّبِي -عليه الصلاة والسلام- عن نفسه: «أنَا سَيِد وَلَدِ آدَم» ، فيكون على هذا نداءً، وليس بقسم.
"وحكى القشيري قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "قالت كفار قريش لست مرسلاً، وما أرسلك الله إلينا، فأقسم الله بالقرآن المُحْكَم أن محمدًا من المرسلين".
و{الْحَكِيمِ}: المُحْكَم حتى لا يتعرض لبطلان وتناقض، كما قال تعالى: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}[هود:1]. وكذلك أحكم في نظمه ومعانيه فلا يلحقه خلل، وقد يكون الحكيم في حق الله بمعنى المُحْكِم، بكسر الكاف، كالأليم: بمعنى المؤلم".
هذا باعتباره اسمًا من أسماء الله الحسنى، الحكيم، {العزيز الحكيم}، وثابت في أسمائه، فهو المُحْكِم اسم فاعل مُحْكِم لِصَنْعَتِه، لأفعاله، لأحكامه، لأوامره، لنواهيه، مُحْكِم لكل شيء -جلَّ وعلا- وأما بالنسبة باعتباره وصفًا للقرآن {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} فهو مُحْكَم متقن من قِبَلِ قائله، وهو الله –جلَّ وعلا-.
"قوله تعالى: {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[يس:4]، أي: دين مستقيم وهو الإسلام. وقال الزجاج: "على طريق الأنبياء الذين تقدموك"، وقال: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}[يس:3] خبر "إن"، و{عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} خبر ثانٍ، أي: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}، وإنك: {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}".
خبر "إِنَّ" {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}، {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} جملة تامة من "إنَّ" وما دخلت عليها من اسمها وخبرها، لكن خبرها المقترن باللام، التي يُسَمُونَها المُزَحْلَقة، {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} هذا خبرها.
"وقيل: المعنى: {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} على استقامة، فيكون قوله: {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} من صلة المرسلين أي إنك لمن المرسلين الذين أُرْسِلُوا على طريقة مستقيمة، كقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ}[الشورى:52-53] أي: الصراط الذي أمر الله به.
قوله تعالى: {تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}[يس:5]. قرأ ابن عامر، وحفص، والأعمش، ويحيى، وحمزة، والكسائي، وخلف: {تَنزِيلَ} بنصب اللام على المصدر، أي: نزل الله ذلك تنزيلاً. وأضاف المصدر فصار معرفة، كقوله: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ}[محمد:4]".
يعني: مصدر مُؤَكِد لفعلٍ محذوف، أنزله أو نزله تنزيلًا.
"كقوله: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ}[محمد:4] أي: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ}. والباقون :{تَنزِيلُ} بالرفع على خبر ابتداء محذوف، أي هو تنزيل، أو الذي أنزل إليك: {تَنزِيلُ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} هذا؛ وقرئ: "تَنزِيلِ" بالجر على البدل من القرآن، والتنزيل يرجع إلى القرآن. وقيل: إلى النَّبِي -صلى الله عليه وسلم-، أي: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}[يس:3]، وإنك: {تَنزِيلُ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}. فالتنزيل على هذا: بمعنى الإرسال".
لا بمعنى الإنزال من العلو إلى السُفُل، كما هو شأن القرآن.
"قال الله تعالى: {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا، رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} [الطلاق:10-11]. ويقال: أرسل الله المطر وأنزله بمعنى. ومحمد -صلى الله عليه وسلم- رحمة الله أنزلها من السماء. ومن نصب قال: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}[يس:3] إرسالاً من العزيز الرحيم. و{الْعَزِيزِ}: المنتقم ممن خالفه، {الرَّحِيمِ}: بأهل طاعته".
يعني التعقيب بمثل هذا، والجمع بين هذين الاسمين العزيز الرحيم، يعني التناسب الغالب العزيز الحكيم، الغفور الرحيم، ويُعَقَب بالعزيز الحكيم لبعض الأحكام التي فيها شدة، الغفور الرحيم يُعَقَب بها في الأحكام التي فيها سهولة، والجمع بين العزيز الرحيم أنه مع كونه عزيزًا منتقمًا ممن خالفه، أيضًا بالمقابل هو رحيمٌ بمن أطاعه، كما جاء الجمع بينهما مناسبًا في مثل هذا الموضع؛ لأنه لم يتعقب أحكامًا لا فيها شدة، ولا فيها سهولة، إنما جمع بينهما من باب: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ}[الحجر:49-50]، والقرآن مثاني كله على هذا.
