أولًا: حديث الافتراق كما يقول -عليه الصلاة والسلام-: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلَّا واحدة» [أبو داود: 4596 / وابن ماجه: 3992 - 3993]، ثم جاء بيان هذه الفرقة الناجية [الترمذي: 2641].
فأولًا: أهل العلم لم يُدخلوا الاختلاف في الفروع في هذا الحديث أصلًا، ونبَّهوا على ذلك في كتب الفِرق، ولهذا يوجد الخلاف في الفروع بين خيار الأمة من الصحابة -رضي الله عنهم- كأبي بكر وعمر، وكلٌّ يجتهد، فمَن أصاب فله أجران، ومَن أخطأ فله أجر واحد، كما جاء في الحديث [البخاري: 7352]، ولا يُثرِّب أحد على أحد في الفروع إذا كان القول مما يحتمله النصُّ، والقائل به أهلًا للنظر والاجتهاد، فليس لكل أحد أن ينظر في النصوص، إنما الذي ينظر في النصوص مَن لديه أهلية النظر، وأما مَن عداه ففرضه سؤال أهل العلم، {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، فالخلاف في الفروع لا يدخل في حديث الافتراق، ولذا يكون من الفرقة الناجية مَن هو على مذهب أبي حنيفة، ومَن هو على مذهب مالك، ومَن هو على مذهب الشافعي، ومَن هو على مذهب أحمد -رحمهم الله جميعًا-، أعني: في الفروع.
وأما الخلاف في الأصول وفي العقائد، فالفرقة الناجية هي مَن كان على ما كان عليه النبي -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه -رضي الله عنهم-: «ما أنا عليه وأصحابي» [الترمذي: 2641]، لكن مَن ابتدع في الدِّين واخترع قولًا لم يُسبَق إليه سواء كان في الاعتقاد، أو في العمل، فهو مبتدع، ثم يُنظَر في هذا المبتدع.
والبدع كلُّها ضلالة، وليس في البدع ما يُحمد ويُمدح، وليس من البدع ما هو حسن، وإن ادَّعى ذلك من ادَّعاه من أهل العلم، وجعلوا للبدعة الأحكام الخمسة التكليفيَّة، فجعلوا من البدع ما هو واجب، وجعلوا من البدع ما هو مستحب، وجعلوا من البدع ما هو مباح، وخلطوا في مفهوم البدعة، فجعلوا أمور الدنيا مما يمكن أن يدخل فيه الابتداع، كالتوسعة في ألوان الطعام والشراب واللباس والمساكن، فجعلوا هذا من البدع المباحة، لكن هل البدع تدخل في العادات، ما لم يُتعبَّد بها؟ إذا تُعبِّد بها دخلتْ في البدعة، كأن يتعبَّد الله -جل وعلا- بهذا النوع من الطعام، وأنه أفضل من غيره، وأنه يُؤجَر على أكله أكثر من غيره، فهذه بدعة، فإذا تعبَّد بهذه المباحات، ولا أعني: أنه يريد أن يتقوَّى بها على العبادة، فهذا يُؤجَر على هذه النية، لكن لو قال -مثلًا-: (الأرز أفضل من القمح، ويُؤجَر الإنسان على أكله أكثر مما يُؤجَر على أكل القمح)، ويتعبَّد بهذا، نقول: ابتدعتَ يا أخي؛ لأنك اخترعتَ قولًا لم يَسبق له شرعية من كتاب ولا سنة. أما إذا لم يُتعبَّد بها، وتناولها الإنسان لا على جهة التعبُّد، فإنها لا تدخل في البدع.
