في (الجرح والتعديل) لابن أبي حاتم في ترجمة جُبارة بن المغلِّس سأل ابن أبي حاتم أباه عنه فقال: (بين يدي عدل)، وكان الحافظ العراقي -رحمه الله- يظنها من ألفاظ التعديل ويقرؤها: (بين يدِي عدلٌ) بكسر الدال في (يدِي)، ويظنها تعديلًا، أما الحافظ ابن حجر فلم يقتنع بكلام شيخه العراقي، والسبب في ذلك أن أقوال أئمة الجرح والتعديل في جبارة بن المغلِّس كلها تصب في تضعيفه، فكيف يعدِّله أبو حاتم مع ما عُرف من تشدُّده مع أن جبارة مجروح ومضعف تضعيفًا شديدًا؟! فهذا أوجس وقْفةً عند الحافظ ابن حجر فصار يبحث عن معنى هذه التركيبة، يقول في كتاب (المعارف) لابن قتيبة، وفي كتاب (إصلاح المنطق) لابن السكِّيت: (العدل بن جزء بن سعد العشيرة كان على شرطة تُبَّع، وكان معروفًا بشدته وصرامته، وكان تُبَّع إذا غضب على أحد وأراد هلاكه سلمه للعدل هذا، فقال الناس: "بين يدَي عدل")، معنى هذا أن مآله إلى الهلاك، وهذا مفتاح للحافظ ابن حجر أنه إلى الهلاك أقرب، قالوا في الراوي: إنه هالك، يعني شديد الضعف. يقول ابن حجر: ثم وقفتُ على قصة في كتاب (الأغاني) لأبي الفرج الأصبهاني، ذلكم أن أبا عيسى بن الرشيد كان على مأدُبة بحضرة المأمون وكان ممن حضرها أبو الطيب طاهرُ بن الحسين -وهو من الولاة في عهد المأمون، ولَّاه على العراق- فأخذ أبو عيسى هندباة -مثل الكوسة والقرع والباذنجان- من المائدة فرمى بها عين طاهر مازحًا، فقال طاهر للمأمون: "ألا ترى إلى ما صنع أبو عيسى؟ ضرب عيني السليمة والأخرى بين يدي عدل" وكان أعور، يعني أنه ضرب العين المبصرة والأخرى بين يدي عدل أي: تالفة، فقال المأمون: "والله إنه ليفعل معي أكثر من هذا".
المقصود أن القصة تدل على أن هذه الجملة جرح شديد، وبهذا نعرف أهمية سعة الاطلاع بالنسبة لطالب العلم، فابن حجر لسعة اطلاعه وقف على حقيقة الحال بكتب قد لا تدور في بال طالب العلم؛ لأنها غير مظنَّة لهذا الأمر، لكن ابن حجر عنده من سعة الاطلاع ما جعله يستذكر ما جاء في كتاب (إصلاح المنطق) لابن السكيت، و(المعارف) لابن قتيبة، وما جاء أيضا في كتاب (الأغاني) لأبي الفرج على ما في هذا الكتاب، ففيه مجون، وفيه كذب وافتراء محض، وفيه أشياء أخرى، ومثل هذا يُتَّقى ولا يُترك المجال لآحاد طلاب العلم أن يطلعوا على مثل هذا الكتاب في بدايات الطلب أو وسطه، إنما يَطَّلع عليه أهل العلم الذين تحصنوا بالعلم ورسخوا فيه واحتاجوا إلى شيء من المتعة والاستمتاع والاستجمام بالقراءة، وأيضًا هناك بعض القصص مثل هذه القصة تفتح آفاقًا للعالم وتنير له الدرب في مثل هذه الحكاية، المقصود أنه يستجم بهذه الكتب ويستفاد منها مثل هذه الفائدة، لكن لا يُسترسل معها بحيث تأخذ وقتًا طويلًا يكون على حساب متين العلم، وعلى حساب الكتاب والسنة، أو ما يخدم الكتاب والسنة.