"{مَا} لا موضع لها من الإعراب عند أكثر أهل التفسير، منهم: قتادة؛ لأنها نفي، والمعنى: "لتنذر قومًا ما أتى آباءهم قبلك نذير". وقيل: هي بمعنى: "الذي"، فالمعنى: "لتنذرهم مثل ما أنذر آباؤهم"، قاله ابن عباس".
وفرق بين أن تكون {مَا} نافية، يعني "لم ينذر آباؤهم"، وبين كونها موصولة: "لتنذر قومًا الذين أنذر آباؤهم"، وبين كونها مصدرية "لتنذر قومًا كإنذار آبائِهم"، فرق بين هذا كونه يُثْبَت "الإنذار لآبِائهم"، وبين كونه يُنْفَى، ترتب عليه حكم أهل الفترة؛ لأنه قبل مجيء النَّبِي -عليه الصلاة والسلام- الله -جلَّ وعلا- يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، معناه أهل الفترة لا يُعذبون حتى يرسل الرسول بالنص، وإذا قلنا: إن "ما" هذه بمعنى الذي، وأنهم على إرثٍ من إرثِ أبيهم إبراهيم، بلغتهم الدعوات السابقة بالتواتر، وخالفوا وأشركوا إذًا يعذبون، والنَّبِي -عليه الصلاة والسلام- أثبت في كثير من الأحاديث: أنهم يعذبون، حتى قال لمن سأله عن أبيه: «إِنَ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّار»، دلَّ على أنهم يعذبون لأنهم بلغتهم الدعوات السابقة بالتواتر.
"فالمعنى: "لتنذرهم مثل ما أنذر آباؤهم"، قاله ابن عباس-رضي الله عنهما-، وعكرمة، وقتادة أيضًا. وقيل: إن {مَا} والفعل مصدر، أي: "لتنذر قومًا إنذار آبائِهم". ثم يجوز أن تكون العرب قد بلغتهم بالتواتر أخبار الأنبياء، فالمعنى: "لم ينذروا برسول من أنفسهم". ويجوز أن يكون بلغهم الخبر، ولكن غفلوا وأعرضوا ونَسُوا. ويجوز أن يكون هذا خطابًا لقوم لم يبلغهم خبر نَبِي، وقد قال الله تعالى: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} [سبأ:44]".
يعني {مَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} يختص بهم، يعني: منهم، من العرب.
"وقال: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}[السجدة:3] أي: لم يأتهم نَبِي".
أما مَنْ لم تبلغه دعوة نَبِي، سواء منهم، أو من غيرهم، فإن هؤلاء كما قرَّر ابن القيم -رحمه الله- في أواخر: "طريق الهجرتين"، هؤلاء يُمْتَحَنُون يوم القيامة.
"وعلى قول من قال: بلغهم خبر الأنبياء، فالمعنى: فهم معرضون الآن متغافلون عن ذلك، ويقال للمعرض عن الشيء: إنه غافل عنه. وقيل: {فَهُمْ غَافِلُونَ} عن عقاب الله.
قوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ}[يس:7]، أي: وجب العذاب على أكثرهم، {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} بإنذارك. وهذا فيمن سبق في علم الله أنه يموت على كفره، ثم بين سبب تركهم الإيمان فقال: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا}[يس:8]. قيل: نزلت في أبي جهل بن هشام وصاحبيه المخزوميين؛ وذلك: "أن أبا جهل حلف لئن رأى محمدًا يصلي ليرضخن رأسه بحجر، فلما رآه ذهب فرفع حجرًا ليرميه، فلما أَوْمَأ إليه رجعت يده إلى عنقه، والتصق الحجر بيده، قاله ابن عباس-رضي الله عنهما-، وعكرمة وغيرهما، فهو على هذا تمثيل، أي هو بمنزلة من غُلَّت يَدُه إلى عنقه، فلما عاد إلى أصحابه أخبرهم بما رأى، فقال الرجل الثاني -وهو الوليد بن المغيرة-: أنا أرضخ رأسه. فأتاه وهو يصلي على حالته ليرميه بالحجر، فأعمى الله بصره، فجعل يسمع صوته ولا يراه، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه، فقال: والله ما رأيته ولقد سمعت صوته. فقال الثالث: والله لَأَشْدَخَنَّ أنا رأسه، ثم أخذ الحجر، وانطلق فرجع القَهْقَرَى يَنْكِصُ على عقبيه حتى خَرَّ على قفاه مغشيًا عليه. فقيل له: ما شأنك؟ قال: شأني عظيم، رأيت الرجل فلما دنوت منه، وإذا فحلٌ يَخْطِرُ بذنبه، ما رأيت فحلاً قط أعظم منه، حال بيني وبينه، فوالات والعزى لو دنوت منه لأكلني".
