كل يعرف نفسه، فأول ما يبدأ به الإنسان التوصيف الدقيق لنفسه، وقدرته على الحفظ والاستيعاب والفهم لما يُقرأ، ومع ذلك عليه أن يعنى بالحفظ، فلا علم إلا بالحفظ، ويُمثل الحافظ وغير الحافظ، الحافظ بمن زاده التمر، التمر إذا كان معك كيس فيه تمر، وأنت مسافر تأكل منه على أي حال، تمد يدك وتأخذ وتأكل منه وأنت في طريقك ماشي، لا يعوقك هذا، لكن إذا كان زادك البر وأنت مسافر تحتاج إلى أن تنـزل وتحتاج إلى أن تطحن هذا البر ليكون دقيقاً، ثم بعد ذلك تعجنه بالماء، ثم بعد ذلك تقطعه وتطبخه، يأخذ منك وقت طويل، وهذا التمر نظير من يحفظ، ما يحتاج إلى الجهد ولا يحتاج إلى عناء.
أما من علمه في الكتب فمثل هذا يحتاج إلى معاناة، فإن أبعد عن كتبه تعطل، وإذا كان بين كتبه يحتاج إلى مراجعة، يحتاج في كل مسألة إلى أن يراجع، وإن كان أهل العلم يقولون: بالنسبة للفقيه، إما أن يكون بالفعل، أو بالقوة القريبة من الفعل.
فالفقيه بالفعل: هو الذي يحفظ المسائل بأدلتها ويستحضرها، فإذا سئل أجاب، عن الحكم بدليل أن هذا فقيه بالفعل.
لكن الذي لا يستطيع استحضار المسائل لكنه يصل إلى هذه المسائل بأقصر مدة يذهب إلى الكتب يفتح الكتاب مباشرة يقف على المسألة ينظر فيها من مضانها ويصدر عن قول راجح، هذا فقيه لكن بالقوة القريبة من الفعل، وليس بالفعل.
وهناك ثالث لا يوجد عنده فقه لا بالفعل ولا بالقوة، تسأله عن مسألة في الطهارة يمسك لك الكتاب يفتح أواخره هذا فقيه بالقوة أو بالفعل؟ لا هذا ولا هذا، تسأله عن مسألة في الجنايات يفتح لك أول الكتاب، هذا ليس بفقيه أصلاً، وبعض الناس تسأله عن مسألة يفتح لك الكتاب ويفتح صفحة قبل أو صفحة بعد ورقة قبل أو ورقة بعد لا أكثر ولا أقل، هذا فقيه بالقوة القريبة من الفعل.
لكن يبقى أن الفقيه بالفعل الذي تحضره المسائل في ذهنه هذا هو الفقيه الحقيقي، الفقيه بالقوة يعني ما حكموا على الإمام مالك أنه ليس بفقيه لما سئل عن مسائل كثيرة وقال: لا أدري؛ لأن بإمكانه أن يصل إلى الحكم في أقرب مدة، كثير من الطلاب فقهه بهذه الطريقة، لكن يبقى أنه إذا زادك حاضر ما هو مثل إذا كان غائب، فالتمر لا يحتاج إلى عناء، مثل الحفظ، والقوة القريبة من الفعل مثل البر تحتاج إلى معاناة تحتاج إلى طبخ تحتاج إلى غير ذلك، فعلينا أن نعنى بالحفظ، ومع الحفظ يكون الفهم.
وطلاب العلم يحتارون كثيراً في تقديم هذا أو هذا، ولكنه لا بد منهما معاً، وفي أول العمر في الصبا يحرص طالب العلم على كثرة المحفوظ؛ لأن الذي يحفظ في حال الصبا يستقر ولا ينسى، ثم بعد ذلك إذا تقدمت به السن يكون حرصه على الفهم، فإذا حفظ ثم فهم توفرت له الآلة التي يستطيع بها إدراك العلم، فعليه أن يسدد ويقارب.