التعليق على تفسير القرطبي - سورة يس (03)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نعم.
في قوله -جلَّ وعلا-: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى}[يس:20] في سورة يس، وفي سورة القصص: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى}[القصص:20]. يقول الخطيب الإسكافي في درة التنزيل وغرة التأويل وهذا موضوعه، يعني كلمات قُدمَت وكلمات أُخِرت، كلمات زِيدَت وكلمات نُقصَت، لماذا جاء في هذا الموضع بالفاء، ولماذا جاء في الموضع الثاني بالواو، وهكذا، هذا موضوع الكتاب [درة التنزيل وغرة التأويل].
وهنا يقول: للسائل أن يسأل عن تقديم قوله: {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ}[يس:20] على {رَجُلٌ} الذي هو الفاعل في سورة [يس]، وتأخيره في السورة التي قبلها، يعني في القصص.
الجواب أن يقال: إن الفاعل في الموضعين لما كان نكرة، والمعنى وجاء جاءٍ، وقد دل الفعل على جاءٍ، ولا يكون الْجَائي من أقصى المدينة في الأعم الأغلب إلا رجلًا، وكان الذي يُفَادُ المخاطب به أن يعلم أنه جاء من مكان بعيد إلى مجتمع الناس في القرية، وحيث لا يَقْرُب من مجال القصة، ولا يحضر موضع الدعوة ومشهد المعجزة، فقدّم ما تبكيت القوم به أعظم، والتعجب منه أكثر، فقال: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ}[يس:20]، ينصح لهم ما لا ينصحون مثله لأنفسهم، ولا ينصح لهم أقربوهم، مع أنه لم يحضر جميع ما يحضرونه، ولم يشهد من كلام الأنبياء ما يشاهدونه، فبعثهم على اتباع الرسل المبعوثين إليهم، وقبول ما يأتون به من عند مرسلهم.
وأما الآية الأولى في سورة [القصص:20] فإن المراد جاء من لا يعرفه موسى -عليه السلام- من مكان لم يكن مجاورًا لمكانه، فأعلمه ما فيه الكفار من ائتمارهم به، فاستوى حكم الفاعل، والمكان الذي جاء منه، فقُدِّم ما أصله التقديم، وهو الفاعل، إذ لم يكن هنا تبكيت للقوم بكونه من أقصى المدينة كما كان ذلك في الآية المتقدمة" والله أعلم.
ظَهَر أم ما ظَهَر؟
يعني في آية يس: {جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ}[يس:20]، لأن المسألة فيها لما جاءهم الرسل كذبوهم وأرادوا قتلهم، جاء من أقصى المدينة، يعني يهمنا أنه جاء من بعيد، أما كونه رجلًا فمعروف أنه رجل، في الآية في سورة القصص: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ}[القصص:20]. الذي يهم أن كونه رجلًا نكرة غير معروف، وهو ناصح لموسى -عليه السلام-، كونه من أقصى المدينة، أو من أدنى المدينة هذا ما يضر.
طالب: ذكر الإمام الوزير ابن هبيرة في فوائده على القرآن ذكر سبب التقديم والتأخير، فقال: إن الرجل في قصة يس ليس أفضل من الرجل الذي في قصة موسى -عليه السلام-؛ لأنه هذا جاء لينذرهم ويقول: صدقوا المرسلين، أما رجل موسى فجاء يحذره من تآمر الملأ عليه. بناءً على هذا فصفة الرجولة صفة مدح، فقال في قصة يس الرجل أو الوجيه قبل أن يُذكر يؤتى ببعض صفاته، كما يقال صاحب السمو الملكي فلان.
نعم، لكن ما عرفنا فلانًا.
طالب: فقال: إنه هنا ذكرت صفاته أنه جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى، بأفضليته، بينما ذاك لم تكن له تلك الفضيلة فقدَّم مباشرة صفته، فقال: رجل من أقصى المدينة.
نعم، لكن ما ذكره هنا أوضح، وما تتم الدعوى بكون الرجل في قصة يس أفضل من الرجل في سورة القصص إلا بعد معرفة الرجلين، هذا حبيب النجار، وذاك يوشع بن نون نبي، فما يتم هذا بكمال، على خلاف فيها.
طالب: لكن الظاهر من حاله أن هذا فقط قال: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ ليقتلوك}[القصص:20]، بينما حال هذا لا، بل الدعوة....
في الموضعين لكل واحد منهما ما يعتريه، يعني: قتل رسل عيسى –عليه السلام- ليس مثل قتل موسى–عليه السلام- هذا أهم وأعظم، فتحذير موسى –عليه السلام- من قتله أقوى وأعظم من تحذير الذين يريدون قتل رسل عيسى –عليه السلام-.
على كل حال هذا مجرد التماس من أهل العلم، ما هو شيء مرفوع يُلْزَم به، والعلل قد تكون قوية، وقد تكون ضعيفة، وقد يبدو لفلان ما لا يبدو لفلان.
طالب: مؤمن يس ليس فقط التحذير، بل الدعوة إلى الله كما يفعل الرسل، ثم أخبر سبحانه وتعالى بدخوله الجنة ......
صاحب موسى نَبِي يوشع بن نون، انظر مبهمات القرآن والمراد به، والمسألة ما يحتف بالقضيتين، يعني هل الأَوْلَى بيان هذا المنذر؟ يعني هل العناية بالمنذر أَوْلَى فَيُقَدَّم؟ هل العناية بوصفه فَيُقَدَّم، في الموضعين ما يدل له من كلام الخطيب الإسكافي.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-: "قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ، وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ، لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ، سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ}[يس:33-36]".
قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا}[يس:33]. نبَّههم الله تعالى بهذا على إحياء الموتى، وذَكَّرهم توحيده وكمال قدرته، وهي الأرض الميتة أحياها بالنبات وإخراج الحب منها. {فَمِنْهُ} أي: من الحب {يَأْكُلُونَ} وبه يتغذون. وشدَّد أهل المدينة {الْمَيّتَةُ} وخفَّف الباقون، وقد تقدم".
التخفيف والتشديد بالنسبة "لِلمَيْت، والمَيّتْ، والميته"، قالوا المشدد "مَيّت": مَنْ سيموت {إِنَّكَ مَيِّتٌ} [الزمر:30] يعني ستموت، {وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} يعني سيموتون، و"المَيْت" بالتخفيف بالسكون: هذا مَنْ قد مات بالفعل، وهذا هو الكثير الغالب، وإلا فقد يأتي هذا في موضع هذا والعكس، فالتشديد هنا لا شك أنه مرجوح على هذا.
"قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا}[يس:34]. أي: في الأرض. {جَنَّاتٍ} أي: بساتين. {مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} وخصصهما بالذكر؛ لأنهما أعلى الثمار. {وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ} أي: في البساتين.
قوله تعالى: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ}[يس:35]. الهاء في {ثَمَرِهِ} تعود على "ماء العيون"؛ لأن الثمر منه اندرج، قاله الجرجاني، والمهدوي، وغيرهما. وقيل: أي: ليأكلوا من ثمر ما ذكرنا، كما قال: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ}[النحل:66]. وقرأ حمزة، والكسائي: {مِنْ ثُمُرِه} بضم الثاء والميم. وفتحهما الباقون. وعن الأعمش: "ضم الثاء وإسكان الميم". وقد مضى الكلام فيه في الأنعام.
{وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} "ما" في موضع خفض على العطف على {مِنْ ثَمَرِهِ} أي: ومما عملته أيديهم. وقرأ الكوفيون: "وَمَا عملت" بغير هاء. والباقون {عَمِلَتْهُ} على الأصل من غير حذف. وحذف الصلة أيضًا في الكلام كثير؛ لطول الاسم".
يعني طول الصلة، إذا طالت الصلة حذف العائد، يحذف العائد إذا طالت الصلة، {وَمَا} في أقوال المفسرين منهم مَنْ يقول: إنها نافية {مَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ}؛ لم تعمله أيديهم، وهو المناسب لقوله: {أَفَلا يَشْكُرُونَ}. ومنهم مَنْ يقول: إنها موصولة {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} والذي عملته أيديهم {أَفَلا يَشْكُرُونَ}. فإذا كان عمل أيديهم ونسب إليهم فموضع الشكر منه أقل مما لو تمحَّضت نسبته إلى الله -جلَّ وعلا- دون عملٍ منهم، يعني {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} لم تعمله أيديهم، فهذا يتمحض فيه الشكر، وأما إذا قلنا: والذي عملته أيديهم، أفلا يشكرون، يعني الامتنان عليهم بما عملته أيديهم أضعف من الامتنان عليهم بما لم تعمله أيديهم، عِلْمًا بأن الأيدي من نعم الله عليهم، يعني لو نظرنا نظرة أبعد لقلنا: إن الأسباب ولو عملته أيديهم جميع الأسباب من الله -جلَّ وعلا- حتى الأيدي، فيحتاج مثل هذا إلى شكر، لكنها كونها نافية أوضح.
طالب: على القول بأنها نافية يكون الوقف أولى؟
يعني ولم تعمله أيديهم.
طالب: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} يقف {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ}.
ولم تعمله، يعني: مما لم تعمله، نعم، يكون الوقف هنا أولى، لكن لو كانت معطوفة على ما تَقَدَّم، وقلنا: إن "ما" موصولة {مِنْ ثَمَرِهِ} والتي عملته أيديهم.
وعلى كل حال الخلاف موجود، ولكلٍ وجهه، {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} نقول: إن ما يتم الامتنان عليهم أقوى إذا كانت نافية، يعني: ولم تعمله أيديهم، يعني يأكلون شيئًا ما لهم فيه أي جهد؛ لأنه الماء نزل من السماء فأحيا الأرض، ومن خلاله صارت الجنات والنخيل والأعناب، يأكلون من ثمر هذه الموجودات، وهذه النِّعَم، ولم تعمله أيديهم، لو نقصت أيديهم ما فعلوا شيئًا، والذي يرى أنها موصولة يقول: إنَّ الواقع يشهد أنَّ لهم دخلًا في تصريف هذا الزرع يعني بالسبب لا بالإيجاد، يعني المزارع سبب من الأسباب، قد يترتب المُسبب عليه، وقد لا يترتب.
"ويجوز أن تكون "ما" نافية لا موضع لها، فلا تحتاج إلى صلة ولا راجع. أي: ولم تعمله أيديهم من الزرع الذي أنبته الله لهم. وهذا قول ابن عباس، والضحاك، ومقاتل. وقال غيرهم: المعنى: ومن الذي عملته أيديهم، أي: من الثمار، ومن أصناف الحلاوات والأطعمة، ومما اتخذوا من الحبوب بعلاجٍ كالخبز والدهن المستخرج من السمسم والزيتون. وقيل: يرجع ذلك إلى ما يغرسه الناس. روي معناه عن ابن عباس أيضًا.
{أَفَلا يَشْكُرُونَ} نعمه".
فيكون على هذا ما يأكلونه منه ما لا مدخل لهم فيه، ومنه: ما لهم فيه مدخل وتسبب.
"قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا}[يس:36]. نزَّه نفسه سبحانه عن قول الكفار، إذ عبدوا غيره مع ما رأوه من نعمه وآثار قدرته. وفيه تقدير الأمر، أي: سبِّحوه ونزِّهوه عما لا يليق به. وقيل: فيه معنى التعجب، أي: عجبًا لهؤلاء في كفرهم مع ما يشاهدونه من هذه الآيات، ومن تعجب من شيء قال: سبحان الله! و{الأَزْوَاجَ} الأنواع والأصناف، فكل زوجٍ صنف؛ لأنه مختلف في الألوان والطعوم، والأشكال، والصغر، والكبر، فاختلافها هو ازدواجها. وقال قتادة: "يعني الذكر والأنثى". {مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ} يعني من النبات؛ لأنه أصناف. {وَمِنْ أَنفُسِهِمْ} يعني: وخلق منهم أولادًا أزواجًا ذكورًا وإناثًا".
يعني الأزواج ليست خاصة ببني آدم، إنما في كل شيء، من كل شيء زوجين اثنين، لكل شيء زوج، مما تنبت الأرض من النباتات والأطعمة وغيرها، ومن أنفسهم أيضًا يوجد أزواج من أنفسهم من بني آدم يوجد الذكر، ويوجد الأنثى، كما أنه يوجد في سائِر المخلقات أزواج.
"{وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} أي: من أصناف خلقه في البر والبحر والسماء والأرض. ثم يجوز أن يكون ما يخلقه لا يعلمه البشر وتعلمه الملائكة، ويجوز ألا يعلمه مخلوق، ووجه الاستدلال في هذه الآية: أنه إذا انفرد بالخلق فلا ينبغي أن يشرك به.
قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ}[يس:37]. أي: وعلامة دالة على توحيد الله وقدرته ووجوب إلهيته. و "السلخ": الكشط والنزع، يقال: سلخه الله من دينه، ثم تستعمل بمعنى الإخراج".
يعني الكشط والنزع هذا ظاهر في سلخ ما يُذْبَح من بهيمة الأنعام، كما هو معروف، ويُطلق على المعنويات كالحسيات، سلخ الدين مثلًا، هذا رجل منسلخ من دينه، نسأل الله العافية، أو منسلخ مما يجب أن يتصف به من الأخلاق والآداب.
طالب:.....
انسلخ يعني انتهى، إذا انتهى قيل: انسلخ. يعني إذا انفصل انسلخ.
"وقد جعل ذهاب الضوء ومجيء الظلمة كالسلخ من الشيء وظهور المسلوخ، فهي استعارة. و{مُظْلِمُونَ} داخلون في الظلام، يقال: أظلمنا؛ أي: دخلنا في ظلام الليل، وأظهرنا دخلنا في وقت الظهر، وكذلك أصبحنا وأضحينا وأمسينا".
ومثله: أتْهَمنا وأنْجَدْنَا؛ إذا دخلنا في تهامة أو دخلنا في نجد.
"وقيل: {مِنْهُ} بمعنى عنه، والمعنى: {نَسْلَخُ} عنه ضياء النهار. {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} أي: في ظلمة؛ لأن ضوء النهار يتداخل في الهواء فيضيء، فإذا خرج منه أظلم.
قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا}[يس:38]. يجوز أن يكون تقديره: وآية لهم الشمس. ويجوز أن يكون الشمس مرفوعًا بإضمار فعل يفسِّره الثاني. ويجوز أن يكون مرفوعًا بالابتداء".
يعني: وتجري الشمس، يفسِّره المذكور.
"{تَجْرِي} في موضع الخبر، أي: جارية".
والشمس جارية.
"وفي صحيح مسلم: عن أبي ذَرٍّ -رَضِيَ الله عَنْه- قال: «سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قوله -عزَّ وجلَّ-: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قال: مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ». وفيه: عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ الله عَنْه- أَنَّ النَّبِيَّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ يَوْمًا: «أَتَدْرُونَ أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ الشَّمْسُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: إِنَّ هَذِهِ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ فَتَخِرُّ سَاجِدَةً، فَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالَ لَهَا: ارْتَفِعِي ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلِعِهَا، ثُمَّ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ فَتَخِرُّ سَاجِدَةً، وَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالَ لَهَا: ارْتَفِعِي ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلِعِهَا، ثُمَّ تَجْرِي لَا يَسْتَنْكِرُ النَّاسَ مِنْهَا شَيْئًا، حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا ذَاكَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَيُقَالُ لَهَا: ارْتَفِعِي أَصْبِحِي طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِكِ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَتَدْرُونَ مَتَى ذَلكُمْ؟ ذَاكَ حِينَ: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}[الأنعام:158]».
ثلاث علامات، ثلاث آيات إذا ظهرت لا ينفع نفسًا إيمانها ولا يقبل توبة، "الدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها"، هذا في صحيح مسلم، وكونها تسجد تحت العرش في كل ليلة، هذا مما يجب الإيمان به؛ لأنه في الصحيحين، ليس لأحد كلام، وليس لأحد أن يقول: إنها تدور في فَلَكِها على مدار الأربعة والعشرين ساعة، يعني ما تُرَى مفارقة لهذا الفلك، فإذا غابت عن جهة طلعت على جهة أخرى وهكذا، إلى أن تكور.
المقصود أن مثل هذا مما لا تدركه العقول، وما دام النص صح فيه فليس علينا إلا التسليم. يعني مثل ما قيل في النزول الإلهي، النزول الإلهي في الثلث الأخير من الليل، قد يقول قائل: إن الثلث الأخير من الليل عندنا أول الليل عند غيرنا، وقد يكون في النهار، وقد يكون كذا، فما تحديد ثلث الليل الذي ينزل فيه الرب بالنسبة لأي البلدان؟
نقول: الله أعلم، لكن كل إنسان عليه أن يعمل بما سمع، "وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع"، إذا بدء ثلث الليل الأخير بالنسبة لبلدك فما عليك من غيرك، ويقال مثل هذا في ليلة القدر، عند مَنْ يرجح -كما هو مدلول النصوص- الأوتار، يعني رؤية الهلال في هذا البلد مثلاً ليلة السبت، ورؤية بلد آخر ليلة الأحد، فأوتَارُنَا غير أوتَارِهم، هل نقول: إن ليلة القدر بالنسبة لنا غير ليلة القدر بالنسبة لهم؟
اعمل بمقتضى ما بلغك وبالمقدمات الشرعية، تصل إلى النتائج الشرعية، ولا عليك من شيء ثانٍ، وإلا قديمًا تكلموا في حديث النزول، وشيخ الإسلام –رحمه الله- في شرح حديث النزول أبدى كثيرًا من هذه الإشكالات، لكن يبقى أن الإنسان عليه أن يرضى ويسلِّم، وليس له أن يبحث فيما وراء ذلك، وإلا فالإنسان إذا أعْمَل عقله وَجَدَ مثل هذا الإشكال، كما قال أهل العلم: "قَدَمُ الإسلام لا تَثْبُت إلا على قنطرة التسليم"، {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}[البقرة:285]، ما دام صح الخبر فليس لنا كلام.
طالب: استدلال البخاري في أن الشمس تجري... وأن الأرض لا تجري.
هذا واضح الشمس تجري، ولذا حكم أهل العلم بكفر مَنْ قال إنها ثابتة، بينما مَنْ قال إن الأرض تدور، مع وجود {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا}[النازعات:32] وغيرها من النصوص، يعني: هذه ليست صراحتها مثل صراحة الشمس تجري، توقف أهل العلم في تكفير مَنْ يقول بدوران الأرض، هذا قبل أول ما تكلم الناس في الموضوع، وإن كان في كلام الشيخ ما يدل على أنه من الكفر ليس ببعيد، الشيخ ابن باز له رسالة في هذا الموضوع، أما مَنْ قال بثبوت الشمس فهذا ما فيه تردد في كفره.
طالب: .....
نعم.
طالب: الأرض .....
كروية، يستدلون بقوله -جلَّ وعلا-: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}[يس:40]. يستدلون بها على كروية الأرض، لكن مع ذلك الجمهور على أنها منبسطة.
"ولفظ البخاري: عن أبي ذَرٍّ -رَضِيَ الله عَنْه- قال: «قال النَّبِي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأبي ذَرٍّ حِينَ غَرَبَت الشَّمس: تَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُد تَحْتَ الْعَرش، فَتَسْتَأْذِنَ فَيُؤْذَنَ لَهَا، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُد فَلَا يُقْبُلُ مِنْهَا، وَتَسْتَأْذِن فَلِا يُؤْذَنُ لَهَا، يُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَذَلِكَ قَولُه تَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}»[يس:38]. ولفظ الترمذي: عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ الله عَنْه- قَالَ: «دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ حِينَ غَابَتْ الشَّمْسُ وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَالِسٌ فَقَالَ: النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَا أَبَا ذَرٍّ: أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ؟ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّهَا تَذْهَبُ فَتَسْتَأْذِنُ فِي السُّجُودِ فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَكَأَنَّهَا قَدْ قِيلَ لَهَا: اطْلُعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ: {ذَلِكَ مُسْتَقَرٌّ لَهَا}» قَالَ: وَذَلِكَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ الله عَنْه- قال أبو عيسى: "هذا حديث حسن صحيح".
سيأتي أن في قراءة عبد الله: {لَا مُسْتَقَرَّ لَهَا} ابن مسعود وابن عباس -رضي الله عنهما- هذه قراءتهما، أما هذه ضعيفة.
"وقال عكرمة: "إن الشمس إذا غربت دخلت محرابًا تحت العرش تسبح الله حتى تصبح".
أَبو ذَرٍّ -رَضِيَ الله عَنْه- لما سأله النَّبِي -عليه الصلاة والسلام- غابت الشمس عن المدينة قال: أتدري أين تذهب هذه الشمس بعد مغيبها؟ ما قال أَبو ذَرٍّ -رَضِيَ الله عَنْه- تذهب لمصر، تذهب للمغرب، تذهب، كما هو المشاهد، يعني إذا غابت عن المدينة فليس معناه أنها غابت عما في غربها؛ لأنه يعرف أن المسألة مسألة انقياد، وهذه الأمور الغيبية لا تدرك إلا بالنص، فيكون جوابه شرعيًّا، يسمع من النَّبِي -عليه الصلاة والسلام- ما يقول.
طالب:.....
