كيف لم يحفظ شيئًا؟! إن كان المراد به: شيئًا يعادل حفظ الأئمة الكبار، كأحمد، وأبي داود، ونظرائهم -رحمهم الله-؛ فصحيح، وإن كان لا يحفظ شيئًا ألبتة؛ فهذا ليس بصحيح، فأغبى الناس إذا عَمِل في السُّنَّة عَمَل الألباني حَفِظ، والشيخ ستين سَنة يُخرِّج الأحاديث، ثم نقول: لا يحفظ شيئًا! بل يحفظ، لكن حفظه لا يُقارَن بحفظ الأئمة المتقدِّمين، ومع ذلك -لأنه يقول: (والأصوليون لم يشترطوا للمجتهد حفظ القرآن والسنة)، نعم- نقول: يجتهد، لكن هل يجتهد في التصحيح والتضعيف على طريقة المتقدِّمين؟ لا؛ لأن الاجتهاد يتجزَّأ.
يقول: (ووُجد مَن يحفظ، ولا يعي، ولا يفقه ما يحفظ، بل إن كبار الحفَّاظ والفقهاء كانوا يُحدِّثون من الكتاب)، الضبط الذي قسَّمه أهل العلم إلى ضبط صدر، وضبط كتاب، معتمَد عند أهل العلم، وكثير منهم يُحدِّث من الكتاب، وبعضهم يُرجِّح التحديث من الكتاب؛ لأنه أضبط، لكن يبقى أن الإنسان إذا أراد أن يُحاكي الأئمة في أحكامهم على الأحاديث بالقرائن، فلا بد أن يُحاكيهم في حفظهم، وأقلُّ الأحوال أن يُديم النظر في أقوالهم، ويُديم النظر في تصرُّفاتهم في أحكامهم على الأحاديث، ولا بد أن يُحيط بأحاديث الباب الذي يريد الحكم عليه؛ لأن أحاديث الباب تُعينه، فيكون نظره تامًّا في الحكم في هذا الباب، فهل سيعرف أن ثبوت هذا الحديث أليق، أو عدم ثبوته أليق، وهو لا يعرف من الباب شيئًا؟! هذا ما يمكن.
وقوله: (ووُجد مَن يحفظ، ولا يعي)، صحيح لكن هل هذا عالم، أو راوية؟ هذا راوية، وليس بعالم، فلا هو بمُحدِّث ولا فقيه.
(والأصوليون لم يشترطوا للمجتهد حفظ القرآن والسُّنَّة)، نعم، يجتهد الإنسان، حتى القرآن قالوا: يحفظ آيات الأحكام فقط، والسُّنَّة قالوا: أحاديث الأحكام، لكن هل يُسمَّى: مجتهدًا مُطلَقًا في أبواب الدِّين، أو مجتهدًا في المسائل الفرعيَّة؟ لا يمكن أن يكون مجتهدًا مُطلَقًا حتى يُحيط بأبواب الدِّين، أما مجتهد في باب من أبواب الدِّين؛ فقد يجتهد في الفرائض، فيدرس الفرائض في مُدَّة شهر، ويكون مجتهدًا فيها، ما المانع؟ فالاجتهاد يتجزَّأ، لكن إذا كان يريد أن يجتهد ويُضاهي الأئمة الكبار المجتهدين؛ فلا بد من أن يكون حافظًا.
أما الشيخ المُحدِّث الألباني -رحمة الله عليه-؛ فحَفِظ من السنة ما حَفِظ، ويبقى أنه جارٍ على قواعد المتأخِّرين، ولا ادَّعى أنه يُحاكي المتقدِّمين، ومَن نظر في أحكامه وجده ماشيًا على قواعد المتأخِّرين.
