التعليق على تفسير القرطبي - سورة ص (01)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلِّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
قال الإمام القرطبي-رحمه الله تعالى-: "سُورَةُ ص. مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَهِيَ سِتٌّ وَثَمَانُونَ آيَةً. وَقِيلَ: ثَمَانٍ وَثَمَانُونَ آيَةً".
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
لا يختلف أهل العلم أن هذه السورة مكية، وسيأتي في أسباب النزول ما يدل على ذلك، وأما الاختلاف في أيها، وعدتها ست وثمانون أو ثمان وثمانون فمرده إلى احتساب البسملة آية، و"ص" هل هي آية أو جزء من آية، فمن قال: البسملة آية و"ص" بمفردها آية قال: ثمانٍ وثمانون، ومن لم يحتسب البسملة ولا "ص" قال: ستٌ وثمانون آية؛ لأن مثل هذا يشكل على من لا خبرة له، كيف يُختلف في آي سورة من السور هل ست وثمانين أو ثمانٍ وثمانين؟ والقرَّاء كلهم يتفقون على رؤوس الآي، يعني هم ما يختلفون كما اختلفوا في الفاتحة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة:7]، هل هي آية مستقلة أو مع التي قبلها؟ ومع ذلك قيل في الفاتحة إنها، عامة أهل العلم على أنها سبع. وهي المرادة بقوله -جل وعلا- في آية الحجر: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}[الحجر:87]. ومنهم من يقول: هي ست، لم يحتسب البسملة، وجعل الآيتين آية في آخرها، ومنهم من يقول: ثمانٍ، احتسب البسملة واحتسب الآية آيتين، وهكذا. وليس مردَّ الاختلاف إلى زيادة ونقص في القرآن، حاشا وكلا، إنما هذا سببه.
"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
قوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ}.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {ص} قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ "ص" بِجَزْمِ الدَّالِ عَلَى الْوَقْفِ؛ لِأَنَّهُ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ مِثْلَ: "الم" وَ"المر". وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ: "صَادِ" بِكَسْرِ الدَّالِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ. وَلِقِرَاءَتِهِ مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مِنْ صَادَى يُصَادِي إِذَا عَارَضَ، وَمِنْهُ: {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} أَيْ: تَعَرَّضُ. وَالْمُصَادَةُ الْمُعَارَضَةُ".
المصاداة.
"الْمُصَادَاةُ الْمُعَارَضَةُ، وَمِنْهُ الصَّدَى، وَهُوَ مَا يُعَارِضُ الصَّوْتَ فِي الْأَمَاكِنِ الْخَالِيَةِ. فَالْمَعْنَى صَادِ الْقُرْآنَ بِعَمَلِكَ، أَيْ: عَارِضْهُ بِعَمَلِكَ وَقَابِلْهُ بِهِ، فَاعْمَلْ بِأَوَامِرِهِ، وَانْتَهِ عَنْ نَوَاهِيهِ. قال النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْمَذْهَبُ يُرْوَى عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ فَسَّرَ بِهِ قِرَاءَتَهُ رِوَايَةً صَحِيحَةً. وَعَنْهُ أَنَّ الْمَعْنَى اتْلُهُ وَتَعَرَّضْ لِقِرَاءَتِهِ. وَالْمَذْهَبُ الْآخَرُ: أَنْ تَكُونَ الدَّالُ مَكْسُورَةً لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: "صَادَ" بِفَتْحِ الدَّالِ".
أين الساكنان؟ وَالْمَذْهَبُ الْآخَرُ: أَنْ تَكُونَ الدَّالُ مَكْسُورَةً لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ.
ما الذي يليها؟ الواو، والواو متحركة، فكيف يقول: وَالْمَذْهَبُ الْآخَرُ: أَنْ تَكُونَ الدَّالُ مَكْسُورَةً لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ؟ الذي يليها متحرك وهو الواو. من عللهم العليلة، من علل النحويين العليلة التي يريدون من جرائها تمرير قواعدهم، تمرير قواعدهم، أحيانًا يقولون: تحركت الواو وتُوهم انفتاح ما قبلها، وتُوهم انفتاح ما قبلها. وقالوا: هذه الصاد في الأصل ساكنة؛ لأنها حرف، مثل ما قال عن: ق، والم، والمر، توهم أن ما قبلها ساكن، أو توهم عدم وجود الواو، لا شك أن مثل هذا لا يوجه به كلام الله. عندهم من القواعد ما لا شك أن الأصل أن قواعدهم يلزم أن نسير عليها لاسيما ما يتفقون عليه. بين المدرستين الكوفية والبصرية، لكن البصريين يريدون أن يجعلوا قواعدهم كلية، فإذا قعَّدوا قاعدة ورأوا ما يخرج عنها، مشوه بمثل هذا الكلام، تحرَّكت الواو وتُوهِّم انفتاح ما قبلها، وإلا فالأصل أنها لا تُقلب ألفًا إلا، الواو لا تُقلب ألفًا إلا إذا تحركت وانفتح ما قبلها. وهنا قالوا: لالتقاء الساكنين، ولعله من هذا الباب، وإلا فالذي يليها متحرك وهو الواو.
"وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: "صَادَ" بِفَتْحِ الدَّالِ مِثْلَهُ: "قَافَ" وَ"نُونَ" بِفَتْحِ آخِرهَا. وَلَهُ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ: أَحَدُهُنَّ: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى اتْلُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فُتِحَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَاخْتَارَ الْفَتْحَ لِلْإتْبَاعِ، وَلِأَنَّهُ أَخَفُّ الْحَرَكَاتِ، وَالثَّالِثُ".
هنا يقول: أَحَدُهُنَّ: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى اتْلُ، ص بمعنى اتل، والثاني: أن يكون فتح لالتقاء الساكنين، الأصل أنه إذا التقى ساكنان يفتح الأول، أم يجر؟
طالب: ....
نعم، يكسر، يكسر لالتقاء الساكنين، لكنه قال هنا: واختار الفتح للإتباع، ما يحتاج أن يقول: لالتقاء الساكنين، إنما يقال: فتح الدال للإتباع، كما في قوله: {الحمدِ لله} كسر الدال من أجل الإتباع، من أجل الإتباع، وإلا فلا يوجد ساكنان هنا.
"وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْقَسَمِ بِغَيْرِ حَرْفٍ، كَقَوْلِكَ: اللَّهَ لَأَفْعَلَنَّ".
يعني حرف مقدر، والأصل في المقسم به أن يكون مجرورًا، لكنه نُصِب على نزع الخافض الذي هو حرف الجر، على نزع الخافض.
"وَقِيلَ: نُصِبَ عَلَى الْإِغْرَاءِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ صَادَ مُحَمَّدٌ قُلُوبَ الْخَلْقِ وَاسْتَمَالَهَا حَتَّى آمَنُوا بِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ أَيْضًا: "صَادٍ" بِكَسْرِ الدَّالِ وَالتَّنْوِينِ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَخْفُوضًا عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْقَسَمِ، وَهَذَا بَعِيدٌ، وَإِنْ كَانَ سِيبَوَيْهِ قَدْ أَجَازَ مِثْلَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُشَبَّهًا بِمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْأَصْوَاتِ وَغَيْرِهَا. وَقَرَأَ هَارُونُ الْأَعْوَرُ وَمُحَمَّدُ بْنُ السَّمَيْقَعِ: "صَادُ" وَ"قَافُ" وَ"نُونُ" بِضَمِّ آخِرِهِنَّ: لِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ بِالْبِنَاءِ فِي غَالِبِ الْحَالِ، نَحْو مُنْذُ وَقَطُّ وَقَبْلُ وَبَعْدُ. وَ "ص" إِذَا جَعَلْتَهُ اسْمًا لِلسُّورَةِ لَمْ يَنْصَرِفْ، كَمَا أَنَّكَ إِذَا سَمَّيْتَ مُؤَنَّثًا بِمُذَكَّرٍ لَا يَنْصَرِفُ وَإِنْ قَلَّتْ حُرُوفُهُ".