لا، كان كلامهم الأول أهل الهيئة قاطبة، حتى المتقدمون منهم يقولون: ثابتة التي تدور عليها الأفلاك كلها.
طالب:.....
نعم، معروف هذا قديم من ثلاثين سنة.
طالب:....
ويبقى أن جريانها إذا كانت تدور نصف دائرة أنها تغيب، يعني لها وقت تغيب به بالكلية عن الأرض، لكن هل هذا هو الواقع؟ يعني ونحن في منتصف الليل ألا يمكن أن يكون في منتصف النهار في بلد آخر؟ إذا كان هذا فهي لا تغيب، ويكون إيماننا من باب الإيمان بالغيبيات، ولا نُعْمِل عقولنا في أكثر من هذا، يعني مثل الثلث الأخير من الليل.
طالب:... جريان الشمس...
نعم، أكيد.
طالب: .....
انظر الآن ما دامت التبعية بهذا الشكل من المسلمين للكفار، ويحاولون زعزعة عقائدهم بكل مستطاع، يعني الآن فيه مَنْ يكتب في الغرب، يعني بعد أن صدقنا، وأيقنا، واعتقدنا أنهم وصلوا إلى القمر، فيه مَنْ يكتب في الغرب أنهم لم يصلوا، كل هذا من أجل زعزعة عقائد المسلمين؛ لأنهم رأوا أن المسلمين تبع لغيرهم.
طالب:....
نعم.
طالب: .....
من كم صلينا الفجر؟ سبع ساعات أو ثماني ساعات...
لا لا البون شاسع.
"فإذا أصبحت استعفت ربها من الخروج فيقول لها الرب: ولم ذاك؟ قالت: إني إذا خرجت عبدت من دونك. فيقول الرب -تبارك وتعالى-: اخرجي فليس عليك من ذاك شيء، سأبعث إليهم جهنم مع سبعين ألف ملك يقودونها حتى يدخلوهم فيها". وقال الكلبي وغيره: "المعنى: تجري إلى أبعد منازلها في الغروب، ثم ترجع إلى أدنى منازلها، فمستقرها بلوغها الموضع الذي لا تتجاوزه، بل ترجع منه، كالإنسان يقطع مسافة حتى يبلغ أقصى مقصوده، فيقضي وطره، ثم يرجع إلى منزله الأول الذي ابتدأ منه سفره". وعلى تبليغ الشمس أقصى منازلها، وهو مستقرها إذا طلعت: "الهنعة"، وذلك اليوم أطول الأيام في السنة، وتلك الليلة أقصر الليالي".
حينما يكون النهار خمس عشرة ساعة، والليل تسع ساعات، والمؤلف يفصل مثل هذا.
"فالنهار خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعات، ثم يأخذ في النقصان وترجع الشمس، فإذا طلعت "الثريا" استوى الليل والنهار، وكل واحدٍ ثنتا عشرة ساعة، ثم تبلغ أدنى منازلها وتطلع "النعائم"، وذلك اليوم أقصر الأيام، والليل خمس عشرة ساعة، حتى إذا طلع "فرغ الدلو المؤخر" استوى الليل والنهار، فيأخذ الليل من النهار كل يوم عُشْرَ ثلث ساعة".
يعني دقيقتين، يعني واحدة من أوله، وواحدة من آخره.
"وكل عشرة أيام ثلث ساعة، وكل شهر ساعة تامة، حتى يستويا، ويأخذ الليل حتى يبلغ خمس عشرة ساعة، ويأخذ النهار من الليل كذلك.
وقال الحسن: "إن للشمس في السنة ثلاثمائة وستين مطلعًا، تنزل في كل يوم مطلعًا، ثم لا تنزله إلى الحول، فهي تجري في تلك المنازل وهي مستقرها". وهو معنى الذي قبله سواء. وقال ابن عباس: "إنها إذا غربت وانتهت إلى الموضع الذي لا تتجاوزه استقرت تحت العرش إلى أن تطلع".
قلت: ما قاله ابن عباس يجمع الأقوال فتأمله. وقيل: إلى انتهاء أمدها عند انقضاء الدنيا، وقرأ ابن مسعود، وابن عباس: "وَالشَّمسُ تَجْرِي لَا مُسْتَقَرَّ لَهَا" أي: إنها تجري في الليل والنهار، لا وقوف لها ولا قرار، إلى أن يكورها الله يوم القيامة. وقد احتج من خالف المصحف فقال: أنا أقرأ بقراءة ابن مسعود، وابن عباس، قال أبو بكر الأنباري: "وهذا باطل مردود على من نقله".
لأن الأمة أجمعت على ما أثبته عثمان -رضي الله عنه- بإجماع الصحابة بين الدفتين، فلا تجوز القراءة بقراءة لا توافق ما في المصحف.
"قال أبو بكر الأنباري: "وهذا باطل مردود على من نقله؛ لأن أبا عمرو روى عن مجاهد عن ابن عباس، وابن كثير روى عن مجاهد عن ابن عباس {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} فهذان السندان عن ابن عباس، اللذان يشهد بصحتهما الإجماع يبطلان ما روي بالسند الضعيف مما يخالف مذهب الجماعة، وما اتفقت عليه الأمة".
قلت: والأحاديث الثابتة التي ذكرناها ترد قوله، فما أجرأه على كتاب الله، قاتله الله".
يعني الذي يريد القراءة بما يخرج عن مصحف عثمان.
"وقوله: {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} أي: إلى مستقرها، والمستقر موضع القرار. {ذَلِكَ تَقْدِيرُ} أي: الذي ذكر من أمر الليل والنهار والشمس تقدير {الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}.
قوله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ}[يس:39]. فيه ثلاث مسائل: الأولى: قوله تعالى: {وَالْقَمَرَ} يكون تقديره: وآية لهم القمر. ويجوز أن يكون {وَالْقَمَرَ} مرفوعًا بالابتداء. وقرأ الكوفيون: {وَالْقَمَرَ} بالنصب على إضمار فعلٍ، وهو اختيار أبي عبيد. قال: لأن قبله فعلًا وبعده فعلاً".
يعني فالْجُمَل كلها فعلية، فيقدر فعل قبل القمر يكون عاملاً له.
"قبله {نَسْلَخُ} وبعده {قَدَّرْنَاهُ}". قال النحاس: "وأهل العربية جميعًا فيما علمت على خلاف ما قال منهم الفراء قال: "الرفع أعجب إلي"، وإنما كان الرفع عندهم أولى؛ لأنه معطوف على ما قبله، ومعناه؛ وآية لهم القمر. وقوله: إن قبله {نَسْلَخُ}، فقبله ما هو أقرب منه وهو: {تَجْرِي} وقبله".
وأيضًا ما يدل على الرفع انشغال الفعل الذي بعده بمفعوله، وهو الضمير.
"وقبله {وَالشَّمْسُ} بالرفع والذي ذكره بعده، وهو {قَدَّرْنَاهُ} قد عمل في الهاء". قال أبو حاتم: "الرفع أولى؛ لأنك شغلت الفعل عنه بالضمير فرفعته بالابتداء". ويقال: القمر ليس هو المنازل، فكيف قال: {قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ}؟
ففي هذا جوابان: أحدهما: {قَدَّرْنَاهُ} ذا منازل، مثل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}[يوسف:82]. والتقدير الآخر: قدرنا له منازل، ثم حذفت اللام، وكان حذفها حسنًا؛ لتعدي الفعل إلى مفعولين، مثل: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا}[الأعراف:155].
