فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
كتاب القدر:
هذا الكتاب المضاف إلى القدر لا شك أنه من أهم الأبواب؛ لأهمية ما يذكر فيه، وأهمية ما يذكر فيه باعتبار أنه من أغمض الأبواب وأخفاها، بل هو سر الله في خلقه، وهو مزلة الأقدام، ومضلة الأفهام، زلت الأقدام من قبل طوائف من المسلمين، وأقدموا على نفي القدر، نفوه بالكلية، وقالوا: إن الله -جل وعلا- لا يعلم الأشياء قبل وجودها، وأن لا قدر، وأن الأمر أنف، يعني مستأنف، ويقابلهم طائفة غلوا في إثبات القدر، فجعلوا العبد مسلوب الحرية والإرادة، والأولون جعلوه حراً مختاراً، اختياراً كاملاً مستقلاً، يستقل بفعل نفسه، يقابلهم الجبرية الذين قالوا: لا يتصرف في شيء من نفسه، وهو مجبور على جميع أفعاله وحركاته، إنما هي كحركات ورق الشجر في مهب الريح.
القدرية الغلاة في النفي هم مجوس هذه الأمة، ووجودهم قديم، من أقدم أهل الأهواء والبدع، وجدوا في عصر الصحابة، وجاء إلى ابن عمر كما في صحيح مسلم من يقول له: إن بناحيتنا قوم وصفهم بالحرص على العلم، وأنهم يتقفرونه -يطلبونه في البراري والقفار- حرصاً عليه، وأنهم يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف، فقال ابن عمر: أخبرهم أنني منهم براء، وهم مني بُرَاء حتى يؤمنوا بالقدر؛ لأن الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، ثم جاء أورد الحديث الذي فيه سؤال جبريل عن الإيمان، وذكر فيه أركان الإيمان ((وأن تؤمن بالقدر خيره وشره، حلوه ومره)) القدرية النفاة كان أوائلهم ينكرون العلم، وهذا كفر محض -نسأل الله السلامة والعافية- والذي ينكر العلم بعد ذلك قليل، إنما ينكرون المراتب الأخرى، مراتب القدر الأربع هي:
العلم، هاه؟ الكتابة، المشيئة، الخلق، والتقدير، هذه مراتب القدر الأربع، القدرية الذين يبالغون ويغلون في النفي -نفي القدر- منهم المعتزلة، وفئات من الشيعة الإمامية وبعض الزيدية، وكثير من الطوائف زلوا زلة أقدامهم في نفي القدر، وجعلوا العبد يخلق فعله، فراراً من وصف الرب -جل وعلا- بالظلم؛ لأنه لو أجبرهم..؛ لأنهم ما فهموا إلا أن المسألة لا تخلو من حالين: الحال الأولى: المبالغة والغلو في النفي، كما توصلوا إليه، أو الغلو والمبالغة بالإثبات، ولم يوفقوا كما وفق أهل السنة والجماعة وأئمة الإسلام وسلف هذه الأمة، فتوسطوا بين الطائفتين، قالوا: إذا أثبتنا القدر معناه أن الله -جل وعلا- ظالم للعباد حينما يكتب عليهم ويقدر عليهم الكفر والشرك والمعاصي والجرائم، ثم يعذبهم عليها، والجبرية الذين هم في مقابلهم يقولون: المالك له أن يتصرف في ملكه كيفما شاء، يقدر عليه الكفر ويعذبه على ذلك.
ألقاه في اليم مكتوفاً ثم قال له:
|
|
إياك إياك أن تبتل بالماءِ |
هذا رأي الجبرية، ووفق الله أهل السنة والجماعة فأثبتوا القدر على ما جاء في النصوص، وأثبتوا التكليف، وأثبتوا أن للعبد حرية وإرادة يختار، له أن يختار أحد الطريقين، أحد النجدين، لكنها حرية مقيدة، وإرادة مقيدة بإرادة الله -جل وعلا- ومشيئته، لا يستقل بفعل نفسه فيكون القول كقول القدرية النفاة، مجوس هذه الأمة، الذين أثبتوا مع الله -جل وعلا- خالقاً، ولا يقولون كما يقول الجبرية الذين خالفوا المعقول والمنقول، فيرون أن حركة الإنسان كحركة ورق الشجر، كيف؟ في أحد يمنع الإنسان أن يقوم إلى الصلاة؟ أليس حراً مختاراً أن يقوم ويذهب إلى المسجد؟ قالوا: لا، هو مجبور على القيام، لا يستطيع أن يجلس، والذي لا يصلي هو مجبور على القعود، تعالى الله -جل وعلا- أن يكون في أفعاله مثل هذا، ثم يعذب من جبره على القعود بحيث لم يترك له أدنى حرية يفعل بها ما طلب منه.