ذكر الله في سورة البروجِ حادثة أصحاب الأخدود في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} أي: ابتلوهم وامتحنوهم واختبروهم في دينهم، {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج: 10]، والقصة جاءت في الصحيح، وهي في قومٍ كفارٍ خدّوا الأخاديد، وجمعوا الحطب الكثير، وأوقدوا النيران العظيمة، وفتنوا الناس في إيمانهم، فمن رجع عن دينه تركوه، ومن أصرَّ على ذلك ألقوه في النار، وهذه أعظم فتنة؛ لأنها فتنة في الدين، وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أصحاب الأخدود: «حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أمه اصبري فإنك على الحق» [مسلم (3005)]، وهذا الصبي أحد الذين تكلَّموا في المهد، وهو مما جاءت النصوص زيادة على ما في قوله صلى الله عليه وسلم: «لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ» [البخاري (3436)، ومسلم (2550)]، فهذه المرأة المؤمنة إن خسرت الدنيا فقد فازت؛ لأنها زُحْزِحَتْ عن نار الآخرة، وإن اقتحمت نار الدنيا، فإنَّ المرء لو عُمِّرَ ما عُمِّرَ فمآله إلى الموت، ثم بعد ذلك يجازى بعمله: إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ.
هذه المؤمنة إلقاؤها في نار الدنيا فتنة، ولكن فتنتها في دينها وصرفُها عنه أعظم من قتلها، ولذا يقول الله -جل وعلا-: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191].