فأنزل الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ}، وقرأ ابن عباس-رضي الله عنهما-: {إنا جعلنا في أيمانهم}. وقال الزجاج: وقرئ: {إنا جعلنا في أيديهم}". قال النحاس: "وهذه القراءة تفسير، ولا يقرأ بما خالف المصحف".
نعم، تفسير باعتبار أن الْغُل إنما يكون بجمع اليدين إلى العنق مما يترتب عليه رفع الرأس، إذا وُضِعَتَا اليدان تحت العنق ورُبِطَتَا بالعنق ترتب عليه أن يرتفع الرأس، وهو مقمح: رافعٌ رأسه.
"وفي الكلام حذفٌ على قراءة الجماعة، التقدير: إنا جعلنا في أعناقهم وفي أيديهم أغلالاً فهي إلى الأذقان، فهي كنايةٌ عن الأيدي لا عن الأعناق، والعرب تحذف مثل هذا. ونظيره: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}[النحل:81]، وتقديره: وسرابيل تقيكم البرد، فحذف؛ لأن ما وَقَى من الحر وَقَى من البرد".
يعني: من باب الاكتفاء، يكتفون بالكلام المذكور عما يدل عليه من المحذوف.
طالب: شيخ أحسن الله إليكم، قوله: ثم بين سبب تركهم الإيمان فقال: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا}.
يعني هذا المكتوب عليهم، لأنهم كتبوا من أهل الشقاوة، فعلى هذا يكون الْغُل ليس بِحِسِّي، إنما هو بالكتاب السابق.
طالب: لأن "الْغُلَّ" أو "الغَل"؟.
الفرق بين "الغِل" و"الغُل" و"الغَل"، الغَل: الذي هو فعل "الغُل" الذي هو الربط، و"الغُل" النتيجة الحاصلة بعده، فهو مغلول.
"لأن الْغُلَّ إذا كان في العنق فلا بد أن يكون في اليد، ولا سيما وقد قال الله -عَزَّ وَجَل-: {فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ} فقد علم أنه يراد به الأيدي. {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} أي: رافعو رءوسهم لا يستطيعون الإطراق؛ لأن مَنْ غُلَّت يده إلى ذقنه ارتفع رأسه. روى عبد الله بن يحيى: "أن علي بن أبي طالب -عليه السلام- أراهم الإقماح، فجعل يديه تحت لحيته وألصقهما ورفع رأسه". قال النحاس: وهذا أَجَلُّ ما روي فيه، وهو مأخوذ مما حكاه الأصمعي. قال: "يقال: أَقْمَحَتِ الدابةُ إذا جَذَبَت لِجَامَهَا لترفع رأسها".
لا لا، أَقْمَحْتُ إذا جَذَبت.
طالب: "يقال أَقْمَحْتُ الدابة".
إيش؟ أنك ضَامَن الدابة، عليها ضمة؟
طالب: لا.
الدابة ليس عليها.
طالب: ليس عليها.
الأصل: "أَقْمَحْتُ الدابةَ إذا جَذَبت لِجَامَهَا"، أو: "أُقْمِحَتِ الدابةُ"؛ لأن "الدابة" مضمومة عندنا. طالب: "إذا جُذِبَت".
لكن ما يقول: "إذا جُذِبَت لِجَامُهَا"، إذا جُذِبَ، والأصل يقال: "أَقْمَحَتِ الدابةُ إذا جَذَبت لِجَامَهَا".
"يقال: أَقْمَحَتِ الدابةُ إذا جَذَبَت لِجَامَهَا لترفع رأسها". قال النحاس: والقاف مبدلة من الكاف لقربها منها. كما يقال: قهرته وكهرته. قال الأصمعي: "يقال: أَكْمَحْتُ الدابةَ، إذا جَذَبت عِنَانَها حتى ينتصب رأسها". ومنه قول الشاعر:
...والرأس مكمح البيت لذي الرمة وتمامه:
تمور بضبعيها وترمى بجوزها |
وحذارًا من الإيعاد والرأس مكمح |
ويقال: أَكْمَحتُها وأَكْفَحتُها وكَبَحتُها، وهذه وحدها بلا ألفٍ عن الأصمعي. وقَمَحَ البعير قُموحًا: إذا رفع رأسه عند الحوض وامتنع من الشرب، فهو بعيرٌ قَامِحٌ وقَمِح، يقال: شرب فَتَقَمَّح وانْقَمَح؛ بمعنى، إذا رفع رأسه وترك الشرب رِيَّا".
