ذم طول الأمل، هل فيه مُخالفة مع النَّهي عن تمنِّي الموت؟ طول الأمل يعني النَّهي عن تمنِّي الموت، تمنِّي الموت تعجيل الموت، وطُول الأمل المَنْهِي عنهُ تأخير الموت، يعني دعاء الإنسان لنفسِهِ بطول العُمر يُقابل الدُّعاء بالموت وتمنِّي الموت؟ هل معنى مفهوم الحديث: ((لا يتمنين أحدكم الموت لضُرٍّ نزل به)) أنْ يدعو بطول العُمر؟ أو يترك الأمر لله -جلَّ وعلا-، ويعمل ما أُمِر به، ولذا جاء النَّهي وذم طُول الأمل ((يشبُّ ابن آدم ويشبُّ منهُ خصلتان حب الدُّنيا وطُول الأمل))؛ بل جاء ما يدُلُّ على تقصير الأمل، فرقٌ بين أنْ يَسعى في تقصير عُمُرِهِ وبينَ أنْ يَعْمَل على مُقتضى قِصَر العُمر، وما يقتضيه قِصَر العُمر، ما يقتضيه قِصَر العُمر اغتنامُ الوقت، وما يقتضيه طُول الأمل التَّفريط في الأوقات، فنظراً لما يقتضيه الأمران استُحِبَّ هذا، وذُمَّ هذا، ولذا جاء في الحديث الصَّحيح: ((كُن في الدُّنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) وجاء ذم طُول الأمل: ((حُبُّ الدُّنيا وطُول الأمل))؛ لأنَّ تصوُّر الإنسان أنَّهُ غريب يَحْدُوهُ هذا إلى مُضاعفةِ جَهْدِهِ، يَجْتَهِد في أنْ يَكْسِب الحَسَنات، يبتعد عن السَّيِّئات، يحرص على أنْ يَمْلَأْ هذهِ الخزائن بما يَسُرُّهُ غداً يوم القيامة، هذا ما يَقْتَضِيهِ تقصير الأمل: ((كُن في الدُّنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) ولذا قال ابن عمر راوي الحديث: "إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح"، وكُلٌّ لهُ أَثَرُهُ في واقع المُسلم، فالذِّي ينظُر إلى هذهِ الدُّنيا وأنَّها قصيرة، وأنَّهُ قد تَخْتَرِمُهُ المَنِيَّة اليوم أو غداً أو السَّاعة أو التِّي تَلِيها، لا شكَّ أنَّهُ يَغْتَنِمُ أنْفَاسَهُ، بِخِلَاف من يَمُدُّ في آمَالِهِ، نعم، الشَّخص الذِّي يَدْخُل السِّلك الوظيفي، وأمامَهُ من فُسْحَة العمل أربعين سنة ويُخَطِّط ماذا يَصْنَعْ بعد التَّقاعُد! يعني بعد السِّتِّين ماذا يصنع! يعني هذا عندهُ قِصْر الأمل ولاَّ طُول أمل؟ طُول أمل، يعني واقع النَّاس حتَّى صَرَّحَ بِهِ بَعْضُهُم، أنَّهُ دَعْهُ يَتَنَعَّم في هذهِ الدُّنيا، فإذا وَصِل إلى السِّتِّين والسَّبعين الْتَفَتْ؛ لكن ما الذِّي يَضْمَنْ لهُ أنَّهُ يَعِيشْ إلى السِّتِّينْ والسَّبعين؟! ((وقد أعْذَرَ اللهُ لامرئ بلَّغَهُ السِّتِّينْ)) والنَّاظم رحمهُ الله ابن عبد القوي يقول:
ومن سار نحو الدَّار سِتِّين حجة
|
|
فقد حانَ منهُ الملتقى وكأن قدِ |
يعني وصل خلاص، بَلَّغَهُ السِّتِّينْ وش ينتظر بعد؟ ومن القصص الواقعيَّة أنَّ شخصاً بلغ السِّتِّين ولم يتزوج ولا يُصلِّي ذهب إليهِ قريب لهُ؛ لينصحه ويحثُّهُ على الصَّلاة، وسائر الطَّاعات وأنْ يتزوَّج، عَلَّهُ أنْ يُولَدْ لهُ ولد يذكُرُهُ إذا مات ويَدْعُو لهُ، وكان هذا الكلام في يوم الجُمعة، قال لهُ ذلك: يا فُلان ألَا تتزوَّج وتُنْجِب ولد يدعُو لك بعد موتك ويستمر عملك وتلتفت إلى ربِّك وتُصلِّي، وتُزَكِّي، عندهُ أموال وعنده ضياع؛ لكنَّهُ محرُوم نسأل الله السَّلامة والعافية، قال لهُ: أنا الآن عُمري ستِّين، تدري كم عُمر والدي يوم يموت تدري كم عُمرُهُ؟ قال مائة وعشرين، قال وعمِّي مائة وخمسة عشر، قال وخالي مائة وثلاثين، أنا من قومٍ أعمارُهُم طويلة، فقلتُ له: يا أخي لا علاقة لك بأبيكَ ولا عمِّك، هذهِ منايا، أنت تشوف الآن الحوادث حَصَادُها في الشَّباب أكثر من حصادِها في الشُّيُوخ، قال: ولو! فَأَيِسَ منهُ فرجع إلى بَلَدِهِ، وبَلَغَهُ خبر وفاتِهِ في الجُمعة التِّي تَلِيها! يا إخوان هذا الحاصل، في الجُمعة التِّي تَلِيها بَلَغَهُ خبر وفاتِهِ، فَعَلى الإنْسَانْ أنْ يَغْتَنِم هذهِ الأنْفَاسْ، ويَغْتَنِم هذهِ اللَّيَالي والَّأيَّام وأنْ تكون زَاداً لهُ ومركبة تُوصِلُهُ إلى ساحِل النَّجاة، فالدُّنيا تَمُوجُ بالفتن، ويُخْشَى على المُسْلِمْ أنْ يُفْتَن في دِينِهِ، وأنتُم تَرَوْن الآن حتَّى من يَنْتَسِب إلى العِلْم تَرَوْن واقِعَهُم، وفَتَاوَاهُم وبعض ما يَنْطِقُونَ به ويَتَفَوَّهُونَ بِهِ، وما يُكْتَبْ نسأل الله السَّلامة والعافية، فالقُلُوب بينَ أُصْبُعين من أصابع الرَّحمن، والذِّي يَضْمَنْ بإذنِ الله -جلَّ وعلا- حُسْن العاقِبَة الحِرْصْ على العمل بإخلاص، فمن عَمِلَ لغيرِ الله مُكِرَ بِهِ فَعَلى الإنسانِ أنْ يَعْمَل، وأنْ يكون عَمَلُهُ خالِصاً لِوَجْهِ الله.