وإن قلَّت حروفه وخف على اللسان، إذا سميت به مؤنثًا وإن كان في الأصل اسم مذكر، فإنه سُميت مؤنثًا بمذكر لا ينصرف، ولو سُميت امرأة بزيد، فإنها تُمنع من الصرف لماذا؟ للعلمية والتأنيث، وإن كانت حروفه قليلة، ولا يثقل النطق بكسره، لكنه لوجود العلتين: العلمية والتأنيث يُمنع من الصرف.
"وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: وَقَدْ سُئِلَا عَنْ ص فَقَالَا: لَا نَدْرِي مَا هِيَ".
يعني كسائر الحروف المقطعة في أوائل السور الله أعلم بمراده بها، اختلاف طويل عريض بين أهل العلم، ومع ذلك في النهاية الله أعلم بالمراد؛ لأنه لم يرد فيها نصٌّ عن المعصوم يُفسّر به هذه الحروف، والحروف ليس لها معاني، الحروف في أصلها لا يتكون منها معنى جمليًّا، وإلا فالأصل أن الحروف المقطعة ليس لها معاني، لكن حروف المعاني، الحروف العوامل هذه لها معاني، وبُيِّنت في كتب مستقلة، لكن الحروف المقطعة في مثل هذا الموضع، لو قيل لك مثلًا: اقرأ حروف الهجاء وفسرِّها، تقدر؟ ما لها معانٍ، هذا الأصل فيها، فأُجيب بقولهم: لا ندري ما هي.
"وَقَالَ عِكْرِمَةُ: سَأَلَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ ص فَقَالَ: ص كَانَ بَحْرًا بِمَكَّةَ، وَكَانَ عَلَيْهِ عَرْشُ الرَّحْمَنِ إِذْ لَا لَيْلَ وَلَا نَهَارَ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ص بَحْرٌ يُحْيِي اللَّهُ بِهِ الْمَوْتَى بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَعْنَاهُ صَدَقَ اللَّهُ. وَعَنْهُ أَنَّ ص قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ وَهُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى. وَقَالَه السُّدِّيُّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هُوَ مِفْتَاحُ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى صَمَدٌ، وَصَانِعُ الْمَصْنُوعَاتِ، وَصَادِقُ الْوَعْدِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الرَّحْمَنِ. وَعَنْهُ أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ فَاتِحَةُ السُّورَةِ".
لكن هل يختلفون؟ كل من تقدم ذكرهم هل يختلفون أنه فاتحة السورة؟ ما يختلفون أنه فاتحة السورة، فهذا في الحقيقة ليس بقول.
"وَقِيلَ: هُوَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ، وَهُوَ مَعْنَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ جَمِيعُ هَذَا فِي [الْبَقَرَةِ]".
يعني عند تفسير قوله -جل وعلا-: {الم} هناك استوفى المؤلف الأقوال كلها، جميع ما قيل في الحروف المقطعة جمعه في الموضع الأول.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْقُرْآنِ}، خُفِضَ بِوَاوِ الْقَسَمِ، وَالْوَاوُ بَدَلٌ مِنَ الْبَاءِ".
الواو بدل من الباء؛ لأن في حروف القسم الباء، الأصل: أقسم بالله، أقسم بكذا، وينوب عنها الواو والتاء، ومنهم من يقول: إن حروف القسم الثلاثة كلها أصول.
"أَقْسَمَ بِالْقُرْآنِ تَنْبِيهًا عَلَى جَلَالَةِ قَدْرِهِ، فَإِنَّ فِيهِ بَيَانَ كُلِّ شَيْءٍ، وَشِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَمُعْجِزَةً لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ذِي الذِّكْرِ خُفِضَ عَلَى النَّعْتِ".
يعني نعت للقرآن، ذي بمعنى صاحب نعتٌ للقرآن، والقرآن مجرور فجُرَّت بالياء؛ لأنها من الأسماء الخمسة.
"وَعَلَامَةُ خَفْضِهِ الْيَاءُ، وَهُوَ اسْمٌ مُعْتَلٌّ، وَالْأَصْلُ فِيهِ ذَوَى عَلَى فَعَلَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُقَاتِلٌ مَعْنَى ذِي الذَّكَرِ ذِي الْبَيَانِ. وقال الضَّحَّاكُ: ذِي الشَّرَفِ، أَيْ: مَنْ آمَنَ بِهِ كَانَ شَرَفًا لَهُ فِي الدَّارَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} أَيْ: شَرَفُكُمْ".
{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}[الزخرف:44]، يعني شرف لك ولقومك، ولا شك أن القرآن شرفٌ لهذه الأمة، ويزداد شرفًا من له مزيد عناية به: «إن الله يرفع بهذا القرآن أقوامًا، ويضع به آخرين».
"وَأَيْضًا الْقُرْآنُ شَرِيفٌ فِي نَفْسِهِ لِإِعْجَازِهِ وَاشْتِمَالِهِ عَلَى مَا لَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَقِيلَ: ذِي الذِّكْرِ أَيْ: فِيهِ ذِكْرُ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ. وَقِيلَ: ذِي الذِّكْرِ أَيْ: فِيهِ ذِكْرُ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَتَمْجِيدُهُ. وَقِيلَ: أَيْ: ذِي الْمَوْعِظَةِ وَالذِّكْرِ. وَجَوَابُ الْقَسَمِ مَحْذُوفٌ. وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى أَوْجُهٍ: فَقِيلَ جَوَابُ الْقَسَمِ ص؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ حَقٌّ، فَهِيَ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: وَالْقُرْآنُ، كَمَا تَقُولُ: حَقًّا وَاللَّهِ، نَزَلَ وَاللَّهِ، وَجَبَ وَاللَّهِ، فَيَكُونُ الْوَقْفُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى قَوْلِهِ: {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْر} حَسَنًا".
ويقدم الجواب للاهتمام بشأنه والعناية به.
"وَعَلَى فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ تَمَامًا".
يعني يتم الكلام هنا.
"قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَحَكَى مَعْنَاهُ الثَّعْلَبِيُّ عَنِ الْفَرَّاءِ، وَقِيلَ: الْجَوَابُ: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ}؛ لِأَنَّ بَلْ نَفْيٌ لِأَمْرٍ سَبَقَ، وَإِثْبَاتٌ لِغَيْرِهِ، قَالَهُ الْقُتَبِيُّ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَالْقُرْآنُ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ وَعَدَاوَةٍ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَوْ وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ مَا الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُونَ مِنْ أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَكَ بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ بَلْ هُمْ فِي تَكَبُّرٍ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ. وَهُوَ كَقَوْلِهِ: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ. بَلْ عَجِبُوا}".