ومنه قول أم زرع في حديث أم زرع الطويل-: «أَشْرَبُ فَأَتَقَمَح» يعني: أروى ريًا شديدًا، بحيث أضطر إلى رفع رأسي.
"وقد قَامَحَت إبلك: إذا وردت ولم تشرب، ورفعت رأسها من داء يكون بها أو برد. وهي إبلٌ مُقَامِحَة، وبعيرٌ مُقَامِح، وناقة مُقَامِحٌ أيضًا، والجمع: قِمَاح؛ على غير قياس، قال بشرٌ يصف سفينة:
ونحن على جوانبها قعودٌ |
نغض الطرف كالإبل القِمَاح |
والإقْمَاح: رفع الرأس وغض البصر، يقال: أَقْمَحَه الْغُلُّ، إذا ترك رأسه مرفوعًا من ضيقه. وشهرا قِمَاح: أشد ما يكون من البرد، وهما الكانونان، سُمِّيَا بذلك: لأن الإبل إذا وردت آذاها برد الماء فَقَامَحت رءوسها، ومنه: قَمِحْتُ السويق. وقيل: هو مثلٌ ضربه الله تعالى لهم في امتناعهم من الهدى كامتناع المغلول، قاله يحيى بن سَلَّامٍ، وأبو عبيدة. وكما يقال: فلانٌ حمار، أي: لا يبصر الهدى. وكما قال:
لهم عن الرشد أغلال وأقياد |
وفي الخبر: "أن أبا ذؤيب كان يهوى امرأة في الجاهلية، فلما أسلم راودته فأبى وأنشأ يقول:
فليس كعهد الدار يا أم مالك |
ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل |
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائ |
سوى العدل شيئا فاستراح العواذل" |
بمعنى التكاليف، التكاليف تمنع صارت كالقيد له، لا يستطيع أن يزاول ما كان يزاوله في جاهليته، لأن التكاليف والحدود تمنع.
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل |
سوى العدل شيئا فاستراح العواذل |
هذه التكاليف جعلت هذا الفتى مثل الشيخ الكبير الذي لا يستطيع أن يزاول ما يزاوله الشباب، فصار الفتى مثله بسبب هذه التكاليف، ولا يستطيع أن يقول سوى العدل، سوى الكلام الصحيح الذي لا يعاقب عليه، فاستراح العواذل، كان يقول الكلام من غير قيد، ومن غير خطام ولا زمام؛ والناس يلمونه ويعذلونه، ثم لما تدين واستقام؛ منعه هذا الدين وهذه الاستقامة مما كان يزاوله، فصار لا يلام على شيء، ذهب الذي يلام من أجله.
"أراد: منعنا بموانع الإسلام عن تعاطي الزنى والفسق". وقال الفراء أيضًا: "هذا ضرب مثل؛ أي: حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله"، وهو كقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ}[الإسراء:29] وقاله الضحاك، وقيل: إن هؤلاء صاروا في الاستكبار عن الحق كمن جُعِلَ في يده غُلٌّ فجمعت إلى عنقه، فبقي رافعًا رأسه لا يخفضه، وغاضًا بصره لا يفتحه. والمتكبر يوصف بانتصاب العنق. وقال الأزهري: "إن أيديهم لما غلت عند أعناقهم رفعت الأغلال أذقانهم ورءوسهم صُعُدَا، كالإبل ترفع رءوسها". وهذا المنع بِخَلْق الكفر في قلوب الكفار".
هذا عند الأشعرية مثل هذا الأسلوب؛ لأنهم يرون أن الاستطاعة لا تسبق العمل، وإنما هي معه، وإنما تُخْلَق الاستطاعة مع العمل.
"وعند قوم بسلبهم التوفيق عقوبة لهم على كفرهم. وقيل: الآية إشارة إلى ما يفعل بأقوامٍ غدًا في النار من وضع الأغلال في أعناقهم والسلاسل، كما قال تعالى: {إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ}[غافر:71]، وأخبر عنه بلفظ الماضي".
يعني: جعلنا، بلفظ الماضي.
"{فَهُمْ مُقْمَحُونَ} تقدم تفسيره. قال مجاهد: "مقمحون: مُغَلَّون عن كل خير".
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9].
