جاء الترغيب في الحفظ للقرآن، والفرق بين الجوف المشتمل على حفظ القرآن والجوف الذي ليس فيه شيء من القرآن كالفرق بين البيت الخرب والبيت العامر، والذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب، والذي يحفظ القرآن يتلوه على كل حال إلا في حال الجنابة، وأما الذي لا يحفظ فيحتاج إلى أن يتهيأ لذلك بالطهارة وأيضًا المكان المناسب، والحال المناسبة، ووجود المصحف أيضًا؛ لأنه قد يحتاج إلى القراءة وليس لديه مصحف، المقصود أن الحفظ يعينه على كثرة القراءة وييسر له ذلك، وقد شبَّه أهل العلم الحافظ بمن زاده التمر وغير الحافظ بمن زاده القمح، فمن زاده التمر يأكل منه بدون تعب ولا عناء في أي وقت أراد، والذي زاده القمح يحتاج إلى عناء ويحتاج إلى مقدمات من تنقيةٍ وطحنٍ وعجنٍ وطبخٍ... إلى غير ذلك، فلا شك أن حفظ القرآن ييسر له هذه العبادة التي هي تلاوة القرآن في كل وقت، فينبغي للمسلم أن يحرص على الحفظ.
وبعض الناس -مثل ما جاء في هذا السؤال- يقول إنه: يستغل وقت الحفظ في قراءة القرآن؛ ليقرأ قدرًا أكبر. لا شك أن الحفظ يحتاج إلى تكرار وترديد، فإذا فرضنا أنه يريد أن يقرأ في ساعةٍ أربعةَ أجزاء قراءةً، أو يحفظ ورقةً واحدةً في هذه الساعة، لا شك أنه سوف يكرر هذه الورقة بقدر ما قرأه نظرًا، فيتقارب الأجر من حيث القراءة، ويتوفر له الحفظ الذي يعينه مستقبلًا على كثرة التلاوة، وقراءة القرآن على كل حال، فهذه المفاضلة التي ذكرها لا شك أنها ليست واردة.
المفاضلة التي ترد في كلام أهل العلم هي بين من يريد أن يقرأ بالتدبر والترتيل بقدر أقل وبين من يريد أن يقرأ مع السرعة بمقدار أكثر، كمن يقول: أريد أن أقرأ في الساعة جزئين مع الترتيل أو أقرأ خمسة أجزاء هذًّا من غير ترتيل، هذا الذي يتكلم فيه أهل العلم، أما المفاضلة بين الحفظ والقراءة نظرًا فهذه ما يتطرق لها أهل العلم؛ لأن ما يوفِّره من الوقت لكثرة القراءة في النظر سوف يوفِّره، بل يوفِّر أكثر منه إذا حفظ، مع أنه يقال له في الجنة: «اقرأ، وارتق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها» [أبو داود: 1464]، وجمع من أهل العلم يرون أن هذا للحافظ، وفضل الله واسع، فالقول الثاني لا يُهدر، فقد يشمل هذا الفضل غير الحافظ.
يبقى أن المفاضلة بين الحفظ وبين مجرد القراءة بالصيغة المذكورة في السؤال لا يتحدث عنها أهل العلم، ولا يوردون مثل هذه المفاضلة، بل الحفظ أفضل ولا مقارنة بينهما، وأما الصورة التي يتحدث عنها أهل العلم فيما ذكرناه من أن شخصًا يريد أن يقرأ جزئين أو جزءًا واحدًا بالترتيل والتدبر مع آخر -أو هو نفسه- يريد أن يقرأ خمسة أجزاء في ساعة، فالجمهور على أن قراءة جزء بالتدبر والترتيل أفضل من قراءة الخمسة بالهذِّ من غير تدبر ولا ترتيل؛ لأن القراءة بالتدبر والترتيل على الوجه المأمور به لا شك أنها أنفع للقلب، وتزيد القلب من العلم والإيمان والطمأنينة واليقين ما لا يُدركه من قرأ على خلاف ذلك.
فتدبر القرآنَ إن رمتَ الهدى |
| فالعلمُ تحت تدبر القرآنِ |
وابن القيم أيضًا تعرَّض لهذه المسألة في (زاد المعاد) وضرب لذلك مثالًا قال: كمن أهدى درَّة نفيسة، يعني من ختم مرة واحدة كمن أهدى درة نفيسة قيمتها عشرة آلاف، والثاني الذي يقرأ بالهذِّ وختم عشر مرات بدلًا من أن يختم مرة واحدة كمن أهدى عشر دُرر قيمتها أقل -مائة مثلًا-، فالعَشر لا تُعادل عُشر القراءة الواحدة بالتدبر والترتيل، والمفاضلة والموازنة بمقدار الحسنات في مثل هذه الأمور إلى الله- جل وعلا-، لكن جمهور أهل العلم يفضلون التدبر والترتيل، والانتفاع بالقرآن بهذه الطريقة أكثر ولا شك.
نعم جاء عن السلف استغلال الأوقات الفاضلة، فجاء عن عثمان أنه يختم في ليلة، وجاء في غيره ما جاء، وكان الشافعي يختم مرتين، وجمع من أهل العلم على هذا استغلالًا للأوقات الفاضلة مثل رمضان، وهذا مستثنى من قوله -عليه الصلاة والسلام-: «اقرأه في سبعٍ ولا تزد على ذلك» [البخاري: 5054] و«لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث» [أبو داود: 1394] مع أنه جاء في الصحيح ما يدل على القراءة في ثلاث [البخاري: 1978]، ولا شك أن أحوال الناس وظروفهم وفراغ بعضهم وانشغال بعضهم، أو الفراغ في وقت والانشغال في وقت قد لا يُعطي هذا قاعدة مطَّردة للجميع. ذكر ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) عن سليم بن عتر التجيبي أنه كان يختم في الليلة ثلاث مرات، وذكر ابن كثير والنووي عن ابن الكاتب الصوفي أنه كان يختم أربعًا في الليل وأربعًا في النهار، لكن في ثبوت مثل هذا نظر؛ لأن الوقت لا يستوعب، مع أن النووي وابن كثير أثبتا ما ذُكر عن ابن الكاتب أنه يختم أربعًا بالليل وأربعًا بالنهار فيما نقله عنه أبو عبد الرحمن السلمي، وليس المتقدِّم التابعي الجليل، إنما هو صاحب طبقات الصوفية.
وبالنسبة لأقل وقت يتصور الختم فيه فالمجرب أن في الساعة خمسة أجزاء، فتكون الختمة في ست ساعات، والناس يتفاوتون منهم من لا يفقه شيئًا إذا قرأ بهذه الطريقة السريعة، ورأينا من يقرأ بهذه الطريقة ودموعه على لحيته وثيابه -والله المستعان-، وذُكر هذا عن بعض السلف أنه يقرأ بالهذِّ والسرعة وحِجْره مملوء من الدموع، وذكر في (تهذيب الكمال) وفروعه (تهذيب التهذيب) وغيره عن منصور بن زاذان أنه يريد أن يترسَّل ويريد أن يتدبر فلا يستطيع إلا السرعة؛ لأن المسألة تعود، فعلى الإنسان أن يعوَّد نفسه على التدبر والترتيل، وإن جعل القراءة على قسمين: قسم في وقت من الأوقات مثل آخر الليل يكون للتدبر وترتيل وترديد كلام الله -جل وعلا- والاعتبار والادِّكار به، وقسم في أوقات النهار وما أشبه ذلك يجعله لقراءة كثرة الحروف وللأجور المرتبة عليها، فهذا فعله بعضهم.