يعني اشتهر عندهم، عند قومه -عليه الصلاة والسلام- بأنه الأمين، بأنه الأمين قبل أن يُبعث، هذا وصف له ملازم، قبل بعثته وبعد بعثته، ومن العجب أن يعترف هؤلاء الكفار بأمانته ويصفونه بهذه الأوصاف، ويصفونه بهذا الأوصاف، وأعجب من ذلك أن يوصف بالأمين، لا لوصف في ذاته، وإنما لأن أمه آمنة، قيل: هو أمين؛ لأن أمه آمنة، وهذا أشار إليه صاحب المنجد نصراني خبيث، هذا بعيد كل البعد لا من العقل، ولا من الاشتقاق ولا اللغة تدل عليه، إنما هو التعصب.
"وَقِيلَ: الْجَوَابُ كَمْ أَهْلَكْنَا كَأَنَّهُ قَالَ: وَالْقُرْآنِ لَكَمْ أَهْلَكْنَا، فَلَمَّا تَأَخَّرَتْ كَمْ حُذِفَتِ اللَّامُ مِنْهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ثُمَّ قَالَ: قَدْ أَفْلَحَ أَيْ: لَقَدْ أَفْلَحَ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ الْفَرَّاءِ. قال ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَتِمُّ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: جَوَابُ الْقَسَمِ {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ}، وَنَحْو مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}، وَقَوْلُهُ: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ إِلَى قَوْلِهِ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ}، قال ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهَذَا قَبِيحٌ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ قَدْ طَالَ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَكَثُرَتِ الْآيَاتُ وَالْقَصَصُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: جَوَابُ الْقَسَمِ قَوْلُهُ: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّار}. قال ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهَذَا أَقْبَحُ مِنَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ أَشَدُّ طُولًا فِيمَا بَيْنَ الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ. وَقِيلَ: الْجَوَابُ قَوْلُهُ: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ}. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ لَتُبْعَثُنَّ وَنَحْوَهُ".
الفصل بين القسم وجوابه فاصل طويل جرت العادة أنه يعاد القسم مرة ثانية للتذكير به، يعاد للتذكير به، وهنا ما فيه إعادة، فإذا لم يقع السامع في لبس من الطول كما في سورة: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1]، جوابه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}[الشمس:9]، بعد عشر آيات أو أكثر، مع أن الزمخشري لا يقتضي أن يكون الجواب قد أفلح، وإنما يقدر جوابًا قريبًا من القسم كما قُدِّر هنا، قال قتادة: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ لَتُبْعَثُنَّ وَنَحْوَهُ، هذا قريب.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ} أَيْ فِي تَكَبُّرٍ وَامْتِنَاعٍ مِنْ قَبُولِ الْحَقِّ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَزَّ-: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ}[البقرة:206]، وَالْعِزَّةُ عِنْدَ الْعَرَبِ: الْغَلَبَةُ وَالْقَهْرُ. يُقَالُ: مَنْ عَزَّ بَزَّ، يَعْنِي مَنْ غَلَبَ سَلَبَ. وَمِنْهُ: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} أَرَادَ غَلَبَنِي. وَقَالَ جَرِيرٌ: يَعُزُّ عَلَى الطَّرِيقِ بِمَنْكِبَيْهِ كَمَا ابْتَرَكَ الْخَلِيعُ عَلَى الْقِدَاحِ، أَرَادَ يَغْلِبُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَشِقَاقٍ} أَيْ فِي إِظْهَارِ خِلَافٍ وَمُبَايَنَةٍ. وَهُوَ مِنَ الشِّقِّ، كَأَنَّ هَذَا فِي شِقٍّ وَذَلِكَ فِي شِقٍّ. وَقَدْ مَضَى فِي [ الْبَقَرَةِ ] مُسْتَوْفًى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} أَيْ قَوْمٌ كَانُوا أَمْنَعَ مِنْ هَؤُلَاءِ. وَ "كَمْ": لَفْظَةُ التَّكْثِيرِ. {فَنَادَوْا} أَيْ بِالِاسْتِغَاثَةِ وَالتَّوْبَةِ. وَالنِّدَاءُ رَفْعُ الصَّوْتِ، وَمِنْهُ الْخَبَرُ: «أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ فَإِنَّهُ أَنْدَى مِنْكَ صَوْتًا» أَيْ: أَرْفَعُ".
ويقابله: المناجاة، وهي المحادثة بصوت منخفض.
"{وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} قَالَ الْحَسَنُ: نَادَوْا بِالتَّوْبَةِ وَلَيْسَ حِينَ التَّوْبَةِ وَلَا حِينَ يَنْفَعُ الْعَمَلُ. قال النَّحَّاسُ: وَهَذَا تَفْسِيرٌ مِنْهُ لِقَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} فَأَمَّا إِسْرَائِيلُ فَرَوَى عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ التَّمِيمِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} قَالَ: لَيْسَ بِحِينِ نَزْوٍ وَلَا فِرَارٍ قَالَ: ضُبْطُ الْقَوْمِ جَمِيعًا، قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانُوا إِذَا قَاتَلُوا فَاضْطُرُّوا قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَنَاصَ أَيْ: عَلَيْكُمْ بِالْفِرَارِ وَالْهَزِيمَةِ، فَلَمَّا أَتَاهُمُ الْعَذَابُ قَالُوا مَنَاصَ، فَقَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ}".
لأنهم ظنوا أنهم يتعاملون مع مخلوق، تمكن مغالبته، لكنه الخالق القادر على كل شيء.
"قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَعَلَى هَذَا فَالتَّقْدِير: فَنَادَوْا مَنَاصَ فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ؛ أَيْ: لَيْسَ الْوَقْتُ وَقْتَ مَا تُنَادُونَ بِهِ. وَفِي هَذَا نَوْعُ تَحَكُّمٍ، إِذْ يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ مَنْ هَلَكَ مِنَ الْقُرُونِ كَانُوا يَقُولُونَ مَنَاصَ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} أَيْ: لَا خَلَاصَ، وَهُوَ نَصْبٌ بِوُقُوعِ " لَا " عَلَيْهِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى عَلَى هَذَا لِلْوَاوِ فِي وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ، وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: أَيْ: فَنَادَوْا حِينَ لَا مَنَاصَ، أَيْ: سَاعَةٌ لَا مَنْجَى وَلَا فَوْتَ. فَلَمَّا قَدَّمَ "لَا" وَأَخَّرَ "حِينَ" اقْتَضَى ذَلِكَ الْوَاوَ، كَمَا يَقْتَضِي الْحَالَ إِذَا جُعِلَ ابْتِدَاءً وَخَبَرًا، مِثْلَ قَوْلِكَ: جَاءَ زَيْدٌ رَاكِبًا، فَإِذَا جَعَلْتَهُ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا اقْتَضَى الْوَاوَ مِثْلَ: جَاءَنِي زَيْدٌ وَهُوَ رَاكِبٌ، فَحِينَ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ: فَنَادَوْا. وَالْمَنَاصُ: بِمَعْنَى التَّأَخُّرِ وَالْفِرَارِ وَالْخَلَاصِ، أَيْ: نَادَوْا لِطَلَبِ الْخَلَاصِ فِي وَقْتٍ لَا يَكُونُ لَهُمْ فِيهِ خَلَاصٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ:
أَمِنْ ذِكْرِ لَيْلَى |
إذْ نَأَتْكَ تَنُوصُ |
يُقَالُ: نَاصَ عَنْ قَرْنِهِ يَنُوصُ نَوْصًا وَمَنَاصًا أَيْ: فَرَّ وَزَاغَ. قال النَّحَّاسُ: وَيُقَالُ: نَاصَ يَنُوصُ إِذَا تَقَدَّمَ.
قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِنَ الْأَضْدَادِ، وَالنَّوْصُ الْحِمَارُ الْوَحْشِيُّ".