قال مقاتل: "لما عاد أبو جهل إلى أصحابه، ولم يصل إلى النَّبِي -صلى الله عليه وسلم-، وسقط الحجر من يده، أخذ الحجر رجل آخر من بني مخزوم وقال: أنا أقتله بهذا الحجر. فلما دنا من النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- طمس الله على بصره فلم ير النَّبِي -صلى الله عليه وسلم-، فرجع إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه"، فهذا معنى الآية. وقال محمد بن إسحاق في روايته: "جلس عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل، وأمية بن خلف، يُرَاصِدُون النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- ليبلغوا من أذاه، فخرج عليهم -عليه الصلاة والسلام- وهو يقرأ: {يس} وفي يده تراب فرماهم به، وقرأ: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} فأطرقوا حتى مَرَّ عليهم -عليه الصلاة والسلام-". وقد مضى هذا في سورة: "سبحان"، {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء:45]. ومضى في "الكهف" الكلام في: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا}[الكهف:94]- {سَدًّا} بضم السين وفتحها، وهما لغتان. {فَأَغْشَيْنَاهُمْ} أي: غطينا أبصارهم، وقد مضى في أول: "البقرة". وقرأ ابن عباس -رضي الله عنهما-، وعكرمة، ويحيى بن يعمر: {فَأَعْشَيْنَاهُم} بالعين غير معجمة، من العشاء في العين، وهو ضعف بصرها حتى لا تبصر بالليل. قال:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره |
وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}[الزخرف:36].
والمعنى متقارب، والمعنى: أعميناهم، كما قال:
ومن الحوادث لا أبا لك أنني |
ضُرِبَت علي الأرضُ بالأسداد |
لا أهتدي فيها لموضع تَلْعَة |
بين العُذَيْب وبين أرض مراد" |
قال: والمعنى متقارب بين "أغشيناهم" بالمعجمة، و"أعشيناهم" بالمهملة، وكل هذا فيه ضعف وإضعاف للبصر، "أغشينا" جعلنا على بصره غشاوة، غطيناه بحيث لا يرى بالكلية، و"العشى" لا يلزم منه العمى، قد يرى لكنها رؤية ضعيفة، وهنا يقول: والمعنى متقارب، والمعنى: أعميناهم، وجعل "أعشيناهم" مثل "أغشيناهم"، الغشاوة قد تكون مطبقة، وقد تكون غير مطبقة، يعني: إذا غُطِيَت العين بطبقة مما مثلاً يرى، لكنه يرى رؤية ضعيفة، فيكون مثل العشى، مثل "أعشيناهم"، يرى لكنها رؤية ضعيفة، وفي وقتٍ دون وقت، أما إذا غطية تغطية كاملة؛ بحيث سلب البصر، فهذا هو العمى.
طالب:.....
نعم؛ لذلك قال: أي: غطينا أبصارهم، والرؤيا إنما هي بالبصر، غيره من الجوارح، وجودها مثل عدمها بالنسبة للرؤيا.
طالب: من الناس مَنْ إذا خَشِيَ شيء قرأ هذه الآية: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}.
إذا خَشِي؛ يوجد السد بينه وبين مَنْ خَشِيَ، هذا مثل ما جاء في الحديث: "باب ما جاء إذا خاف قومًا" ماذا يقول؟ منهم مَنْ يقول: "يقول هذه الآية"، هذا كلام موجود، أما إذا كان الخوف سببه ظلمٌ بغير حق؛ فله أن يقول ذلك، إذا أقبل على ظالم يظلمه بغير حق يقول ذلك، لكن إذا كان بحق -مثلاً- هو مسرع بالسيارة سرعة زائدة، مقرر له مائة وعشرون، ويمشي بمائتين، فإذا قارب على التفتيش يقول مثل هذا، ما يصلح هو مخطأ، عقوبته بحق ليست ظلم.
"{فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} أي: الهدى، قاله قتادة. وقيل: محمدًا -صلى الله عليه وسلم- حين ائتمروا على قتله، قاله السدي. وقال الضحاك: "{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} أي: الدنيا، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} أي: الآخرة"، أي: عموا عن البعث، وعموا عن قبول الشرائع في الدنيا.
قال الله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ}[فصلت:25] أي: زينوا لهم الدنيا ودعوهم إلى التكذيب بالآخرة. وقيل على هذا: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} أي: غرورا بالدنيا، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} أي: تكذيبًا بالآخرة. وقيل: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} الآخرة، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} الدنيا.
{وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[يس:10]. تقدم في: "البقرة" {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[البقرة:6]، والآية: رَدٌّ على القدرية وغيرهم. وعن ابن شهاب: "أن عمر بن عبد العزيز أحضر غيلان القدري".