والبدع كلُّها ضلالة كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- [مسلم: 867]، فكيف نقول: إن من البدع -التي قرَّر النبي -عليه الصلاة والسلام- أنها ضلالة- ما هو واجب؟! ومثَّلوا لها بالردِّ على المخالفين، ودحض أقوالهم وشُبههم، نقول: لكنه ليس ببدعة، فله أصل في القرآن، وله أصل في السُّنَّة، وله أصل من عمل سلف الأمة، فليس ببدعة أصلًا، ويبقى أنه واجب على الكفاية، وقد يتعيَّن على بعض الناس. وقالوا أيضًا: هناك بدع مستحبة، كبناء المدارس والأربطة؛ لأن التعليم مستحب وسنة، فما يُعين عليه أيضًا فهو سنة، نقول: هذا ليس ببدعة؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد، فهو مشروع، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وكذلك ما لا يتم المندوب إلا به فهو مندوب شرعًا، وهذه قواعد كليَّة مقرَّرة في الشريعة، فليست هذه ببدع. وعندهم أيضًا البدع المباحة، كالتوسُّع في ألوان الطعام والشراب، وغيرهما من الأمور التي هي في الأصل مباحة، فهي عندهم بدع، لكنها مباحة، لكن كيف نقول: بدع مباحة، وبدع واجبة، وبدع مستحبة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: «كلُّ بدعة ضلالة» [مسلم: 867]؟! أما البدع المكروهة والبدع المحرمة، فهذه لا نختلف معهم فيها؛ لأن هناك من البدع ما هو خفيف جدًّا، قد لا يصل إلى درجة التحريم، ومنها البدع التي تصل إلى درجة التحريم، ومنها البدع المغلَّظة التي فيها ما يُخرِج من المِلَّة.
وهذا السائل يقول: (تكثر من الحين والآخر دعوات لتوحيد صفوف الفرق الإسلامية، وأنه لا فرق بينها، وأنها تُعتبر آراءً)، لا، ليست بآراء فقط، فإذا كانت في العقائد تعبُّدًا لله -جلَّ وعلا- بما لم يَسبق له شرعيَّة من الكتاب والسُّنَّة، فهذه ليست مجرَّد آراء فقط، بل هذه في صميم الدِّين، وإنما يُنظَر في المبتدِع وبدعته، فإن كانت بدعته كبرى مغلَّظة تُخرِج من المِلَّة، فهذا شأنه كغيره ممَّن لا ينتسب إلى الدِّين، ولو انتسب إلى الدِّين، فإذا كانت بدعته مكفِّرة فهذا ضرر، والاتِّحاد معه ضرر محض، بل يجب هجره.
والبدع التي هي أقل من هذا المستوى، كالتي هي محرَّمة، لكنها لا تُخرِج من المِلَّة، فهذه لا شك أن الاتِّحاد مع أصحابها في وجه العدوِّ الواحد المشترَك، كأن يكون عندك أشعري، وماتريدي، ومِن بعض الفِرق التي بدعهم ليست مكفِّرة، ثم جاء عدوٌّ مشترَك، كالعدوِّ الكافر، فنستفيد من هؤلاء ولا شك، وقد يُستفاد من الأشعري في الردِّ على المعتزلي الذي هو أشدُّ منه بدعة، وقد يُستفاد من المعتزلي في الردِّ على اليهودي والنصراني، أي: مَن هو أعظم منه، فهذا موجود، فنستفيد منهم، لكن يبقى أنهم ليسوا معنا، وليسوا منَّا على المنهج الذي تركَنا عليه النبي -عليه الصلاة والسلام-.