من الأضداد؛ لأن ناص بمعنى فر وهرب وزاغ، كما أنه يأتي بمعنى تقدم، عكس فر، تقدم إلى الشيء الذي فر منه غيره، كلاهما يقال له: ناص، هذا ناص إلى جهة اليمين وذاك ناص إلى جهة الشمال، وتأتي بمعنى فر وهرب وأبعد، وتأتي أيضًا بمعنى تقدم وقرب، فيكون على هذا من الأضداد. قوله مثلًا فيما تقدم أنه يبعد، إذ يبعد أن يقال: كل من هلك مِنَ الْقُرُونِ كَانُوا يَقُولُونَ مَنَاصَ عِنْدَ الِاضْطِرَار؛ كل من هلك ورأى علامات الهلاك من القرون يتحدث بما يناسبه بما يوصي به قومه، ما يكون سببًا لنجاته، القرون التي أُهلكت يوصي بعضهم بعضًا بما يكون سببًا لنجاته، فيقال لهم: لات حين مناص، الآن ما يمضي ما في مفر، وليس قوله: {ولات حين مناص} من قولهم هم، من قول الأمم المهلكة وإنما يقال لهم. فقوله: إِذْ يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ مَنْ هَلَكَ مِنَ الْقُرُونِ كَانُوا يَقُولُونَ مَنَاصَ عِنْدَ الِاضْطِرَار، هم يقولون بأساليبهم، ولغاتهم، وعاداتهم إذا أراد أن يوصي بعضهم بعضًا بعمل أسباب الخلاص، حين لا ينفع الخلاص، حين لا تنفع هذه الأسباب. يقال لهم: فيضمر القول، ويضمر القول مضطرد: لات حين مناص.
"وَالنَّوْصُ الْحِمَارُ الْوَحْشِيُّ وَاسْتَنَاصَ أَيْ: تَأَخَّرَ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَتَكَلَّمَ النَّحْوِيُّونَ فِي وَلَاتَ حِينَ وَفِي الْوَقْفِ عَلَيْهِ، وَكَثَّرَ فِيهِ أَبُو عُبَيْدَةَ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي كِتَابِ الْقِرَاءَاتِ، وَكُلُّ مَا جَاءَ بِهِ إِلَّا يَسِيرًا مَرْدُودٌ. فَقَالَ سِيبَوَيْهِ: لَاتَ مُشَبَّهَةٌ بِلَيْسَ، وَالِاسْمُ فِيهَا مُضْمَرٌ، أَيْ: لَيْسَتْ أَحْيَانُنَا حِينَ مَنَاصٍ".
هو يريد أن يجعل "لا" تعمل عمل "ليس"، وحينئذ تكون حجازية أو تميمية؟ حجازية تعمل عمل ليس.
فقال: ليست أحياننا حين مناص، ولما لحقت التاء بليس لحقت ب"لا" التي هي مثلها في المعنى والعمل، لات أحياننا حين مناص مثل ليست أحياننا حين مناص.
"وَحَكَى أَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَرْفَعُ بِهَا فَيَقُولُ: وَلَاتَ حِينُ مَنَاصٍ".
حتى على إلحاقها بليس إلا أنها ليست عاملة كعمل ليس كما هو قول تميم.
"وَحَكَى أَنَّ الرَّفْعَ قَلِيلٌ، وَيَكُونُ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا كَمَا كَانَ الِاسْمُ مَحْذُوفًا فِي النَّصْبِ، أَيْ: وَلَاتَ حِينُ مَنَاصٍ لَنَا. وَالْوَقْفُ عَلَيْهَا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاءِ وَلَاتَ بِالتَّاءِ، ثُمَّ تَبْتَدِئُ حِينَ مَنَاصٍ، وهُوَ قَوْلُ ابْنُ كَيْسَانَ وَالزَّجَّاجُ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ كَيْسَانَ: وَالْقَوْلُ كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ؛ لِأَنَّهُ شَبَهَهَا بِلَيْسَ، فَكَمَا يُقَالُ لَيْسَتْ يُقَالُ: لَاتَ. وَالْوُقُوفُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْكِسَائِيِّ بِالْهَاءِ: وَلَاهٍ. وَهُوَ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ. وَحَكَى عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ أَنَّ الْحُجَّةَ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَيْهَا الْهَاءُ لِتَأْنِيثِ الْكَلِمَةِ، كَمَا يُقَالُ: ثُمَّةْ وَرُبَّة. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَقَدْ يُقَالُ: ثُمَّتْ بِمَعْنَى ثُمَّ، وَرُبَّتْ بِمَعْنَى رُبَّ، فَكَأَنَّهُمْ زَادُوا فِي "لَا" "هَاءً" فَقَالُوا: لَاهْ، كَمَا قَالُوا فِي ثُمَّهْ ثمة عِنْدَ الْوَصْلِ صَارَتْ تَاءً. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: وَ "لَاتَ حِينَ" مَفْتُوحَتَانِ كَأَنَّهُمَا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنَّمَا هِيَ "لَا" زِيدَتْ فِيهَا التَّاءَ نَحْو رُبَّ وَرُبَّتْ، وَثُمَّ وَثُمَّتْ".
لو كان المراد ما ذكر لم يختلف النطق بها؛ يعني لو كان أصلها هاءً، ثم كتبت تاءً، مثل ما يرد في الرسم القرآني: رحمة مثلًا تُكتب بالتاء: رحمت، لكن هل يمكن أن يوقف عليها رحمت، {إِنَّ رَحْمَت اللَّهِ قَرِيبٌ}[الأعراف:56]، تكتب بصورة التاء وتنطق هاءُ، وهنا هل يمكن أن يقال: لاه حين، وإن كتبت بالتاء مثل رحمت؟ لا يمكن، ولو كانت في الأصل هاءً ثم كتبت تاءً لاستمر المنطق بها هاءً مثل رحمة.
"قَالَ أَبُو زُبَيْدٍ الطَّائِيُّ:
طَلَبُوا صُلْحَنَا وَلَاتَ أَوَانِ |
فَأَجَبْنَا أَنْ لَيْسَ حِينَ بَقَاءِ |
وَقَالَ آخَرُ:
تَذَكَّرَ حُبَّ لَيْلَى لَاتَ حِينَا |
وَأَمْسَى الشَّيْبُ قَدْ قَطَعَ الْقَرِينَا |
وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَخْفِضُ بِهَا، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:
فَلَتَعْرِفَنَّ خَلَائِقًا مَشْمُولَةً |
وَلَتَنْدَمَنَّ وَلَاتَ سَاعةِ مَنْدَمِ |
وَكَانَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشُ يَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ " وَلَاتَ حِينَ" التَّاءَ مُنْقَطِعَةٌ مِنْ حِينَ، وَيَقُولُونَ: مَعْنَاهَا وَلَيْسَتْ. وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْمَصَاحِفِ الْجُدُدِ وَالْعُتَّقِ بِقَطْعِ التَّاءِ مِنْ حِينَ. وَإِلَى هَذَا كَانَ يَذْهَبُ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّام: الْوَقْفُ عِنْدِي عَلَى هَذَا الْحَرْفِ "وَلَا"، وَالِابْتِدَاءُ "تَحِينَ مَنَاصٍ" فَتَكُونُ التَّاءُ مَعَ حِينَ".
تحين مضارع حان، حانت تحين، لكن في هذا بعد، وإن زعموا أنهم وجدوه في بعض المصاحف العتيقة حتى قالوا: إنهم وجدوه في بعض نسخ مصحف الإمام، لكن لو كان هذا في مصحف الإمام لما خالفته الفروع، وأجمع المسلمون على خلافه.
"وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "لَاتَ" ثُمَّ يَبْتَدِئُ فَيَقُولُ: "حِينَ مَنَاصٍ". قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ التَّاءَ فِي الْمُصْحَفِ مُتَّصِلَةٌ بِحِينَ، وَهُوَ غَلَطٌ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ. وَمِنْ حُجَّةُ أَبِي عُبَيْدٍ أَنْ قَالَ: إِنَّا لَمْ نَجِدِ الْعَرَبَ تَزِيدُ هَذِهِ التَّاءَ إِلَّا فِي حِينَ وَأَوَانَ وَالْآنَ، وَأَنْشَدَ لِأَبِي وَجْزَةَ السَّعْدِيِّ:
الْعَاطِفُونَ تَحِينَ مَا مِنْ عَاطِفٍ |
وَالْمُطْعِمُونَ زَمَانَ أَيْنَ الْمَطْعَمُ |
وَأَنْشَدَ لِأَبِي زُبَيْدٍ الطَّائِيِّ:
طَلَبُوا صُلْحَنَا وَلَا تَأَوَانِ |
فَأَجَبْنَا أَنْ لَيْسَ حِينَ بَقَاءِ |
فَأَدْخَلَ التَّاءَ فِي " أَوَانِ ". قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَمِنْ إِدْخَالِهِمُ التَّاءَ فِي الْآنِ، حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَذَكَرَ مَنَاقِبَهُ ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ بِهَا تَلَانَ مَعَكَ".
يعني الآن.
"وَكَذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
نَوَلِّي قَبْلَ نَأْيِ دَارِي جُمَانَا |
وَصِلِينَا كَمَا زَعَمْتِ تَلَانَا" |
يعني الآن.
"قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: ثُمَّ مَعَ هَذَا كُلِّهِ إِنِّي تَعَمَّدْتُ النَّظَرَ فِي الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْإِمَامُ - مُصْحَفُ عُثْمَانَ- فَوَجَدْتُ التَّاءَ مُتَّصِلَةً مَعَ "حِينَ" قَدْ كُتِبَتْ " تَحِينَ ".
أما أبو عبيد فالمراد به: القاسم بن سلام الإمام المعروف وهو ثقة حجة فيما ينقل، لكن الذي يشكل على هذا أنه لا يوجد مثل هذا في أي مصحف من المصاحف، قد يكون وقف على نسخة ظن أنها هي مصحف الإمام، وإلا فلا يوجد في أي فرع من الفروع، وكيف تتفق الفروع على مخالفة الإمام الأصل؟ والأصل في الإمام أن يقتدى به كما سماه الصحابة - رضوان الله عليهم-.
"قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: أَمَّا الْبَيْتُ الْأَوَّلُ الَّذِي أَنْشَدَهُ لِأَبِي وَجْزَةَ فَرَوَاهُ الْعُلَمَاءُ بِاللُّغَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ، كُلِّهَا عَلَى خِلَافِ مَا أَنْشَدَهُ، وَفِي أَحَدِهَا تَقْدِيرَانِ، رَوَاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: الْعَاطِفُونَ وَلَاتَ مَا مِنْ عَاطِفٍ
والرواية الثانية: الْعَاطِفُونَ وَلَا تَحين تعَاطِفٍ
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ رَوَاهَا ابْنُ كَيْسَانَ: الْعَاطِفُونَةَ حِينَ مَا مِنْ عَاطِفٍ
جَعَلَهَا هَاءً فِي الْوَقْفِ، وَتَاءً فِي الْإِدْرَاجِ، وَزَعَمَ أَنَّهَا لِبَيَانِ الْحَرَكَةِ، شُبِّهَتْ بِهَاءِ التَّأْنِيثِ. الرِّوَايَةُ الرَّابِعَةُ: الْعَاطِفُونَهُ حِينَ مَا مِنْ عَاطِفٍ
وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَقْدِيرَانِ، أَحَدُهُمَا وَهُوَ مَذْهَبُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ الْهَاءَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، كَمَا تَقُولُ: الضَّارِبُونَ زَيْدًا، فَإِذَا كَنَّيْتَ قُلْتَ: الضَّارِبُوهُ. وَأَجَازَ سِيبَوَيْهِ فِي الشِّعْرِ الضَّارِبُونَهُ. فَجَاءَ إِسْمَاعِيلُ بِالتَّأْنِيثِ".
النون إنما تُحذف للإضافة، النون إنما تُحذف للإضافة، فإذا قطع عن الإضافة ثبتت النون، إذا قلت: الضاربون زيدًا، بخلاف لو قلت: الضاربو زيدٍ، حذفت النون، يقول: فإذا كنيت، يعني بدلًا من الاسم الظاهر جئت بالضمير، بدل ما تقول: الضاربون زيدًا، قلت: الضاربوه، ومعلوم أن ما فيه أل لا يُضاف، ما فيه أل لا يُضاف إلا في صور معروفة؛ أن تكون الإضافة لفظية، كما هنا لفظية، وليست معنوية وليست محضة، الأمر الثاني: أن يقترن المضاف إليه بأل، وهنا المضاف إليه ما فيه أل، ما فيه أل، أو يكون المضاف مضافًا إلى ما فيه أل، وهنا ما فيه مضاف إلى ما فيه أل، إنما قال: الضاربون، أجاز سيبويه في الشعر: الضاربونه، الأصل هنا الضاربوه ما فيه إضافة، فلمَ حذفت النون؟ والنون إنما تحذف للإضافة؛
نونًا تلي الإعراب أو تنوينًا مما تضيف احذف ...
هنا ما فيه إضافة، الهاء تعرب مفعولًا كما يُعرب زيد، الضاربون زيدًا، أجاز سيبويه في الشعر الضاربونه. لعلهم جعلوا الأمر لا يختص بما فيه أل، وإنما إذا كان المضاف إليه معرفة جاز حذف النون، جازت الإضافة ولو كان المضاف فيه أل.
ووصل أل بذا المضاف مغتفر إن وصلت بالثاني .....
إذا كان فيه أل، الثاني، إن وصلت بالثاني
........... كالجعد الشعر
هنا ما فيه أل، اللهم إلا إذا ألحقت الضمير وهو أعرف مما فيه أل بما فيه أل.
"فَجَاءَ إِسْمَاعِيلُ بِالتَّأْنِيثِ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ فِي إِجَازَتِهِ مِثْلَهُ. وَالتَّقْدِيرُ الْآخَرُ: الْعَاطِفُونَهُ عَلَى أَنَّ الْهَاءَ لِبَيَانِ الْحَرَكَةِ، كَمَا تَقُولُ: مَرَّ بِنَا الْمُسْلِمُونَهْ فِي الْوَقْفِ".
هذه هاء السكت يسمونها، هاء السكت؛ {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ}[القارعة:10].
"ثُمَّ أُجْرِيَتْ فِي الْوَصْلِ مَجْرَاهَا فِي الْوَقْفِ، كَمَا قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ}، وَأَمَّا الْبَيْتُ الثَّانِي فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُوقَفُ عَلَيْهِ: "وَلَاتَ أَوَانِ" غَيْرَ أَنَّ فِيهِ شَيْئًا مُشْكِلًا ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَ: "وَلَاتَ أَوَانٍ" بِالْخَفْضِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ مَا بَعْدَ لَاتَ مَرْفُوعًا أَوْ مَنْصُوبًا. وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ عَنْ عِيسَى بْنِ عُمَرَ".