القدرية الغلاة في نفي القدر، وأن الإنسان يخلق فعله، هذا رَدٌّ عليهم: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}. الأمر كله بيد الله، والمناظرة التي جرت بين عمر بن عبد العزيز وغيلان رأس القدرية توضح هذا.
وعن ابن شهاب: "أن عمر بن عبد العزيز أحضر غيلان القدري، فقال: يا غيلان بلغني أنك تتكلم بالقدر، فقال: يكذبون علي يا أمير المؤمنين. ثم قال: يا أمير المؤمنين أرأيت قول الله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا، إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}[الإنسان:2،3]. قال: اقرأ يا غيلان، فقرأ حتى انتهى إلى قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}[الإنسان:29] فقال: اقرأ، فقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}[الإنسان:30]".
هذه هي الدامغة بالنسبة للقدرية.
"فقال: والله يا أمير المؤمنين إن شعرت، أن هذا في كتاب الله قط".
"إن" هذه نافية، يعني ما شعرت.
"فقال له: يا غيلان اقرأ أول سورة "يس" فقرأ حتى بلغ: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}، فقال غيلان: والله يا أمير المؤمنين لكأني لم أقرأها قط قبل اليوم، اشهد يا أمير المؤمنين أني تائب. فقال عمر: اللهم إن كان صادقًا فتب عليه وثبته، وإن كان كاذبًا فسلط عليه من لا يرحمه، واجعله آية للمؤمنين، فأخذه هشام فقطع يديه ورجليه وصلبه. وقال ابن عون: فأنا رأيته مصلوبًا على باب دمشق. فقلنا: ما شأنك يا غيلان؟ فقال: أصابتني دعوة الرجل الصالح عمر بن عبد العزيز".
القدرية النفاة هؤلاء الذين جاء فيهم الخبر: «مَجُوس هَذِه الأُمَّة» يزعمون أن العبد يخلق فعله، وأن الله -جلَّ وعلا- لا يتصرف في الخلق، وأن العبد يخلق فعله، فأثبتوا خالقًا مع الله -جلَّ وعلا-، وأنه لا قدر، وأن الأمر كله مستأنف، وأنكروا العلم، وبهذا كفَّرهم علماء الأمة.
"قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ}[يس:11]. يعني: القرآن، وعمل به. {وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} أي: ما غاب من عذابه وناره، قاله قتادة. وقيل: أي: يخشاه في مغيبه عن أبصار الناس وانفراده بنفسه. {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ} أي: لذنبه، {وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} أي: الجنة.
قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}[يس:12]. فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى} أخبرنا تعالى بإحيائه الموتى رَدًّا على الكفرة. وقال الضحاك، والحسن: "أي نحييهم بالإيمان بعد الجهل". والأول أظهر، أي: نحييهم بالبعث للجزاء".
الإحياء الحقيقي الحسي هو الأصل، يعني: هو حقيقة اللفظ، وأما إحياؤهم بالإيمان بعد الجهل، أو بالعلم بعد الجهل، فهذا كله إحياء معنوي، وليس هو حقيقة اللفظ، وإن جاز أن يتناوله بعمومه.
"ثم توعدهم بذكره كَتْبَ الآثار، وهي: الثانية: وإحصاء كل شيء وكل ما يصنعه الإنسان. قال قتادة: "معناه من عمل". وقاله مجاهد وابن زيد. ونظيره قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ}[الانفطار:5]، وقوله: {يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ}[القيامة:13]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}[الحشر:18].
فآثار المرء التي تبقى وتذكر بعد الإنسان من خير، أو شر يجازى عليها، من أثر حسن، كعلم علموه، أو كتاب صنفوه، أو حَبِيسٍ احْتَبَسُوه، أو بناء بنوه من مسجد، أو رباط، أو قنطرة، أو نحو ذلك".
كل ما يفعله الإنسان ويبقى بعده هذا من آثار، سواءً كان من خير على ما ذكر من الأمثلة، أو من شر، على ما سيأتي.
"أو سيئ؛ كوظيفة وظفها بعض الظُّلَّامِ على المسلمين".
يعني: سَنَّ قانونًا فيه ظلم للمسلمين واستمر بعده -نسأل الله العافية-، أو دون كتابًا، صنف كتابًا نصر فيه البدع وشهرها، وافْتُتِنَ الناس به وعملوا به من بعده، هذا من آثاره -نسأل الله العافية-.
"وَسِكَةٍ أحدثها فيها تَخْسِيرُهم".
سكة يعني دراهم، يعني ضَرَبَ لهم من الدراهم ما يكون سببًا لخسرانهم، أو سَنَّ قانون اقتصاديًا، صار فيه ضرر على الناس، في أموالهم في تجاراتهم؛ أيضًا هذا يحاسب عليه.
