أولًا: ثبت عن عثمان -رضي الله عنه- أنه يقرأ القرآن في ركعة، أي: في ليلة، وقراءة القرآن على أقل تقدير لها ست ساعات بالتجربة، ورأينا من يبكي وهو يقرأ بهذه السرعة، فالمسألة مسألة مران، لكن أقل من هذا مستحيل، فلا يأتنا مَن يقول: إنه يقرأ القرآن في ساعة، أو في لحظة، كما يُدَّعى الآن وسابقًا، فمثل هذا الكلام مأثور من قديم، ولا يمكن أنه يخطر على بال إنسان أن يقرأ القرآن في لحظة، ولا مجرد فتح صفحات، والقسطلاني في (شرح البخاري) ذكر عن شيخ من الشيوخ وأثنى عليه أنه قرأ القرآن في أسبوع، فإذا فهمنا أنه قرأ القرآن في أسبوع أي: في سبعة أيام، قلنا: طيِّب هذا أمر الرسول -عليه الصلاة والسلام- لعبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-، قال: (وقيل: في شوط)! فعرفنا أن مراده بـ(الأسبوع): سبعة أشواط، فهل يمكن هذا؟ مستحيل، ومن باب أولى (وقيل: في شوط)، هذا مستحيل، وهو عبث بكلام الله -جل وعلا-، مع أنه لا يمكن تصوُّره، ولا يدخل في عقل، ومحاولة مثل هذا الأمر عبث. وجاء الأمر لعبد الله بن عمرو: «اقرأ القرآن في سبع ولا تزد» [البخاري: 5054]؛ لأن هذا أقرب إلى أن تكون القراءة على الوجه المأمور به، بالتدبر والترتيل، وجاء أيضًا: «لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث» [أبو داود: 1390]، ولكن عثمان -رضي الله عنه- يقرأ في ليلة، وثبت عن كثير من الصحابة -رضي الله عنهم- أنهم يقرؤون في ليلة أو ليلتين، وكذلك من السلف والتابعين والأئمة وهذا كثير، نقول: لعل ما أُثر عنهم استغلال للمواسم كالعشر الأواخر من رمضان، ولا يكون ديدنًا ولا عادة، فإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحيي ليله في العشر الأواخر، وإحياء الليل يكون بالقراءة، والذكر، والصلاة، فالليل يستوعب، لكن ظروف الناس تختلف، ما يقال لشخص متفرِّغ للعبادة وللتلاوة: (لا تقرأ القرآن إلا في سبع)، والشخص المشغول بالأعمال الكثيرة والدوام والدروس ونفع الناس وقضاء حوائجهم يقال له: (اقرأ القرآن في سبع)، فهذا يختلف عن هذا، وقول الرسول -عليه الصلاة والسلام- لعبد الله بن عمرو: «ولا تزد» هذا من باب الشفقة عليه، وإذا نُهي الإنسان عن شيء شفقة عليه فأهل العلم يقولون: الأمر يعود إليه، فإذا كان لا يتأثر به ولا يضره فهذا الأمر إليه، ولذلك زاد عبد الله بن عمرو عن ذلك وصار يقرأ في ثلاث، على كل حال هذه المسألة يُختلف فيها بين أهل العلم، فمنهم مَن يقول: إن الأمر على ما جاء عن الصحابة -رضي الله عنهم-، ومن أكثر فالله أكثر، ورُتِّبت الأجور على الحروف، فالأجر المرتب على الحروف يثبت بمثل هذه السرعة، ولو كانت القراءة هذًّا، أما الأجور العظيمة كما في حديث «الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة» [البخاري: 4937]، فلا بد أن يقرأ على الوجه المأمور به.