لأنه إما اسمها فيكون مرفوعًا، أو خبرها فيكون منصوبًا، ويقدر حينئذ الخبر في حال الرفع ويقدر الاسم في حال النصب.
"وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ عَنْ عِيسَى بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَرَأَ "وَلَاتِ حِينِ مَنَاصٍ" بِكَسْرِ التَّاءِ مِنْ لَاتَ وَالنُّونِ مِنْ حِينٍ، فَإِنَّ الثَّبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ: "وَلَاتِ حِينَ مَنَاصٍ".
يعني إما الراوي بالثبت، أو يكون هو الثابت عنه في القراءة كذا.
"فَبَنَى "لَاتِ" عَلَى الْكَسْرِ، وَنَصَبَ "حِينَ" فَأَمَّا: وَلَاتَ أَوَانِ فَفِيهِ تَقْدِيرَانِ، قَالَ الْأَخْفَشُ: فِيهِ مُضْمَرٌ، أَيْ: وَلَاتَ حِينَ أَوَانٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْقَوْلُ بَيِّنُ الْخَطَأِ. وَالتَّقْدِيرُ الْآخَرُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: تَقْدِيرُهُ وَلَاتَ أَوَانُنَا، فَحُذَفَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ، فَوَجَبَ أَلَّا يُعْرَبَ، وَكَسَرَهُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَأَنْشَدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: وَلَاتَ أَوَانُ بِالرَّفْعِ. وَأَمَّا الْبَيْتُ الثَّالِثُ فَبَيْتٌ مُوَلَّدٌ لَا يُعْرَفُ قَائِلُهُ، وَلَا تَصِحُّ بِهِ حُجَّةٌ. عَلَى أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ يَزِيدَ رَوَاهُ: كَمَا زَعَمْتَ الْآنَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمَعْنَى كَمَا زَعَمْتِ أَنْتِ الْآنَ. فَأَسْقَطَ الْهَمْزَةَ مِنْ أَنْتَ وَالنُّونَ. وَأَمَّا احْتِجَاجُهُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، لَمَّا ذَكَرَ لِلرَّجُلِ مَنَاقِبَ عُثْمَانَ فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ بِهَا تَلَانَ إِلَى أَصْحَابِكَ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُحَدِّثَ إِنَّمَا يَرْوِي هَذَا عَلَى الْمَعْنَى. وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ مُجَاهِدًا يَرْوِي عَنِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَالَ فِيهِ: اذْهَبْ فَاجْهَدْ جَهْدَكَ. وَرَوَاهُ آخَرُ: اذْهَبْ بِهَا الْآنَ مَعَكَ. وَأَمَّا احْتِجَاجُهُ بِأَنَّهُ وَجَدَهَا".
يعني إن كان اللفظ من ابن عمر فهو من العرب الأقحاح يحتج به، وكذلك لو كان اللفظ ممن دونه من التابعين، قبل أن يفسد اللسان، ويختلط العرب بغيرهم فهو محل احتجاج، ومن أجل هذا يختلف أهل العربية في الاحتجاج بالحديث على قواعدهم النحوية، وما دام أهل الحديث يجيزون الرواية بالمعنى فلا نأمن أن يكون هذا اللفظ قد روي بالمعنى، ليس بلفظ النبي- عليه الصلاة والسلام-، ولا بلفظ الصحابي، ولا بلفظ من يحتج بقولهم.
"وَأَمَّا احْتِجَاجُهُ بِأَنَّهُ وَجَدَهَا فِي الْإِمَامِ "تَحِينُ". فَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِمَامِ أَنَّهُ إِمَامُ الْمَصَاحِفِ، فَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لَهَا فَلَيْسَ بِإِمَامٍ لَهَا، وَفِي الْمَصَاحِفِ كُلِّهَا "وَلَاتَ" فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا إِلَّا هَذَا الِاحْتِجَاجُ لَكَانَ مُقْنِعًا. وَجَمْعُ مَنَاصٍ مَنَاوِصُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} أَنْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَالْمَعْنَى مِنْ أَنْ جَاءَهُمْ. قِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ أَيْ: فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ وَعَجِبُوا، وَقَوْلُهُ: كَمْ أَهْلَكْنَا مُعْتَرِضٌ. وَقِيلَ: لَا، بَلْ هَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ، أَيْ: وَمِنْ جَهْلِهِمْ أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا التَّعَجُّبَ مِنْ أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ. {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِر} أَيْ يَجِيءُ بِالْكَلَامِ الْمُمَوَّهِ الَّذِي يُخْدَعُ بِهِ النَّاسَ، وَقِيلَ: يُفَرِّقُ بِسِحْرِهِ بَيْنَ الْوَالِدِ وَوَلَدِهِ وَالرَّجُلِ وَزَوْجَتِهِ كَذَّابٌ أَيْ فِي دَعْوَى النُّبُوَّةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} مَفْعُولَانِ أَيْ: أصَيَّرَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا، إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ أَيْ عَجِيبٌ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: "عُجَّابٌ" بِالتَّشْدِيدِ. وَالْعُجَّابُ وَالْعُجَابُ وَالْعَجَبُ سَوَاءٌ. وَقَدْ فَرَّقَ الْخَلِيلُ بَيْنَ عَجِيبٍ وَعُجَابٍ فَقَالَ: الْعَجِيبُ الْعَجَبُ، وَالْعُجَابُ الَّذِي قَدْ تَجَاوَزَ حَدَّ الْعَجَبِ، وَالطَّوِيلُ الَّذِي فِيهِ طُولٌ، وَالطِّوَالُ، الَّذِي قَدْ تَجَاوَزَ حَدَّ الطُّولِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْعَجِيبُ الْأَمْرُ الَّذِي يُتَعَجَّبُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْعُجَابُ بِالضَّمِّ، وَالْعُجَّابُ بِالتَّشْدِيدِ أَكْثَرُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْأُعْجُوبَةُ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: "عُجَّابٌ" لُغَةُ أَزْدِ شَنُوءَةَ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ فَجَاءَتْ قُرَيْشٌ إِلَيْهِ، وَجَاءَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَعِنْدَ رَأْسِ أَبِي طَالِبٍ مَجْلِسُ رَجُلٍ".
قبل هذا يقول: الطويل الذي فيه طول، والطوال الذي قد تجاوز حد الطول، عندنا السبع الطول، جمع طول، وقالوا: يقرأ في الفجر من طوال المفصل، جمع طويلة يعني السورة الطويلة.
"وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ فَجَاءَتْ قُرَيْشٌ إِلَيْهِ، وَجَاءَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَعِنْدَ رَأْسِ أَبِي طَالِبٍ مَجْلِسُ رَجُلٍ، فَقَامَ أَبُو جَهْلٍ كَيْ يَمْنَعَه، قَالَ: وَشَكَوْهُ إِلَى أَبِي طَالِبٍ، «فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي مَا تُرِيدُ مِنْ قَوْمِكَ؟ فَقَالَ: يَا عَمِّ، إِنَّمَا أُرِيدَ مِنْهُمْ كَلِمَةً تَذِلُّ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمْ بِهَا الْجِزْيَةَ الْعَجَمُ، فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ: فَقَالُوا أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا، قَالَ: فَنَزَلَ فِيهِمُ الْقُرْآنُ: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} حَتَّى بَلَغَ {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ}» خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا بِمَعْنَاهُ".