ويتوسَّع بعضهم في أهل السنة، ويُدرج فيها ثلاث فرق، فيجعل الفرقة الأولى: الأثريَّة، وإمامهم الإمام أحمد، والفرقة الثانية: الأشعرية، وإمامهم أبو الحسن الأشعري، والفرقة الثالثة: الماتريدية، وإمامهم أبو منصور الماتريدي، فيجعلون هذه الفرق الثلاث من أهل السنة والجماعة، لكن لا شك أن هذا توسُّع غير مرضيٍّ؛ لأننا إذا قلنا: إن الأثريَّة عملوا بالسُّنَّة، ولم يخالفوها لا في الاعتقاد ولا في الفروع، فحُقَّ لهم أن يُطلق عليهم أهل السنة، والإمام أحمد -رحمه الله- كما هو معروف إمام أهل السنة، لكن إذا جئنا إلى الأشعرية، فهل يعملون بالأحاديث، ويُقرُّون ما فيها كما جاءت؟ هل يُثبتون ما أثبته الله -جلَّ وعلا- لنفسه في كتابه، أو أثبته له نبيُّه -عليه الصلاة والسلام-، على مقتضى منهج سلف الأُمَّة؟ لا، وإنما عندهم مخالفات كبيرة لمنهج السلف الصالح، فعلى هذا إدخالهم في أهل السنة توسُّع، لكنه غير مرضيٍّ، فعلى هذا نعرف الإنسان، وما يعتقده، وننظر إلى شخصه أيضًا، فقد يوجد شخصان كلٌّ منهما يعتقد مثل اعتقاد الآخر، ولكن نعذر هذا، ولا نعذر هذا، ونلين مع هذا، ونُشدِّد مع هذا، فإذا نظرنا إلى الرازي والنووي وجدناهما كلاهما يتبعان أبا الحسن الأشعري، لكن هل نُعامل النووي مثلما يُعامَل الرازي؟ النووي في حكم العامِّي في باب العقائد، لكن الرازي مُنظِّر لمذهب الأشعرية ولغيره أيضًا من الأقوال الرديئة، مثل: القول بالجَبر، ويورِد في كتابه شُبَهًا لا يستطيع هو أن يَردَّها، فهل نُعامل النووي مثلما نُعامل الرازي؟ لا، بل العدل والإنصاف مطلوب، {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، نعم النووي أشعري، ومن هذه الحيثيَّة ليس من أهل السنة، لكن مع ذلك عنده محاسن، وعنده خدمة للسُّنَّة، وعنده عمل، وعنده زهد في الدنيا، وعنده إقبال على الآخرة، وعنده تعظيم لشرع الله -جلَّ وعلا-، والرازي رُمي بالعظائم، وإن ثبت عنه كتاب (السر المكتوم) -وموضوعه سحر، وطلاسم، وتعلُّق بالنجوم- فهذا خطير جدًّا، وقد يقال برِدَّته -إن ثبت عنه هذا الكتاب-. على كل حال هذا أشعري، وهذا أشعري، لكن تختلف معاملتنا لهذا عن هذا.
وشيخ الإسلام الإمام المجدِّد -رحمه الله تعالى- جاءه سؤال من بلد عن أهلها الذين يطوفون بالقبور، فحكم بكفرهم، ثم جاءه سؤال من بلدٍ آخر بنفس الصيغة، فعذرهم، وقال: هؤلاء لا يُكفَّرون، والسبب في ذلك أنه نظر إلى حال هؤلاء، وأن الحُجَّة بلغتهم، وأنه لا عذر لهم، ونظر إلى حال الآخرين، فرأى أن الحُجَّة لم تبلغهم، فهل يُعامَل هذا مثل هذا؟ لا، لا يعامل هذا مثل هذا؛ لأن بلوغ الحجَّة شرط في إقامة الحكم.
وهؤلاء الذين قسموا البدع إلى بدع مستحسنة، وبدع قبيحة، أقوى ما عندهم مما يمكن أن يُعتمَد عليه قول عمر -رضي الله تعالى عنه- في صلاة التراويح: "نعمت البدعة"، فعمر -رضي الله تعالى عنه- جمع الناس في صلاة التراويح على إمام واحد، فخرج إليهم في ليلة من الليالي، فوجدهم يُصلُّون مجتمعين، فقال: "نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون" [البخاري: 2010]، يعني: صلاة آخر الليل أفضل من صلاة أول الليل، فسمَّاها: بدعة، ومَدَحها، إذن في البدعة ما يقال فيه: (نِعم)، و(نِعم) للمدح، إذن في البدع ما يُمدح. هذا أقوى ما يعتمدون عليه. وشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: (هذه بدعة لغويَّة، لا شرعيَّة)، والشاطبي يقول: (مجاز، وليس بحقيقة)، والصواب أنها ليست ببدعة لغويَّة، ولا شرعيَّة، ولا مجاز، فكيف يقول عمر عن عبادة: إنها بدعة، ويمدحها؟ نقول: إن هذا أسلوب في علم البديع يُسمَّى: المشاكلة والمجانسة، فتأتي بكلام يُشبه كلامًا، سواء كان حقيقة أو تقديرًا، فمن الحقيقي قول الشاعر:
قالوا: اقترحْ شيئًا نُجِدْ لكَ طبخَهُ |
|
قلتُ: اطبخوا لي جُبَّةً وقميصا |
فالجُبَّة والقميص لا تُطبخان، لكنه من باب المشاكلة والمجانسة في التعبير؛ لأنهم قالوا: (اقترحْ شيئًا نُجِدْ لكَ طبخَهُ)، فهم توقَّعوه جائعًا، فصار مصابًا بالبرد. المقصود أن هذه مشاكلة ومجانسة في التعبير.