"أو شيء أحدثه فيه صد عن ذكر الله من ألحان ومَلَاهٍ".
مثل ما يشاهد الآن في بلدان المسلمين، بعض الناس يبني المساجد ودُور العلم والخير، ويقوم على دُور التحفيظ، ودُور الرعاية للأيتام وغيرهم، ويقوم أيضًا على كل ما فيه خير، ويبقى عمله ومَنْ يقتدي به إلى يوم القيامة، وبعض الناس العكس، ويقوم على الملاهي وغيرها مما حرمه الله- جلَّ وعلا- ثُمَّ بعد ذلك يستمر الناس عليه اقتداءً به، فاعليه وزرهم ووزر مَنْ عَمِلَ بأعمالهم، -نسأل الله العافية-.
"وكذلك كل سنة حسنة، أو سيئة يُسْتَنُ بها. وقيل: هي آثار المشائين إلى المساجد. وعلى هذا المعنى تأول الآية عمر، وابن عباس-رضي الله عنهم-، وسعيد بن جبير".
آثار المشائين: فرد من أفراد ما تتناوله الآية من عموم، ولكنها أعم من ذلك، العبرة بعموم اللفظ.
"وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أيضًا، أن معنى {وَآثَارَهُمْ}: خطاهم إلى المساجد، قال النحاس: "وهذا أولى ما قيل فيه"؛ لأنه قال: إن الآية نزلت في ذلك; لأن الأنصار كانت منازلهم بعيدة عن المسجد. وفي الحديث مرفوعًا إلى النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يُكْتًبُ لَه بِرِجْلٍ حَسَنَة، وَتُحَطُ عَنْه بِرِجْلٍ سَيْئَة ذَاهِبًا وَرَاجِعًا، إِذَا خَرَجَ إِلى الْمَسْجِد».
قلت: وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "كانت بنو سَلِمَة في ناحية المدينة، فأرادوا النُقْلَة إلى قرب المسجد، فنزلت هذه الآية: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ آثَارَكُم تُكْتَب» فلم ينتقلوا". قال: هذا حديث حسن غريب من حديث الثوري. وفي صحيح مسلم: عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "أراد بنو سَلِمَة أن يتحولوا إلى قرب المسجد، قال: والبقاع خالية، قال: فبلغ ذلك النَّبِي-صلى الله عليه وسلم- فقال: «يَا بَنِي سَلِمَة، دِيَارَكُم تُكْتَب آثَارُكُم، دِيَارَكُم تُكْتَب آثَارُكُم»".
يعني: الزموا «دِيَارَكُم» و«تُكْتَب آثَارُكُم» يعني: خطاكم إلى الصلوات، وما دامت دياركم بعيدة عن المسجد فالخطى تكون كثيرة.
"فقالوا: ما كان يسرنا أَنَّا كنا تحولنا".
وعلى هذا لو أراد الإنسان أن يتخذ مسكنًا، فهل الأفضل له أن يكون المسكن بعيدًا عن المسجد أو قريبًا؟
المشقة ليست مقصودة لذاتها، لكن إذا تطلبتها العبادة أُجِرَ عليها، ولذلك ما يقول: أنا أترك هذا المسجد القريب وأصلي في المسجد البعيد؛ من أجل أن تكتب الخُطا، لا، الخُطا لا شك أنها فيها زيادة مشقة، والمشقة ليست مطلوبة لذاتها، والمفاضلة بين القُرْب والبُعْد أحيانًا يسكن الإنسان في مسكن قريب يعينه على إدراك الصلاة، أو يسكن في مكانًا بعيد تكثر خطاه إلى المسجد، لكن قد تفوته الصلاة، فالمسألة مسألة موازنة، فإن وجد من نفسه الهمة والعزيمة بحيث لا يفوته شيء، فتكثير الخطا مطلوب؛ وإلا فإدراك الصلاة أولى من تكثير الخطا.
"وقال ثابت البناني: "مَشَيْتُ مع أنس بن مالك -رضي الله عنه- إلى الصلاة فأسرعت، فحبسني، فلما انقضت الصلاة قال: مشيت مع النَّبِي -صلى الله عليه وسلم-، وأسرعت فحبسني، فلما انقضت الصلاة قال: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الآثارَ تُكْتَب؟»، فهذا احتجاج بالآية. وقال قتادة، ومجاهد -أيضًا-، والحسن: "الآثار في هذه الآية الخطا". وحكى الثعلبي عن أنس -رضي الله عنه- أنه قال: "الآثار هي الخطا إلى الجمعة"، وواحد الآثار: أَثَرٌ، ويقال: أَثْرٌ".
