هذا الكلام ليس بصحيح، فكم كان عُمْر أبي بكر -رضي الله تعالى عنه- لما بُعِثَ النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ كان ثماني وثلاثين سنة، وهل يَعرف من العلم شيئًا قبل أن يبلغ ثماني وثلاثين سنة؟! لا يعرف شيئًا، ومن أهل العلم من ذُكِر في ترجمته أنه طلب العلم كبيرًا، كالقفَّال من أئمة الشافعية -رحمه الله-، وقبله صالح بن كيسان -رحمه الله-، حتى قالوا في ترجمته: إن عمره حينما طلب العلم تسعون سنة، ومازال يطلب، ويجتهد، ويحفظ الأحاديث، حتى صار معدودًا في كبار الآخذين عن الزهري -رحمه الله-، وقالوا أقلَّ من ذلك، فقيل: كان عمره ستين، وقيل: خمسين سنة، لكن حتى الخمسين كثيرة، نعم التعلُّم في الصِّغر كالنقش في الحجر، فتنبغي المبادرة إلى طلب العلم، وحفظ العلم، وفهم العلم، فالتعلُّم في الصِّغر لا يعدله شيء، لكن إذا لم يتيسَّر، بأن كان في غفلة في أول عمره، أو في انشغال عن طلب العلم بأمور المعيشة، ثم التفتَ إلى العلم، فهذا لا يمنع. ومع الأسف أن نجد من كبار السن في مساجد المسلمين مَن يأتي قبل الأذان إلى الصلوات، وفي رمضان قد يواصل بين الصلاتين ولا يخرج، لكن ماذا يصنع في المسجد؟ يتلفَّت يمينًا وشمالًا، وما يقرأ القرآن! وإذا قيل له: (اقرأ يا أخي الآن ولو كان عمرك سبعين سنة، أو ثمانين سنة)، يقول: (كيف أقرأ؟)، كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «ما أنا بقارئ» [البخاري: 3]، نقول: اقرأ يا أخي ولو أن يُردَّد عليك، ومن نِعم الله -جل وعلا- أنه لا يخلو بيت الآن من قارئ للقرآن، سواء كان من البنين أو البنات، من الرجال أو النساء، فما الذي يمنع أنك إذا صلَّيتَ العصر تقول: (يا ابني -أو يا بنتي- حفِّظني الفاتحة)؟ فاحفظ الفاتحة، وردِّدها، ثم بعد ذلك قصار السور، وبالتدريج، والعلم بالتعلُّم، ولا يلزم أن تكون من كبار الحفَّاظ، ولن تستطيع أن تُدرك إلا ما كُتِب لك، لكن مع ذلك عليك أن تبذل السبب، فإذا كنت كبيرًا في السن فاجلس إلى أولادك ليعلِّموك، ويوجَد -ولله الحمد- جهود من بعض المخلصين والناصحين، تُبذَل للصغار والكبار من الرجال والنساء على حدٍّ سواء، واستفادوا كثيرًا، ونسمع بين الفينة والأخرى والحين والآخر أن امرأة في السبعين من عمرها أكملتْ حفظ القرآن، هذه نِعَم، والله -جل وعلا- يقول: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر: 17]، فهل من غافل؟ فهل من متراخٍ؟ فهل من نائم؟! لا، {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [سورة القمر:15]، فابذل من نفسك، واحصد النتيجة عاجلًا قبل الآجل.
نعم قد يكون الإنسان في تركيبه نقص، أو في فهمه ضعف، أو في حفظه ضعف، فمثل هذا يكفيه أن يسلك الطريق، ولا يلزم أن يترتَّب على سلوك الطريق نتيجة، فما يلزم أن يكون عالمًا، وأنا أعرف شخصًا كان يدرس معنا في المرحلة المتوسطة والثانوية وعمره أكثر من سبعين سنة، ثم واصَل بعد ذلك، إلى أن مات تقريبًا عن تسعين سنة، وهو يطلب العلم، ومع ذلك لم يُدرِك شيئًا من العلم، يعني: ما يمكن أن تستفتيه ولا حتى في الوضوء أو الصلاة، فهذا لا شك أنه حُرِم من العلم، لكن «مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة» [مسلم: 2699]، فهل حُرِمَ مِن هذا؟ ما حُرِم، فالأجر مرتَّب على سلوك الطريق، وأهل العلم يُقرِّرون أن طلب العلم ومزاولة العلم أفضل من جميع نوافل العبادة، فعلينا أن نجِدَّ ونجتهد، ولو تقدَّم بنا السن.