ومن ذلك قوله -جلَّ وعلا-: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] فالأولى سيِّئة؛ لأنها جناية، لكنَّ جزاءها ليس بسيِّئة، وإنما هو حسنة، فمعاقبة الجاني حسنة، إذن هذه مجانسة ومشاكلة في التعبير.
ومن التقدير قول عمر -رضي الله عنه- هنا: "نعمت البدعة"، وذلك أن عمرَ توقَّع أن يقال له: (ابتدعتَ يا عمر)، فقال: "نعمت البدعة هذه"، ويُدخِلون التقدير في حكم الملفوظ به، فهذا مجرَّد مجانسة ومشاكلة في التعبير، وهو موجود في النصوص، وفي أسلوب العرب، ومعروف ومطروق، وبُحِث في علوم البلاغة. إذن ليست ببدعة لا لغويَّة، ولا شرعيَّة، فكيف لا تكون بدعة لغويَّة على ما قال شيخ الإسلام؟ لأن البدعة اللغويَّة ما عُمِل على غير مثال سابق، وصلاة التراويح عُملتْ على مثال سبق مِن فعله -عليه الصلاة والسلام- جماعة. وليست ببدعة شرعيَّة؛ لأنه سبق لها شرعيَّة من فعله -عليه الصلاة والسلام-، إذن ليست ببدعة لغويَّة ولا شرعيَّة، وإنما هي من باب المجانسة والمشاكلة في التعبير.
فليس في البدع ما يُمدح؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: «كلُّ بدعة ضلالة»، فكيف يقول: «كلُّ بدعة ضلالة»، ونقول: من البدع ما يُمدَح؟! ففي هذا معارَضة للنصِّ الشرعي، وأقول: هذه مسألة شرعيَّة مردُّها إلى الشرع ونصوصه، فمَن قال: (بدعة محمودة)، نقول: صادمتَ قول النبي -عليه الصلاة والسلام- «كلُّ بدعة ضلالة»، لكن لو قال لنا قائل في قول الله -جل وعلا-: {كَأَنَّهُ جِمَلَتٌ صُفْرٌ} [المرسلات: 33]: (أنا والله عمري كله ما رأيتُ جملًا أصفر)، يعني: الأصفر الفاقع المعروف، هل نقول: صادمتَ النصَّ؟ لا، بل نقول: حقيقتك العُرفيَّة التي تتحدَّث عنها غير الحقيقة الشرعيَّة؛ لأن الحقائق قد تتعارَض، لكن لا يترتَّب على تعارضها اختلاف في حكم، لكن «كلُّ بدعة ضلالة» و(بدعة محمودة): قلب للحقائق، وقلب لحكم من أعظم الأحكام الشرعيَّة؛ لأن التعبُّد لله -جلَّ وعلا- بما لم يشرعه ضلال، وحقيقة الإيمان بالله -جلَّ وعلا-، والإيمان برسوله -عليه الصلاة والسلام- ألَّا يُعبَد الله إلَّا بما شرع، فكيف نتعبَّد بما لم يشرعه الله -جلَّ وعلا- في كتابه، أو على لسان نبيِّه -عليه الصلاة والسلام-؟
وقل مثل هذا في اختلاف الحقائق اللغويَّة مع الشرعيَّة، أو الشرعيَّة مع العُرفيَّة، أو الشرعيَّة مع الشرعيَّة؛ لأن الحقيقة الشرعيَّة قد تتعدَّد.