الآثار أعَمّ من أن تكون: إلى الجمعة، أو الصلاة، أو درس العلم، أو إلى الإصلاح بين الناس، أو لتعليم الناس، أو للقضاء بينهم وحل خصوماتهم، الآثار أعَمَّ، الآية تشمل كل ما يسعى فيه إلى الخير.
"الثالثة: في هذه الأحاديث المفسرة لمعنى الآية دليل على أن البعد من المسجد أفضل، فلو كان بجوار مسجد، فهل له أن يجاوزه إلى الأبعد؟ اُخْتُلِفَ فيه، فروي عن أنس -رضي الله عنه- أنه كان يجاوز المُحْدَثَ إلى القديم. وروي عن غيره: الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرًا.
يعني الانتقال من مسجد إلى مسجد لمجرد البعد، أما إذا وجِدَ مصلحة راجحة في المسجد الأبعد دون الأدنى، فلهذه المصلحة الراجحة تكتب الآثار.
"وكره الحسن وغيره هذا، وقال: "لا يَدَعُ مسجدًا قُرْبَه ويأتي غيره". وهذا مذهب مالك".
لاسيما إذا ترتب على ذلك إيغار الصدور من الجماعة، أو إساءة الظن به، أو من إمام المسجد، لأن الجماعة إنما شُرِعَت لمصلحة الاجتماع والإتلاف، فإذا تخطى مسجدهم إلى غيره؛ ظُنَّ أن في نفسه شيء عليهم، أو ظُنَّ أنه يترك الصلاة أو يتخلف عن الصلاة، فإذا ارتفعت منزلته عن هذه الظنون، فلا مانع إن شاء الله تعالى، لا سيما إذا ترتب على ذلك مصلحة.
طالب:.....
سمع الأذان، إذا كان يسمع «تَسْمَع النِّداء؟ قَالَ: نَعَم، قَالَ: أَجِبْ، لَا أَجِدُ لَكَ رُخْصَة»، والمراد بالأذان، الأذان على أصله وطبيعته من غير أسباب ومن غير موانع، يعني: بدون مكبرات وبدون سيارات ومكيفات؛ لأنه قد يكون ساكنًا ببيت المسجد؛ يغلق الغرفة والنوافذ ويشغل المكيف، ولا يسمع الأذان وفوق، وقد يكون بعيدًا جدًّا لا يطيق الوصول إلى المسجد، وليس هناك موانع ويسمع الأذان.
المقصود أنه إذا سمعه على طبيعته، بدون مكبر وبدون موانع، يعني: كيلو مترين فما دونه يسمع، غالبًا.
"وفي تخطي مسجده إلى المسجد الأعظم قولان. وخَرَّجَ ابن ماجه من حديث أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «صَلَاةُ الرَّجُل فِي بَيْتِه بِصَلاة، وَصَلَاتُه فِي مَسْجِدِ الْقَبَائِل بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ صَلَاة، وَصَلَاتُه فِي الْمَسْجِدِ الذِي يُجَمَّعُ فِيه بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاة».
نعم، صلاته مع الجماعة أفضل من صلاته منفردًا بخمسٍ وعشرين أو بسبعٍ وعشرين، أما خمسمائة هذه في الجامع، فهذه لفظة منكرة، يعني: غير محفوظة.
"الرابعة: «دِيَارَكُم» منصوب على الإغراء، أي: الزموا، و«تُكْتَب» جزم على جواب ذلك الأمر".
نعم، جواب مجزوم على أنه جواب طلب، أو جواب شرط مقدر، الزموا: معروف أنه إغراء «دِيَارَكُم» منصوب على الإغراء، أي: الزموا، «تُكْتَب» جواب الأمر مجزوم على أنه جواب الأمر، أو جواب شرط مقدر، إن تلزموا «تُكْتَب».
"وكل نصب بفعل مضمر يدل عليه {أحْصَيْنَاهُ}".
يعني: يفسره المذكور، أحصينا {كُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ}[يس:12].
"كأنه قال: وأحصينا {كُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ}. ويجوز رفعه بالابتداء، إلا أن نصبه أولى، ليعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل. وهو قول الخليل وسيبويه. {أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ} الـ {إِمَامٍ}: الكتاب المقتدى به الذي هو حجة. وقال مجاهد، وقتادة، وابن زيد: "أراد اللوح المحفوظ". وقالت فرقة: أراد صحائف الأعمال".
اللهم صلى وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.