والمنازل ثمانية وعشرون منزلاً، ينزل القمر كل ليلة منها بمنزل، وهي: الشَّرَطانُ، البُطَينُ، والثُّرَيا، والدَّبَرانُ، والْهَقْعَةُ، والْهَنْعَةُ، والذِّرَاعُ، والنَّثْرَةُ، والطَّرفُ، والْجَبْهَةُ، والْخَرَاتَان، والصِّرْفَةُ، والْعَوْاءُ، والسِّمَاكُ، والْغَفَر الزَّبَانِيَان، الْإكْلِيلُ، والْقَلْبُ، والشَّوْلَة، والنَّعَائِمُ الْبَلْدَةُ، سَعْد الذَّابِحِ، سَعْد بُلَعْ، سَعْد السَّعُود، سَعْد الْأخْبِية، الْفَرْغُ المُقَدّم، الْفَرْغ الْمُؤَخَّر، وبَطْنُ الْحُوت. فإذا صار القمر في آخرها عاد إلى أولها، فيقطع الفلك في ثمان وعشرين ليلة، ثم يَسْتَسِرُّ، ثم يطلع هلالاً، فيعود في قطع الفلك على المنازل، وهي منقسمة على البروج، لكل برج منزلان وثلث. فَلِلْحَمَلِ الشَّرَطَانِ والْبُطَينُ وثلث الثُّرَيَا، ولِلْثَوْرِ ثلثا الثَّرَيَا والدَّبَرَانِ وثلثا الْهَقْعَة، ثُمَّ كذلك إلى سائرها. وقد مضى في الحجر تسمية البروج، والحمد لله.
وقيل: إن الله تعالى خلق الشمس والقمر من نار ثم كُسِيَا النور عند الطلوع، فأما نور الشمس فمن نور العرش، وأما نور القمر فمن نور الكرسي، فذلك أصل الخلقة وهذه الْكُسْوة. فأما الشمس فتركت كِسْوَتُها على حالها لتشعشع وتشرق، وأما القمر فَأَمَرَّ الروح الأمين جناحه على وجهه فمحا ضوءه بسلطان الجناح، وذلك أنه روح، والروح سلطانه غالب على الأشياء. فبقي ذلك المحو على ما يراه الخلق".
يعني كما جاء في سورة [الإسراء]: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً}[الإسراء:12]، نعم.
"ثم جعل في غلاف من ماء، ثم جعل له مجرى، فكل ليلة يبدو للخلق من ذلك الغلاف قمرًا بمقدار ما يَقْمُرُ لهم حتى ينتهي بدؤه، ويراه الخلق بكماله واستدارته، ثم لا يزال يعود إلى الغلاف كل ليلة شيء منه، فينقص من الرؤية والإقمار بمقدار ما زاد في البدء، ويبتدئ في النقصان من الناحية التي لا تراه الشمس، وهي ناحية الغروب، ثم يعود كالعرجون القديم، وهو الْعِذق المتقوس لِيُبْسِه ودقته. وإنما قيل القمر؛ لأنه يُقْمِر أي: يُبَيّضُ الجو ببياضه إلى أن يَسْتَّسِر.
الثانية: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} قال الزجاج: "هو عود العذق الذي عليه الشماريخ، وهو فُعْلُونٌ من الانعراج وهو الانعطاف، أي: سار في منازله، فإذا كان في آخرها دق واستقوس وضاق حتى صار كالعرجون". وعلى هذا فـ "النون" زائدة. وقال قتادة: "هو العذق اليابس المنحني من النخلة". قال ثعلب: "{كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} قال: "العرجون" الذي يبقى من الكباسة في النخلة إذا قطعت، و{الْقَدِيمِ} البالي". قال الخليل في باب الرباعي: "العرجون: أصل العذق، وهو أصفر عريض، يُشبه به الهلال إذا انحنى". قال الجوهري: "العرجون أصل العذق الذي يعوج وتقطع منه الشماريخ فيبقى على النخل يابسًا".
وعرجنه ضربه بالعرجون.
"وعَرْجَنَه: ضربه بالعرجون". فالنون على قول هؤلاء أصلية، ومنه شعر أعشى بني قيس:
شَرِقَ الْمِسْكُ والْعَبِيرُ بِهَا |
فَهِي صَفْراء كَعُرْجُون الْقَمَر |
فالعرجون إذا عَتَقَ ويبس وتقوَّس شبه القمر في دقته وصفرته به. ويقال له أيضًا: الْإِهَانُ والْكَبَاسَةُ والْقِنُو، وأهل مصر يسمونه: الإسباطة".
تشبيه القمر بالعرجون، مع أن الأصل في التشبيه أن المشبه به يكون هو الأوسع انتشارًا الذي يعرفه الناس كلهم، القمر يعرفه الناس كلهم، مع أن العرجون لا يعرفه إلا أصحاب الزراعة والنخيل، ما يعرفه إلا مَنْ في بلده نخل، وكثير من بلدان العالم ليس فيها نخل، فكيف يُشبه بما هو أدنى منه؟ لكن باعتبار العرجون بين أيديهم يتداولونه من قرب، والقمر بعيد عنهم جاء التشبيه من هذه الحيثية، مع أن القرآن نزل على مَنْ عندهم النخل، وعندهم العرجون، المقصود أن مثل هذا التشبيه الأصل أن يكون المشبه به أوسع انتشارًا، يعرفه الناس كلهم، والقمر لا شك أنه أوسع انتشارًا من العرجون إلا أن الذي خفّف هذا أن العرجون يتداولونه من قرب وبين أيديهم، وأما بالنسبة للقمر فهو بعيد عنهم، قد يغفلون عنه.
"وقرئ: {الْعِرْجَون}".
{الْعِرْجَون}.
" بوزن الْفِرْجَون، وهما لغتان كـ "الْبُزْيُون، والْبِزْيَون"، ذكره الزمخشري وقال: "هو عود العذق ما بين شماريخه إلى منبته من النخلة".
واعلم أن السنة منقسمة على أربعة فصول، لكل فصل سبعة منازل: فأولها الربيع، وأوله خمسة عشر يومًا من آذار، وعدد أيامه اثنان وتسعون يومًا، تَقْطَعُ فيه الشمس ثلاثة بروج: الحمل، والثور، والجوزاء، وسبعة منازل: الشرطان، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع. ثم يدخل فصل الصيف في خمسة عشر يومًا من حزيران، وعدد أيامه اثنان وتسعون يومًا، تَقْطَعُ الشمس فيه ثلاثة بروج: الشرطان، والأسد، والسنبلة، وسبعة منازل: وهي النثرة، والطرف، والجبهة، والخراتان، والصرفة، والعواء، والسماك. ثم يدخل فصل الخريف في خمسة عشر يومًا من أيلول، وعدد أيامه أحد وتسعون يومًا، تقطع فيه الشمس ثلاثة بروج، وهي الميزان، والعقرب، والقوس، وسبعة منازل: الغفر، والزبانان، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، ثم يدخل فصل الشتاء في خمسة عشر يومًا من كانون الأول، وعدد أيامه تسعون يومًا، وربما كان أحدًا وتسعين يومًا، تقطع فيه الشمس ثلاثة بروج: وهي الجدي، والدلو، والحوت، وسبعة منازل: سعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، والفرغ المقدم، والفرغ المؤخر، وبطن الحوت. وهذه قسمة السريانيين لشهورها: تَشْرِين الأول، تَشْرِين الثاني، كانون الأول، كانون الثاني، أشباط، آذار، نَيْسَان، أَيَّار، حُزَيْران، تموز، آب، أيلول، وكلها أحد وثلاثون إلا تَشْرِين الثاني ونَيْسَان وحُزَيْران وأيلول، فهي ثلاثون، وأشباط ثمانية وعشرون يومًا وربع يوم وإنما أردنا بهذا أن تنظر".