فمثلًا: لو دخل رجل المسجد ثم رفع يديه ودعا، فقال شخص: (فلان دخل المسجد وصلَّى)، وقال آخر: (أبدًا، ما صلَّى)، فهذا المُثبِت يقصد الحقيقة اللغويَّة، وهذا النافي يقصد الحقيقة الشرعيَّة.
وقد تُوجَد صورة الحقيقة الشرعيَّة أو قريب منها، لكن لتخلُّف شرط من شروطها تُنفَى عنها الحقيقة الشرعيَّة، وإن كانت الصورة موجودة، وذلك كما في حديث المسيء في صلاته، حيث دخل المسجد، ووقف، وركع، وسجد، وصلَّى ركعتين، وسلَّم، ثم جاء إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، فقال له: «ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ» [البخاري: 793]، فنفى الحقيقة الشرعيَّة، وإن كانت الصورة موجودة، لكن لما تخلَّف الشرط أو الركن انتفت الحقيقة الشرعيَّة؛ لأن هذه الصلاة وجودها مثل عدمها، فصحَّ نفيها.
وقد يكون للَّفظ الواحد أكثر من حقيقة شرعيَّة، فمثلًا: لو أن مدرِّس فقهٍ أتى بسؤال في الامتحان وقال فيه: (عرِّف التفليس)، أو (مَن المُفلس؟)، ثم جاء في الجواب: (المفلس مَن لا درهم له ولا متاع)، أو (مَن زادتْ ديونه على ممتلكاته)، هل سيقول المدرِّس: إن الجواب صحيح أو خطأ؟ وكيف يقول: إن الجواب صحيح، والنبي -عليه الصلاة والسلام- لما سأل الصحابة -رضي الله عنهم-: «مَن المفلس؟»، وقالوا: "المفلس فينا مَن لا درهم له ولا متاع"، بيَّن غير ذلك؟ إذن الجواب خطأ، حيث قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنيتْ حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحتْ عليه، ثم طُرح في النار» [مسلم: 2581]، فهذا مفلس فلسًا شرعيًّا، وهذه حقيقة شرعيَّة؛ لأنها جاءت على لسان الشارع، والحقيقة الأولى التي ذكرها الصحابة -رضي الله عنهم- أيضًا شرعيَّة، «مَن أدرك ماله بعينه عند رجل -أو إنسان- قد أفلس، فهو أحقُّ به من غيره» [البخاري: 2402]، فهل نقول في حقِّ مَن عرفناه بالكلام في أعراض الناس، وفي أذى الناس: نحن أحقُّ بمتاعنا الذي عنده؛ لأنه مفلس، ولو كانت عنده الأموال التي يستطيع السداد منها؟! لا، وإنما تُنزَّل النصوص منازلها، وتُوقَع مواقعها، فيُنتبه لمثل هذا.
ولا شك أن الخلاف في العقائد مؤثِّر، والأصل هجر المبتدع، ومعاملة السلف للمبتدعة في غاية القوة والشدة، وذلك في وقت نشوء البدع؛ من أجل القضاء عليها في مهدها، لكن لو وجدنا مدرِّسا أشعريًّا -مثلًا-، وزميله على منهج أهل السنة والجماعة، واقتضتْ مصلحة دعوته معاملته بالرِّفق واللِّين، ورأى أن الهجر لا يفيد، بل يزيده إصرارًا، ويمكن أن يصير معتزليًّا، بينما معاملته بالرِّفق واللِّين، والتبسُّم في وجهه، وإلقاء السلام عليه، والسؤال عن حاله، يجعله يقبل الحق، فالرِّفق واللِّين مطلوب، والحكمة مطلوبة. ويبقى أننا نُبغض البدع والمبتدعة، وهذا هو منهج سلف هذه الأمة. وأما بالنسبة لمصلحة الدعوة فإذا كان في دائرة الإسلام فيُسلَّم عليه، أما إذا كانت بدعته مكفِّرة فحكمه حكم الكفار، فلا يُسلَّم عليه، ولا يبادَر بالسلام.