ما استجابوا حين قال لهم: قولوا لا إله إلا الله؛ لأنهم يعرفون معنى لا إله إلا الله، يعرفون معنى لا إله إلا الله، ولو كانوا لا يعرفون معناها لقالوها بألسنتهم وأشركوا مع الله غيره، كما يفعل كثير ممن ينتسب للإسلام، تجده يطوف على القبر ويكرر: لا إله إلا الله، يقول أهل العلم: تبًا وبئسًا لمن كان أبو جهل أعرف منه بمعنى لا إله إلا الله، أبو جهل يعرف معنى لا إله إلا الله، فلما طلبت منه رفض، أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا، لأنك تثبت وتنفي، تنفي الألوهية عن جميع ما عدا الله -جل وعلا-، وتثبتها لله سبحانه وتعالى، وتجد فئامًا من المسلمين يطوفون بالقبور والأضرحة ويكررون لا إله إلا الله، مع إتيانهم بما ينافي مقتضاها.
"قَالَ: فَنَزَلَ فِيهِمُ الْقُرْآنُ: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} حَتَّى بَلَغَ {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ}» خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا بِمَعْنَاهُ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقِيلَ: لَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَقَّ عَلَى قُرَيْشٍ إِسْلَامُهُ فَاجْتَمَعُوا إِلَى أَبِي طَالِبٍ وَقَالُوا: «اقْضِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ أَخِيكَ. فَأَرْسَلَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، هَؤُلَاءِ قَوْمُكَ يَسْأَلُونَكَ السَّوَاءَ، فَلَا تَمِلْ كُلَّ الْمَيْلِ عَلَى قَوْمِكَ»".
يعني العدل، يسألونك العدل.
"«قَالَ: وَمَاذَا يَسْأَلُونَنِي؟ قَالُوا: ارْفُضْنَا وَارْفُضْ ذِكْرَ آلِهَتِنَا وَنَدَعَكَ وَإِلَهَكَ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَتُعْطُونَنِي كَلِمَةً وَاحِدَةً وَتَمْلِكُونَ بِهَا الْعَرَبَ، وَتَدِينُ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ؟ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: لِلَّهِ أَبُوكَ لَنُعْطِيَنَّكَهَا وَعَشْرَ أَمْثَالِهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَنَفَرُوا مِنْ ذَلِكَ وَقَامُوا، فَقَالُوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا فَكَيْفَ يَسَعُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ}».
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا} الْمَلَأُ الْأَشْرَافُ، وَالِانْطِلَاقُ الذَّهَابُ بِسُرْعَةٍ، أَيِ: انْطَلَقَ هَؤُلَاءِ الْكَافِرُونَ مِنْ عِنْدِ الرَّسُولِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَنِ امْشُوا أَيِ: امْضُوا عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ وَلَا تَدْخُلُوا فِي دِينِهِ. وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ. وَقِيلَ: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَشْيِهِمْ إِلَى أَبِي طَالِبٍ فِي مَرَضِهِ كَمَا سَبَقَ. وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَشَيْبَةُ وَعُتْبَةُ أَبْنَاءُ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، وَأَبُو مُعَيْطٍ، وَجَاءُوا إِلَى أَبِي طَالِبٍ فَقَالُوا: أَنْتَ سَيِّدُنَا وَأَنْصَفُنَا فِي أَنْفُسِنَا، فَاكْفِنَا أَمْرَ ابْنِ أَخِيكَ وَسُفَهَاءَ مَعَهُ، فَقَدْ تَرَكُوا آلِهَتَنَا وَطَعَنُوا فِي دِينِنَا، فَأَرْسَلَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لَهُ: إِنَّ قَوْمَكَ يَدْعُونَكَ إِلَى السَّوَاءِ وَالنَّصَفَةِ. فَقَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَدْعُوهُمْ إِلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَعَشْرًا. قَالَ: تَقُولُونَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَقَامُوا وَقَالُوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} الْآيَاتِ.
"أَنِ امْشُوا" أَنْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَالْمَعْنَى بِأَنِ امْشُوا وَقِيلَ: أَنْ بِمَعْنَى أَيْ: أَيْ: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَيِ: امْشُوا، وَهَذَا تَفْسِيرُ انْطِلَاقِهِمْ لَا أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا بِهَذَا اللَّفْظِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى انْطَلَقَ الْأَشْرَافُ مِنْهُمْ فَقَالُوا لِلْعَوَامِّ: {امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ}[ص:6] أَيْ: عَلَى عِبَادَةِ آلِهَتِكُمْ".
لأن الانطلاق والمشي بمعنى واحد، الانطلاق والمشي بمعنى واحد، انطلق الملأ منهم أن امشوا فإما أن يقال: إنه ذكر من باب التأكيد والبيان، أو يقال: إن الملأ انطلقوا فقالوا لأتباعهم: امشوا.
يعني اتبعونا الحقونا، الحقوا بنا، {وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ}، امشوا لا يؤثر عليكم بكلامه فتستجيبون لدعوته، كما استجاب غيركم.
"إِنَّ هَذَا أَيْ هَذَا الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-. {لَشَيْءٌ يُرَادُ} أَيْ يُرَادُ بِأَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ زَوَالِ نِعَمِ قَوْمٍ وَغِيَرٍ تَنْزِلُ بِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ كَلِمَةُ تَحْذِيرٍ".
هذا على حسب تقديرهم للأمور؛ لأ الشرك عندهم هو النعمة التي يتنعمون بها، نسأل الله العافية، مع أن نعمة التوحيد لا يعادلها شيء، ولو قدَّم الإنسان مهجته فداءً للتوحيد، لأنهم يقولون: أَيْ يُرَادُ بِأَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ زَوَالِ نِعَمِ قَوْمٍ وَغِيَرٍ تَنْزِلُ بِهِمْ، شيء يراد يعني تغيير في الأرض وتغيير في الخارطة على ما يقولون، لكنه تغيير إلى خير، تغيير إلى نعمة التوحيد التي لا يعدلها شيء. هي النعمة الحقيقية التي يتبعها جميع النعم في الدنيا والآخرة.
"أَيْ: إِنَّمَا يُرِيدُ مُحَمَّدٌ بِمَا يَقُولُ الِانْقِيَادَ لَهُ؛ لِيَعْلُوَ عَلَيْنَا، وَنَكُونَ لَهُ أَتْبَاعًا فَيَتَحَكَّمَ فِينَا بِمَا يُرِيدُ فَاحْذَرُوا أَنْ تُطِيعُوهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ عُمَرَ لَمَّا أَسْلَمَ وَقَوِيَ بِهِ الْإِسْلَامُ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى قُرَيْشٍ فَقَالُوا: إِنَّ إِسْلَامَ عُمَرَ فِي قُوَّةِ الْإِسْلَامِ لَشَيْءٌ يُرَادُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْقُرَظِيُّ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ وَالسُّدِّيُّ: يَعْنُونَ مِلَّةَ عِيسَى النَّصْرَانِيَّةَ، وَهِيَ آخِرُ الْمِلَلِ. وَالنَّصَارَى يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ أَيْضًا: يَعْنُونَ مِلَّةَ قُرَيْشٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا سَمِعْنَا أَنَّ هَذَا يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ. وَقِيلَ: أَيْ: مَا سَمِعْنَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولٌ حَقٌّ. إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ أَيْ كَذِبٌ وَتَخَرُّصٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. يُقَالُ: خَلَقَ وَاخْتَلَقَ أَيِ: ابْتَدَعَ. وَخَلَقَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْخَلْقَ مِنْ هَذَا، أَيِ: ابْتَدَعَهُمْ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ".