تسمية هذه الأشهر، أو هذه الأشهر، هي ليست عند المسلمين كما هو معلوم، وإنما أشهرهم المعروفة القمرية، تبدأ بالمحرم وتنتهي بذي الحجة، اثنا عشر شهرًا، وغالبها تسعٌ وعشرون، وقد يَكْمُل بعضها، والمعول فيها والمعتمد على رؤية الهلال، وأمَّا هم فتقويمهم ثابت، مع الأسف أن بعض البلاد التي تنتسب إلى الإسلام صارت تعتمد تقويم غير المسلمين من باب التقليد المحض، أو يكون لما في ذلك من مصالحهم الدنيوية؛ لأن السنة تزيد عشرة أيام فتكون من مصلحة أعمالهم التجارية، يعني التجار بدل ما يصرفون للعامل السنة ثلاثمائة وخمسين، ما يصرفون إلا ثلاثمائة وستين، فيعود عليهم بشيء من الدخل، لكن هذا تمحق بركته بشؤم المخالفة، والله المستعان.
طالب:.....
بعضهم يقول يُسَمونها عليهم، يعني في [صبح العشى] بيان وتفصيل هذا، لو رجعت إليه وجدته.
طالب:.....
نعم، لكنه تقليد محض ليس من عمل المسلمين.
طالب:...... وأصبح يرى بشكل كبير في البنوك؟
مثل ما ذكرت لك هذا أوفر لهم بالنسبة لأمر الدنيا، كون العامل ما يصرف له الشهر إلا واحدًا وثلاثين يومًا أحب إليهم من أن يصرفوا تسعة وعشرين، يكسبون يومين، وهذا من إيثار الدنيا، من إيثار الفانية على الباقية.
"وإنما أردنا بهذا أن تنظر في قدرة الله تعالى، فذلك قوله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ}، فإذا كانت الشمس في منزل أهل الهلال بالمنزل الذي بعده، وكان الفجر بمنزلتين من قبله. فإذا كانت الشمس بالثريا في خمسة وعشرين يومًا من نيسان، كان الفجر بالشرطين، وأهل الهلال بالدبران، ثم يكون له في كل ليلة منزلة حتى يقطع في ثمان وعشرين ليلة ثمانيًا وعشرين منزلة. وقد قطعت الشمس منزلتين فيقطعهما، ثم يطلع في المنزلة التي بعد منزلة الشمس، فـ {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}[يس:38].
الثالثة: قوله تعالى: {الْقَدِيمِ} قال الزمخشري: "القديم الْمُحْوِل".
يعني الذي تَمَّ له حول، يعني سنة.
"وإذا قدم دق وانحنى واصفر، فشبه القمر به من ثلاثة أوجه". وقيل: أقل عدة الموصوف بالقديم الحول، فلو أن رجلًا قال: كل مملوك لي قديم فهو حر، أو كتب ذلك في وصيته عَتُقَ من مضى له حول أو أكثر".
لكن الحداثة والقِدَم أمور نسبية، لكن لو كان عنده عبد من ثلاثين سنة، وعبد من عشر سنين، وقال: العبد القديم حُرٌّ، مَنْ الذي يعتق منهما؟ الأول، وإن كان الثاني له عشر سنين، وهو قديم بالنسبة لم يُسْتَحدث، لكنها أمور نسبية.
"قلت: قد مضى في [البقرة:189] ما يترتب على الأهلة من الأحكام، والحمد لله.
قوله تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}[يس:40].
قوله تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ}. رفعت الشمس بالابتداء، ولا يجوز أن تعمل {لا} في معرفة، وقد تكلم العلماء في معنى هذه الآية، فقال بعضهم: معناها: أن الشمس لا تدرك القمر فَتُبْطِلُ معناه. أي: لكل واحد منهما سلطان على حياله، فلا يدخل أحدهما على الآخر فيذهب سلطانه، إلى أن يبطل الله ما دَبَرَ من ذلك، فتطلع الشمس من مغربها على ما تقدم في آخر سورة الأنعام بيانه، وقيل: إذا طلعت الشمس لم يكن للقمر ضوء، وإذا طلع القمر لم يكن للشمس ضوء، روي معناه عن ابن عباس، والضحاك. وقال مجاهد: "أي: لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر". وقال قتادة: "لكلٍ حد وعلم لا يعدوه، ولا يقصر دونه، إذا جاء سلطان".
يعني التنظير في مثل هذا، إذا كان هناك سيارتان تجريان في خطٍّ واحد، وسرعتهما واحدة، سيارة تمشي مائة وعشرين، والثانية تمشي مائة وعشرين، وهذه متقدمة بدأت قبلها، يعني بساعة مثلًا، هل يمكن أن تدرك الثانية الأولى والسرعة واحدة؟ ما يمكن، فلا يمكن أن تدرك الأولى الأخيرة الثانية؛ لأن السرعة واحدة فـ {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ}؛ لأن لها أمرًا محددًا لها تجري في فلكها بسرعة معينة لا تزيد ولا تنقص، وإلا لو ترك المجال لأصحاب السيارات في السباق مثلًا يدرك، الأسرع يدرك الأدنى، ونظير ما عندنا هو السيارات التي حُدِّدت لها سرعة والتزمت بها لا يمكن أن تدرك الآخرة منهما الأولى.
طالب: .....
نعم.
طالب:.....
إسرائيلي هذا، من الإسرائيليات هذا.
طالب:.....
هكذا يقول أهل الهيئة، وهذه أمور لا تدرك بالرأي.
"وقال الحسن: "إنهما لا يجتمعان في السماء ليلة الهلال خاصة". أي: لا تبقى الشمس حتى يطلع القمر، ولكن إذا غربت الشمس طلع القمر. قال يحيى بن سَلَّام: "لا تدرك الشمس القمر ليلة البدر خاصة؛ لأنه يبادر بالمغيب قبل طلوعها". وقيل: معناه إذا اجتمعا في السماء كان أحدهما بين يدي الآخر في منازل لا يشتركان فيها، قاله ابن عباس أيضًا. وقيل: القمر في السماء الدنيا، والشمس في السماء الرابعة، فهي لا تدركه، ذكره النحاس والمهدوي، قال النحاس: "وأحسن ما قيل في معناها وأبينه مما لا".