وأهل العلم بينهم خلاف في أيهما أكثر أجرًا: مَن يقرأ القرآن على الوجه المأمور به بحيث يختم في الأسبوع مرة، أو مَن يقرأ القرآن بالسرعة ويختم في الأسبوع سبع مرات، والمسألة مفترضة في شخص يقول: (أنا أجلس في المسجد ساعة بعد صلاة الصبح، فهل الأفضل أن أقرأ جزءًا واحدًا بالتدبر والترتيل، أو أقرأ خمسة أجزاء -لأن الخمسة مجربة في الساعة-، أيهما أفضل؟)، الجمهور على أنه يقرأ جزءًا واحدًا على الوجه المأمور به أفضل من أن يقرأ خمسة، وعند الشافعية قول معروف أنه كلما أكثر من الحروف فهو أفضل، ولو أخل بالتدبر والترتيل، وعلى كل حال قول الجمهور هو المورِث للعلم النافع، والإيمان الخالص، واليقين والطمأنينة، كما قال شيخ الإسلام.
وابن القيم يقول: إن مَن يُسرع في قراءته، ويُكثر من الختم بالنسبة لمن يتدبر ويرتل ويُقلِّل من الختم كمن أهدى عشر درر، وذاك كمن أهدى درة واحدة، فالذي يُسرع وختم عشر مرات كمن أهدى عشر درر، وذاك كمن أهدى درة واحدة، لكن افترض أن قيمة كل واحدة من العشر ألف، لكن قيمة الواحدة في مقابل العشر مائة ألف، صار أيهما أفضل؟
الذي يتدبر ويرتل أفضل بكثير، وقراءة الهذِّ وإن كان يُرجى ما رُتِّب عليها من أجر، وفيها خير ونفع عظيم للإنسان، لكنها ليست بشيء مقارنة بقراءة الانتفاع بالقرآن، والإنسان على ما تعوَّد، فالذي تعوَّد السرعة لا يستطيع أن يترك السرعة، مثل السرعة بالسيارة، فالذي عوَّد نفسه على السرعة ما يستطيع تركها، فإذا مرَّ بآية تأمر بالتدبر من آيات التدبر الأربع قصر قليلًا، ثم نسيها فرجع إلى ما كان عليه، وهذا نظير من جُبل على السرعة في القيادة، إذا رأى حادثًا قصر قليلًا، ثم بعد ذلك بعشرة كيلو ينساه ويرجع إلى ما كان عليه، فعلى الإنسان أن يعوِّد نفسه على التدبر والترتيل. لكنْ شخص من عشر أو عشرين سنة عوَّد نفسه على أنه يختم في كل ثلاث، أو في كل سبع -مثلًا- بسرعة وهذ، وأراد أن يعود إلى الطريقة الثانية الأمثل والأفضل، فهل نقول: إنه بدلًا من أن يختم في الشهر أربع مرات يختم مرة واحدة، أو بدلًا من أن يختم عشرًا يختم أربعًا أفضل له، أو يستمر على طريقته؟ لأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- «إذا عمل عملًا أثبتَه» [مسلم: 746]، والتقليل من الختم رجوع بعض الشيء، فهو رجوع في الكم، وإن لم يكن رجوعًا في الكيف، والعبرة بالكيف؛ لأن بعض الناس يجد في نفسه أن يُقلِّل بعد أن اعتمد طريقًا واستمر عليه سنين، والرسول -عليه الصلاة والسلام- إذا عمل عملًا أثبته، وجاء في الحديث الصحيح في (البخاري) وغيره «مَهْ، اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يَمَل حتى تَمَلُّوا» [البخاري: 43 - 1966/ ومسلم: 785]، هل نقول: إن الذي رجع من الختم عشر مرات في الشهر إلى مرة أو مرتين، نقول: هذا مل؟ أو نقول: إنه بدلًا من الكم نرجع إلى الكيف، والكيف أفضل؟ لأن هذا لا بد أن يوجد في نفس الحريص، فصاحب التحرِّي يؤثِّر فيه مثل هذا؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- إذا عمل عملًا أثبته، وهذا عمل عملًا وأثبته مدة طويلة ثم نكص عنه ورجع، والرجوع والنكوص عند أهل العلم مذموم بلا شك، لكن يبقى أنه بدلًا من العناية بالكم تكون العناية بالكيف، والكيف أهم.