أما بالنسبة لجدة، وهل أهلها من حاضري المسجد الحرام أو لا، فمبني على الخلاف في المراد بحاضري المسجد الحرام، فالذين يقولون: إنهم مَن دون مسافة القصر، فجدة الآن بالنسبة لمكة دون مسافة القصر؛ لأن البنيان تقارب، وكانت مسافة قصر، وبها مَثَّل ابنُ عباس –رضي الله عنهما- لمسافة القصر، في (الموطأ) قال: "بين مكة وجدة، ومكة والطائف، ومكة وعُسْفان" [1/148]، فكانت مسافة قصر، لكن لما تقارب البنيان وتلاشت المسافة وقصرت لم تعد مسافة قصر؛ ولذا لا يقصر أهل جدة ولا يجمعون ولا يترخصون إذا سافروا إلى مكة، والعكس؛ لأنها دون المسافة التي يشترطها أهل العلم، فمَن يقول: إن حاضري المسجد الحرام مَن هم دون مسافة القصر، يقول: إنهم من حاضري المسجد الحرام ولا يلزمهم حينئذٍ وداع، والذي يخص حاضري المسجد الحرام بأهل مكة يُلزمهم بطواف الوداع كغيرهم.
والتساؤل المذكور: (ثم اختلفت أنظارهم في ذلك، فمِن قائل: لأنهم من حاضري المسجد الحرام)، كونهم من حاضري المسجد الحرام، على القول بأن حاضري المسجد الحرام من دون مسافة القصر هذا صحيح، لكن على القول بأنهم أهل مكة، وهذا هو المُرجَّح، إذن يلزم أهل جدة طواف وداع.
يقول: (ومن قائل لوجود الزحام والمشقة عليهم)، الزحام والمشقة كما هي عليهم هي على غيرهم أيضًا، فإذا كانت مبررًا لترك طواف الوداع بالنسبة لهم فهي أيضًا مبرر لغيرهم.
يقول: (فلهم أن ينزلوا إلى جدة، ثم بعد ذلك يرجعوا ويطوفوا)، إذا قلنا: إنهم ليسوا من حاضري المسجد الحرام وأنهم يلزمهم طواف الوداع قبل أن ينفروا إلى بلدهم، فإنه لا يجوز لهم أن ينزلوا إلى جدة ثم يعودوا؛ لأنه انتهى وقته، نفروا ولم يجعلوا آخر عهدهم بالبيت كغيرهم، فالتفصيل -مثلما ذكرنا- على الخلاف في المراد بحاضري المسجد الحرام، فإن كانوا مَن دون مسافة القصر، فهم من حاضري المسجد الحرام على هذا الاعتبار، والذي يقول: إن حاضري المسجد الحرام هم أهل مكة، وأهل جدة أناس مستقلون بمسمى بلدهم غير مكة، فليسوا من حاضري المسجد الحرام، وحينئذٍ يلزمهم طواف الوداع ولا يجوز لهم أن يرجعوا إلى بلدهم قبل الوداع، ومن فعل ذلك فقد ترك طواف الوداع، ولو رجع إليه وأتى به فإنه لا يكفيه، وبالتالي يلزمهم كغيرهم دم.