لكن عند أهل الهيئة أن سرعة الشمس أضعاف مضاعفة عن سرعة القمر، مما يدل على أن هذا الكلام صحيح؛ أن الشمس في الرابعة والقمر في السماء الدنيا، لذلك يقولون: إن سرعة الشمس تفوق بمضاعفات عن سرعة القمر، فإذا كانت أسرع منه فلماذا لا تدركه؟ قالوا: لأن السماء الرابعة بالنسبة للأولى أضعاف مضاعفة، يعني: كل سماء حجمها دون التي فوقها، حتى ذكر ابن كثير-رحمه الله- أن حجم السماء الدنيا واحد على اثني عشر من السماء الثانية، في تاريخه ذكر هذا في خلق السماوات والأرض، لأن كل واحدة منها كالقبة على التي تحتها، إلى أن يكون العرش الذي يحيط بالجميع.
"قال النحاس: "وأحسن ما قيل في معناها وأبينه مما لا يدفع أن سير القمر سير سريع، والشمس لا تدركه في السير". ذكره المهدوي أيضًا. فأما قوله سبحانه: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ}[القيامة:9] فذلك حين حبس الشمس عن الطلوع على ما تقدم بيانه في آخر الأنعام ويأتي في سورة القيامة أيضًا. وجمعهما علامة لانقضاء الدنيا وقيام الساعة".
لأن العلل والحِكَم التي من أجلها وجدت الشمس ووجد القمر انتهت.
"{وَكُلٌّ} يعني: من الشمس والقمر والنجوم {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أي: يجرون. وقيل: يدورون. ولم يقل تسبح؛ لأنه وصفها بفعل من يعقل".
الخلاف في كون القمر في داخل السماء من فهم قول الله -جلَّ وعلا-: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا}[نوح:16]. يعني هذه الظرفية هل تقتضي أن تكون السماء محتوية على القمر، أو لا يلزم منه ذلك؟ خلاف؛ تبعًا لفهم هذه الآية.
"وقال الحسن: "الشمس والقمر والنجوم في فلك بين السماء والأرض غير ملصقة، ولو كانت ملصقة ما جرت". ذكره الثعلبي والماوردي. واستدل بعضهم بقوله تعالى: {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} على أن النهار مخلوق قبل الليل، وأن الليل لم يسبقه بخلق".
يعني التنصيص على كون الليل لا يسبق النهار، لا يعني أن النهار قد يسبق الليل، يعني هذا من باب الاكتفاء {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} يعني ولا النهار سابق الليل، إنما بترتيب بديع لا يسبق أحدهما الآخر، فإذا انقضى النهار جاء الليل، وإذا انقضى الليل جاء النهار من غير تداخل، وأما الإيلاج: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}[الحج:61، فاطر:13، الحديد:6]. فهذا معناه أنه يأخذ من النهار لليل، ويأخذ من الليل للنهار.
"وقيل: كل واحد منهما يجيء وقته ولا يسبق صاحبه إلى أن يجمع بين الشمس والقمر يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ}[القيامة:9]، وإنما هذا التعاقب الآن لتتم مصالح العباد. {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}[الإسراء:12]، ويكون الليل للإجمام والاستراحة، والنهار للتصرف، كما قال تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[القصص:73]. وقال: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا}[النبأ:9]. أي: راحة لأبدانكم من عمل النهار. فقوله: {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} أي: غالب النهار، يقال: سبق فلان فلانًا أي: غلبه. وذكر المبرد قال: "سمعت عمارة يقرأ: {ولا الليل سابق النهار}".
يعني على القطع عن الإضافة، لكن الأصل أنه إذا قُطِعَ عن الإضافة نون هذا الأصل، لكنه مع قطعه عن الإضافة لم ينونه.
"فقلت: ما هذا؟ قال: أردت: سابقٍ النهار، فحذفت التنوين؛ لأنه أخف".
وفي مثل هذا تجوز الإضافة، ويجوز القطع، إلا أنه إذا كان المدلول على أمر قد مضى فالإضافة أولى، وإن كان مدلول الكلام على أمرِ مستقبل فقطعه عن الإضافة أولى، إذا قال شخص: أنا قاتلُ زَيدِ، أو قال: أنا قاتلٌ زَيدًا، إذا قال: أنا قاتلُ زَيدِ، فهو يعترف على نفسه بأنه قتله في ما مضى، وإذا قال: أنا قاتلٌ زَيدًا، فهو يهدده ليقتله في المستقبل.
"قال النحاس: "يجوز أن يكون {النَّهَارِ} منصوبًا بغير تنوين، ويكون التنوين حُذِفَ لالتقاء الساكنين.
قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ، وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ، إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}[يس:41-44].
قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ}[يس:41]. يحتمل ثلاثة معان: أحدها: عبرة لهم؛ لأن في الآيات اعتبارًا. الثاني: نعمة عليهم؛ لأن في الآيات إنعامًا. الثالث: إنذار لهم؛ لأن في الآيات إنذارًا. {أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّاتِهِمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}".
هذه قراءة نافع وعليها المؤلف، يعني المؤلف اعتمد قراءة نافع، والذي طبع الكتاب وأدخل الآيات فيه؛ وإلا فالأصل أن التفسير ليس فيه آيات، وهذا ذكرناه في مناسبات كثيرة، التفسير ليس فيه آيات، فليت الذي أدخل الآيات أدخل القراءة التي اعتمدها المؤلف؛ لئلا يُوجَد إرباك، حينما يقول المؤلف: {أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّاتِهِمْ}، وفي الآية: {ذُرِّيَّتَهُمْ} معناه فيه اضطراب، لكن لو وجِدَت الآيات بالقراءة التي اعتمدها المؤلف ما صار فيه اضطراب.
"من أشكل ما في السورة؛ لأنهم هم المحمولون. فقيل: المعنى: وآية لأهل مكة أنا حملنا ذرية القرون الماضية في الفلك المشحون. فالضميران مختلفان؛ ذكره المهدوي. وحكاه النحاس عن علي بن سليمان أنه سمعه يقوله. وقيل: الضميران جميعًا لأهل مكة على أن يكون {ذُرِّيَّاتِهِمْ} أولادهم وضعفاءهم، "فالفلك" على القول الأول سفينة نوح -عليه السلام-. وعلى الثاني يكون اسما للجنس؛ خَبَّرَ –جلَّ وعزَّ– بلطفه وامتنانه أنه خلق السفن يُحْمَلُ فيها من يصعب عليه المشي والركوب من الذرية والضعفاء، فيكون الضميران على هذا متفقين".
والكل ضعفاء بالنسبة للبحر، الكل ضعفاء.
"وقيل: الذرية الآباء والأجداد، حملهم الله تعالى في سفينة نوح، فالآباء ذرية والأبناء ذرية؛ بدليل هذه الآية؛ قاله أبو عثمان. وسمي الآباء ذرية؛ لأن منهم ذرأ الأبناء. وقول رابع: أن الذرية النطف، حملها الله تعالى في بطون النساء تشبيها بالفلك المشحون؛ قاله علي بن أبي طالب، ذكره الماوردي. وقد مضى في البقرة اشتقاق الذرية والكلام فيها مستوفى. و{الْمَشْحُونِ} المملوء الْمُوقَر، و{الْفُلْكِ} يكون واحدًا وجمعًا. وقد تقدم في يونس القول فيه.