وكثير من طلاب العلم يدرس في الدراسة النظامية: الابتدائي ست سنوات، والمتوسط والثانوي ست سنوات، والجامعة أربع سنوات، والدراسة العليا بمرحلتيها لِنَقُل: ست سنوات، فهذه اثنتان وعشرون سنة، وقد يتخرَّج وهو يعرف ما مرَّ به من المسائل، وكذا المسائل التي بحثها في رسائله جوَّدها وأتقنها على وجه، وإن كانوا يتفاوتون في هذا، ثم بعد ذلك ماذا عن بقية العلم؟ والعلم بحور، فإذا لم يكن له اهتمام من الصِّغَر بالعلم، فقد يكون دكتورًا وهو ما يحفظ المفصَّل، ولا يحفظ من السنة شيئًا، وتسأله عن الأحكام الفقهيَّة بأدلتها فلا تجد عنده شيئًا، فما عنده إلا شيء مرَّ به فقط، لا أكثر ولا أقل، فهذا عليه أن يلتفت من جديد، ولا تقل: (عمري الآن اثنتان وثلاثون -أو خمس وثلاثون- سنة)، لا، ما يمنع، بل أسِّس من جديد، والذي أسَّس من جديد أدرك، والذي سوَّف وقال: (أنا والله ما عندي استعداد أن أبدأ بمتون الأطفال وصغار السن، وأنا دكتور، أو أستاذ في الجامعة)، فهذا يُحرَم العلم، و"لا يتعلَّم العلم مستحي ولا مستكبر"، وهذا مستكبر عن طلب العلم، فكونه يأنف مع كِبَر سنه، وكثرة شهاداته، أن يدرس المتون الصغيرة اللائقة بصغار الطلاب، فهذا ليس بصحيح، والأمور -ولله الحمد- تيسَّرت جدًّا، فبإمكان الإنسان وهو في بيته إذا كان يأنف من أن يجلس بين يدي الشيوخ؛ لكون عنده شهادات، وعنده مؤهلات، ولا أقول: إن مَن حصل على الشهادات يأنف عن هذا، أبدًا، فمجالس العلم معمورة بكبار الأساتذة، وكبار القضاة، وكبار الدعاة، فلا يقال مثل هذا، لكن قد يوجَد مَن يحصل على شهادة الدكتوراه وهو ما عنده علم إلَّا فيما تخصَّص فيه، فالعلوم الأخرى لا بد أن يأخذ منها ما يكفيه وما يعينه على فهم الكتاب والسنة، فالآن ولله الحمد المتون التي يحتاجها طلاب الطبقة الأولى موجودة مطبوعة، ومشروحة بشروح مطبوعة، وشروح مسجَّلة، ودروس مسموعة عن طريق الأجهزة ووسائل الاتصال، فكل شيء متيسِّر، وبإمكان الإنسان وهو جالس في بيته مرتاحًا، وبيده متن (الآجرومية)، أو (الورقات)، أو (الأربعين) أو (الأصول الثلاثة)، أو نحوها من المتون الصغيرة للمبتدئين، أن يسمع شرح الشيخ الفلاني، ويقيِّد الفوائد على المتن، ما المانع؟ ومثل هذا عنده أرضيَّة للقَبُول، ففي مدة سنة واحدة يصير شيئًا، حيث عرف هذه المتون كلها، وتصوَّرها، وسهُل عليه تخصصه؛ لأن هذه العلوم تخدمه في تخصصه.
المقصود أنه لا يأس ولو كَبُرَت السن، ولو ضعُفت الحافظة، ولو ضعُف الفهم، فعلى الإنسان أن يَجِدَّ ويجتهد، ويحرص على التعلُّم بصغار العلم قبل كباره؛ لأن هذه الطبقات وهذه الدرجات التي جعلها أهل العلم للمتعلمين مثل السِّلَّم الذي تَصعَد بواسطته إلى السطح: الدرجة الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، لكن لا تستطيع أن تطلع درجتين أو ثلاث درجات جميعًا.
لكن في ظروفنا التي نعيشها إذا انتبه طالب العلم، وقَرَّر أن يسلك هذا الطريق، ثم جاء إلى حِلَق العلم عند المشايخ، ووجد الشيخ فلانًا في كتابٍ متوسِّط للمتوسطين، لكنه في أثنائه، كأن يكون في كتاب البيوع، والأصل أن يبدأ الطالب من الطهارة، وجاء إلى شيخ ثانٍ فإذا هو يقرأ في آخر كتاب (البخاري) -مثلًا-، وجاء إلى شيخ ثالث...فما وجد شيوخًا يُلبُّون رغبته، ويستقبلونه، ويبدؤون به العلم من أوَّله، فعليه أن يبحث، وعليه أن يُلِحَّ على مَن يتوسَّم فيه أنه ينفعه؛ ليبدأ به من الأول، لكن إذا لم يجد فيُتابِع دروس المشايخ، ويعكف بين أيديهم، ويثني ركبته أمامهم، ومع ذلك يأخذ هذه المتون ويُفيد من الشروح المطبوعة، والشروح المسجَّلة على هذه المتون، وبإمكانه أن يَلحق الركب.