تعريف البدعة في الأصل في اللغة: هو الاختراع على غير مثال سابق، هذا الابتداع على غير مثال سابق، وأما البدعة في الشرع: فهي كل عمل يتقرب به إلى الله -جل وعلا- مما لم يسبق له شرعية، لا في الكتاب ولا في السنة.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} هُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، وَالذِّكْرُ هَاهُنَا الْقُرْآنُ. أَنْكَرُوا اخْتِصَاصَهُ بِالْوَحْيِ مِنْ بَيْنِهِمْ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} أَيْ: مِنْ وَحْيِي وَهُوَ الْقُرْآنُ. أَيْ: قَدْ عَلِمُوا أَنَّكَ لَمْ تَزَلْ صَدُوقًا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَإِنَّمَا شَكُّوا فِيمَا أَنْزَلْتُهُ عَلَيْكَ هَلْ هُوَ مِنْ عِنْدِي أَمْ لَا. {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} أَيْ إِنَّمَا اغْتَرُّوا بِطُولِ الْإِمْهَالِ، وَلَوْ ذَاقُوا عَذَابِي عَلَى الشِّرْكِ لَزَالَ عَنْهُمُ الشَّكُّ، وَلَمَا قَالُوا ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا يَنْفَعُ الْإِيمَانُ حِينَئِذٍ. و" لَمَّا " بِمَعْنَى لَمْ، وَمَا زَائِدَةٌ كَقَوْلِهِ: {عَمَّا قَلِيلٍ}، وَ {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ}".
زائدة يفهم الكلام بدونها، وإلا من حيث التأكيد المفهوم من هذا الكلام فلها معنى.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} قِيلَ: أَمْ لَهُمْ هَذَا فَيَمْنَعُوا مُحَمَّدًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - بِهِ عَلَيْهِ مِنَ النُّبُوَّةِ. وَ" أَمْ " قَدْ تَرِدُ بِمَعْنَى التَّقْرِيعِ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ مُتَّصِلًا بِكَلَامٍ قَبْلَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} فَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُرْسِلُ مَنْ يَشَاءُ؛ لِأَنَّ خَزَائِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَهُ. {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا}".
{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}[الأنعام:124].
"أَيْ فَإِنِ ادَّعَوْا ذَلِكَ: {فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ}[ص:10] أَيْ فَلْيَصْعَدُوا إِلَى السَّمَاوَاتِ، وَلْيَمْنَعُوا الْمَلَائِكَةَ مِنْ إِنْزَالِ الْوَحْيِ عَلَى مُحَمَّدٍ. يُقَالُ: رَقِيَ يَرْقَى وَارْتَقَى إِذَا صَعِدَ. وَرَقَى يَرْقى".
رقى يرقي.
"ورقى يرقي رَقْيًا مِثْلَ رَمَى يَرْمِي رَمْيًا مِنَ الرُّقْيَةِ. قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: الْأَسْبَابُ أَرَقُّ مِنَ الشَّعْرِ، وَأَشَدُّ مِنَ الْحَدِيدِ، وَلَكِنْ لَا تُرَى. وَالسَّبَبُ فِي اللُّغَةِ كُلُّ مَا يُوصَلُ بِهِ إِلَى الْمَطْلُوبِ مِنْ حَبْلٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَقِيلَ: الْأَسْبَابُ أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ الَّتِي تَنْزِلُ الْمَلَائِكَةُ مِنْهَا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ. قَالَ زُهَيْرٌ:
وَلَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ
وَقِيلَ: الْأَسْبَابُ السَّمَاوَاتُ نَفْسُهَا، أَيْ: فَلْيَصْعَدُوا سَمَاءً سَمَاءً. وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي الْأَسْبَابِ فِي الْفَضْلِ وَالدِّينِ. وَقِيلَ: أَيْ: فَلْيُعْلُوا فِي أَسْبَابِ الْقُوَّةِ إِنْ ظَنُّوا أَنَّهَا مَانِعَةٌ".
الأصل أنه فليرتقوا في الأسباب المعينة لهم على تحقيق مرادهم من التأكد مما أرادوه، أسباب السموات، كما رام فرعون من وزيره: {ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ}[غافر:36].
"وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ. وَقِيلَ: الْأَسْبَابُ الْحِبَالُ، يَعْنِي إِنْ وَجَدُوا حَبْلًا أَوْ سَبَبًا يَصْعَدُونَ فِيهِ إِلَى السَّمَاءِ فَلْيَرْتَقُوا، وَهَذَا أَمْرُ تَوْبِيخٍ وَتَعْجِيزٍ. ثُمَّ وَعَدَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّصْرَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ} "مَا" صِلَةٌ وَتَقْدِيرُهُ هُمْ جُنْدٌ، فَ "جُنْدٌ" خَبَرُ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ. ومَهْزُومٌ أَيْ: مَقْمُوعٌ ذَلِيلٌ قَدِ انْقَطَعَتْ حُجَّتُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إِلَى أَنْ يَقُولُوا هَذَا لَنَا. وَيُقَالُ: تَهَزَّمَتِ الْقِرْبَةُ إِذَا انْكَسَرَتْ، وَهَزَمْتُ الْجَيْشَ كَسَرْتُهُ. وَالْكَلَامُ مُرْتَبِطٌ بِمَا قَبْلَ، أَيْ: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ وَهُمْ جُنْدٌ مِنَ الْأَحْزَابِ مَهْزُومُونَ فَلَا تَغُمَّكَ عِزَّتُهُمْ وَشِقَاقُهُمْ، فَإِنِّي أَهْزِمُ جَمْعَهُمْ وَأَسْلُبُ عِزَّهُمْ. وَهَذَا تَأْنِيسٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ فَعَلَ بِهِمْ هَذَا فِي يَوْمِ بَدْرٍ. قَالَ قَتَادَةُ: وَعَدَ اللَّهُ أَنَّهُ سَيَهْزِمُهُمْ وَهُمْ بِمَكَّةَ فَجَاءَ تَأْوِيلُهَا يَوْمَ بَدْرٍ".
يعني بعد سنين.
"وَ"هُنَالِكَ" إِشَارَةٌ لِبَدْرٍ وَهُوَ مَوْضِعُ تَحَزُّبِهِمْ لِقِتَالِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَحْزَابِ الَّذِينَ أَتَوُا الْمَدِينَةَ وَتَحَزَّبُوا عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي الأحزاب. وَالْأَحْزَابُ الْجُنْدُ، كَمَا يُقَالُ: جُنْدٌ مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْأَحْزَابِ الْقُرُونَ الْمَاضِيَةَ مِنَ الْكُفَّارِ. أَيْ: هَؤُلَاءِ جُنْدٌ عَلَى طَرِيقَةِ أُولَئِكَ، كَقَوْلِهِ"..
عندكم كقوله؟
طالب: كقوله.
"كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} أَيْ: عَلَى دِينِي وَمَذْهَبِي. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى هُمْ جُنْدٌ مَغْلُوبٌ، أَيْ: مَمْنُوعٌ عَنْ أَنْ يَصْعَدَ إِلَى السَّمَاءِ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: يَعْنِي أَنَّهُمْ جُنْدٌ لِهَذِهِ الْآلِهَةِ مَهْزُومٌ، فَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَدَّعُوا لِشَيْءٍ مِنْ آلِهَتِهِمْ، وَلَا لِأَنْفُسِهِمْ شَيْئًا مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَا مِنْ مُلْكِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ".
اللهم صلِّ على محمد.