قوله تعالى: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ}[يس:42]. والأصل يركبونه، فحذفت الهاء لطول الاسم وأنه رأس آية.
وفي معناه ثلاثة أقوال: مذهب مجاهد، وقتادة، وجماعة من أهل التفسير، وروي عن ابن عباس أن معنى {مِنْ مِثْلِهِ} للإبل، خلقها لهم للركوب في البر مثل السفن المركوبة في البحر؛ والعرب تشبه الإبل بالسفن. قال طَرَفَة:
كأن حُدُوجَ المالكية غُدْوَةِ |
خلايا سفين بالنواصف من دَدِ |
جمع خلية وهي السفينة العظيمة".
يسمون الإبل سفينة الصحراء.
والقول الثاني: أنه للإبل والدواب وكل ما يركب. والقول الثالث: أنه للسفن، قال النحاس: "وهو أصحها؛ لأنه متصل الإسناد عن ابن عباس".
ولقوله: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ}[يس:43]، والإغراق لا يكون إلا للسفن، اللهم إن لا إذا كان إغراقًا بمطر ونحوه، شَمِلَ الجميع.
"{وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} قال: خلق لهم سفنًا أمثالها يركبون فيها. وقال أبو مالك: "إنها السفن الصغار خلقها مثل السفن الكبار. وروي عن ابن عباس، والحسن. وقال الضحاك وغيره: "هي السفن المتخذة بعد سفينة نوح". قال الماوردي: "ويجيء على مقتضى تأويل علي في أن الذرية في الفلك المشحون هي النطف في بطون النساء، قولٌ خامس في قوله: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} أن يكون تأويله: النساء خلقن لركوب الأزواج. لكن لم أره محكيًّا".
وهذا بعيد، نعم.
طالب: .....
دقيقة.
"قوله تعالى: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ}[يس:43]، أي: في البحر، فترجع الكناية إلى أصحاب الذرية، أو إلى الجميع، وهذا يدل على صحة قول ابن عباس، ومن قال: إن المراد {مِنْ مِثْلِهِ} السفن لا الإبل. {فَلا صَرِيخَ لَهُمْ} أي: لا مُغِيثَ لهم. رواه سعيد عن قتادة. وروى شيبان عنه: فلا منعة لهم. ومعناهما متقاربان. و{صَرِيخَ} بمعنى مصرخ، فعيل بمعنى فاعل".
يعني منقذ ومسعف.
"ويجوز {فَلا صَرِيخٌ لَهُمْ}؛ لأن بعده ما لا يجوز فيه إلا الرفع؛ لأنه معرفة، وهو {وَلا هُمْ يُنقَذُونَ}، والنحويون يختارون: "لا رجل في الدار، ولا زيدٌ". ومعنى {يُنقَذُونَ} يخلصون من الغرق. وقيل: من العذاب".
لا رجل في الدار، ولا زيدٌ، يختارون هذا؛ لأن "لا" النافية للجنس تدخل على نكرة، لذلك قال: {فَلا صَرِيخَ}؛ لأنها نكرة {وَلا هُمْ} ضمير رفع.
"قوله تعالى: {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا إِلَى حِينٍ}[يس:44]، قال الكسائي: "هو نصب على الاستثناء". وقال الزجاج: نصب مفعول من أجله؛ أي: للرحمة {وَمَتَاعًا} معطوف عليه. {إِلَى حِينٍ} إلى الموت؛ قاله قتادة. قال يحيى بن سَلَّام: "إلى القيامة، أي: إلا أن نرحمهم ونمتعهم إلى آجالهم، وأن الله عجل عذاب الأمم السالفة، وأخر عذاب أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- وإن كذبوه إلى الموت والقيامة".
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
بالنسبة للتفسير [تفسير الشيخ ابن سعدي] الدرس الماضي قلنا: إن الشيخ قال عند قوله -جلَّ وعلا-: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَاد} في بعض الطبعات قال: "مُتَرَحِّمًا"، وفي بعضها قال: "متوجعاً" {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَاد} قلنا: إن الطبعة الأولى التي طُبعت في حياة الشيخ، قال: "مُتَرَحِّمًا"، وهي كذلك في بعض الطبعات المجموعة في مجلد واحد، بعناية الدكتور/ عبد الرحمن بن معلى، وُجِدَ هذا وهذا، قلت: لعل "متوجعًا" هذه خطأ، الأولى منها "مُتَرَحِّمًا"، فبلغ الشيخ الكلام هذا، واتصل علي، وقال: "إن في الطبعات الأولى اعتمدنا على الطبعة القديمة وقلنا: "مُتَرَحِّمًا"، فوجدنا اللفظة بخط الشيخ "متوجعًا" فأثبتناها"، والمسألة مسألة إخبار لا وصف ولا تسمية، والباب فيه واسع، ومع ذلك فالإخبار ينبغي أن يكون أقرب إلى ما جاء في النصوص ولو كان إخبارًا، "والترحم" أقرب من "التوجع" بلا شك.
طالب:.....
في أي آية؟
طالب: .....
نعم ذريتهم، ماذا قال؟
طالب: فلما وصلت في الكتابة إلى هذا الموضع، ظهر لي معنى ليس ببعيد من مراد الله تعالى.
نعم.
طالب: كأنه ظهر له معنى.
طيب. ما هو؟
طالب: فلما وصلت في الكتابة إلى هذا الموضع، ظهر لي معنى ليس ببعيد من مراد الله تعالى، وذلك أن من عرف جلالة كتاب الله وبيانه التام من كل وجه، للأمور الحاضرة والماضية والمستقبلة، وأنه يذكر من كل معنى أعلاه وأكمل ما يكون من أحواله، وكانت الفلك من آياته تعالى ونعمه على عباده، من حين أنعم عليهم بتعلمها إلى يوم القيامة، ولم تزل موجودة في كل زمان، إلى زمان المواجهين بالقرآن.
فلما خاطبهم الله تعالى بالقرآن، وذكر حالة الفلك، وعلم تعالى أنه سيكون أعظم آيات الفلك في غير وقتهم، وفي غير زمانهم، حين يعلمهم صنعة الفلك البحرية الشراعية منها والنارية، والجوية السابحة في الجو، كالطيور ونحوها، والمراكب البرية مما كانت الآية العظمى فيه لم توجد إلا في الذرية، نبَّه في الكتاب على أعلى نوع من أنواع آياتها فقال:
{وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} أي: المملوء ركبانا وأمتعة. فحملهم الله تعالى، ونجاهم بالأسباب التي علمهم الله بها، من الغرق، ولهذا نبههم على نعمته عليهم حيث أنجاهم مع قدرته على ذلك، فقال: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ}.
كيف تكون آية وهي لم توجد بعد؟ الشيخ يريد أن يتحدث أن ذرية الذين خوطبوا بالقرآن سوف يحملون على فلك ما لها نظير في السابق.
لا شك في أنها أبلغ في كونها آية، لكنها ما وجدت، كيف يحال على شيء ما وجد، وليس له وجود، ومهما عملوا من عمل فلن يعملوا مثل سفينة نوح.