حديث «الأعمال بالنيات» -حديث عمر الشهير- مُخَرَّج في (صحيح الإمام البخاري) في سبعة مواضع، الموضع الأول منها: في بدء الوحي، وبه افتتح الإمام البخاري كتابه، حتى قال الشراح: إنه جعل الحديث كالخطبة والافتتاحية للكتاب، والبخاري -رحمه الله- لما ساق الحديث في هذا الموضع، اقتصر على الجملة الثانية والشّق الثاني: «فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» [البخاري: 1]، ولم يقل: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله» [البخاري: 54]، مع أنه أثبتها في مواضع أخرى، لكنه في هذا الموضع الأول لم يثبتها، مما يُرجح أن الحذف منه، وقالوا: إن السبب في هذا الحذف، أن قوله: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله» قد يُفهم منه: أن قصده ونيته خالصة لله -جل وعلا-، كأنه يُزكي عمله بهذا، ويقول: "عملي خالص لله -جل وعلا-، كمن كانت هجرته لله ورسوله"، وهذا ملحظ دقيق بعيد جدًّا، فحذفها من هذا الموضع؛ لئلا يُظن به بأنه يُزكي عمله، وأثبتَها في المواضع الأخرى.
والمرجَّح كما قرر الشراح أن الحذف منه؛ لأنها ثابتة في مواضع أُخر، وهي ثابتة عند الحُميدي الذي من طريقه روى البخاري هذا الحديث؛ فتعيَّن أن الحذف منه.
يبقى أن الحذف من الحديث ما حكمه؟
الإمام البخاري جرت عادته - رحمه الله – أنه يُقطِّعُ الأحاديث، ويقتصر على الجمل التي يحتاج إليها، فقد يورد حديثًا واحدًا في عشرين موضعًا، ويستنبط في كل موضع من الحديث ما يناسبه من الأحكام والآداب، وإذا كرره في المواضع كلها بكامله فإنه يَطول بذلك الكتاب، ولا يُعرف عن الإمام البخاري -رحمة الله عليه– في كتابه بطوله وكثرة تكراره -سبعة آلاف وأكثر من خمسمائة حديث ما يصفو منها بدون تكرار إلا ألفان وخمسمائة وحديثان- ومع هذا التكرار كلِّه لا يُعرف أن الإمام البخاري كرر حديثًا بسنده ومتنه في موضعين إلا نحو عشرين حديثًا، من هذا الكم الكبير من الأحاديث، فهو لا يكرر إلا بفائدة زائدة.
فطريقته أنه يأتي إلى الحديث الواحد فيقطِّعه، ويجعل في كل باب أو كتاب ما يناسبه من هذا الحديث، وهذا عند جمهور أهل العلم سائغ وجائز، شريطة ألَّا يكون المذكور من الحديث يتوقف فهمه على المحذوف، يعني: لا يمكن فهمه إلا بالمحذوف، فلا يجوز حينئذٍ حذف شيء منه.
أما إذا كان الحديث جُمَلًا، كل جملة تستقل بحكم، وتستقل بمعنى، فلا مانع حينئذ، كما هو الشأن في الآية الواحدة، إذا كانت مركبة من جُمَل لا يتعلق بعضها ببعض، ولا يترتب فهم بعضها على بعض، فإنه حينئذٍ يجوز الاقتصار على موضع الشاهد منها، كما في قوله -جل وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} [النساء: ٥٨]، هل يلزم مَن أراد أن يتحدث عن الأمانة أن يقول: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} أو يقتصر على قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}؟!
ومَن يتحدث عن العدل، هل يلزمه أن يأتي بأول الآية وآخرها؟!
يأتي بموضع الشاهد منها، وهذا أمر مقرر عند أهل العلم، ولا إشكال فيه، بالشرط المعروف عندهم، وهو أنه لا يحذف شيئًا يترتب ويتوقف عليه فهم الحديث.