وشيخنا الشيخ ابن باز -رحمة الله عليه- نَفَسه إلى الحديث أقرب منه إلى الفقه، فهو مُحدِّث من هذه الحيثيَّة، لكن هل يقول أحد: إنه يحكم على الأحاديث مثل: البخاري، أو مثل: يحيى بن معين، أو مثل: أبي حاتم، أو حتى مثل: الدارقطني -رحمهم الله-؟ لا، ما أحد يقول مثل هذا، فالشيخ تدرَّب على قواعد المتأخِّرين، ومع ذلك لا يُهمِل أحكام المتقدِّمين، فلا يُمكن أن يُعارِض أحكام الأئمة، لكنه مع ذلك تَخرَّج على قواعد المتأخِّرين. والطريق طويل جدًّا يا إخوان، والحديث بمفرده يحتاج إلى أعمار، وليس عُمْرًا واحدًا، وتجدون الناس وجهتهم كلَّهم إلى الحديث مثلًا، لكن تجدون هذا ينحو إلى المتون والتفقُّه في هذه الأحاديث، ويكون عليه هذا أغلب، وهذا يحتاج إلى أن يَستوعب العمرَ كلَّه، وتجد الثاني ينساق وراء الرواية، وينظر في الأسانيد والعِلل، وهذا على خير عظيم، ولا نقول: إن ذاك مُضيِّع، أو هذا مُضيِّع، لكن أن يريد أن ينظر في المتون، والأسانيد، والعِلل، وأحكام الأئمة، ويُضاهيهم، ويتفقَّه في هذه الأحاديث، فهذا يحتاج من كلِّ مليون إلى شخص واحد، فكم يمرُّ على الأُمَّة من مثل هذا؟ لا يمرُّ على الأُمَّة كثير من هذا النوع، لكن تجد مثلًا الشيخ ابن باز -رحمه الله- فقهه من السُّنَّة، ولا يمكن أن يُخالِف الأحاديث، وعنده تصوُّر كافٍ للتفقُّه من السُّنَّة، وعَمِل بها، ودعا إليها -رحمة الله عليه-، لكنه إلى فقه السُّنَّة أميل منه إلى روايتها، والألباني -رحمه الله- إلى الرواية أميل منه إلى التفقُّه، لكن القاسم بينهما أنهما تدرَّبا على قواعد المتأخِّرين، فهل يقول أحد: إن الشيخ ابن باز يحكم بالشَّمِّ مثل: أبي حاتم، أو مثل: الدارقطني، أو مثل: أبي زرعة، أو غيرهم من الأئمة -رحمهم الله-؟ أبدًا، الشيخ يُراجِع، وينظر في (التقريب)، وينظر في كتب المصطلح، ولا أحد يُنكِر هذا، وكُتب الألباني -رحمة الله عليه- طافحة بالنقول عن (التقريب) وغيره، وحتى القواعد مرجعهم فيها الكتب المتأخِّرة.
وأنا كتبتُ في مقدِّمة (تحقيق الرغبة) شيئًا من هذا الكلام، وبعضهم كتب لي رسالات كثيرة، وبعضهم اتَّصل، وقالوا: (إنه لم يتبيَّن لنا رأيك، فهل أنت مع الذين يقولون بنبذ قواعد المتأخِّرين؟) قلت: يا إخوان، أنا لا أُخالف أحدًا، ولم أُخالف أحدًا بعدُ إلى الآن، لكن الطريقة التي طُرِحتْ بها هذه المسألة، قد يكون لي فيها وجهة نظر، وإلا فلا نُخالف الإخوان، ونحن وهم شيء واحد، نحن نقول: المبتدئ لا بد أن يَتخرَّج على كتب المتأخِّرين، ثم بعد ذلك يُديم النظر في أقوال المتقدِّمين، والنظر في المتون، والأسانيد، وإذا تأهَّل؛ فهذا فرضه، كما أننا نقول بذلك في نظيره في التفقُّه: يتفقَّه على مذهب معيَّن، ويضبط هذا المذهب، ويُتقنه، وينظر في مسائله، وينظر مَن وافَق، ومَن خالَف، وأدلة الموافِق والمخالِف، وإذا تأهَّل للاجتهاد؛ فهذا فرضه.
وعلى كل حال الكلُّ فيه خير، لكن مسألة معالجة القضيَّة تحتاج إلى إعادة نظر، ومع ذلك نتعامل مع الآخرين برفق، ولِين، وحسن استقبال، وعَرْضٍ طيِّع، يعني: بأسلوب يقبله الخصم، ونُنزِّل الناس منازلهم، ونخاطب المبتدئ بما يناسبه، ونخاطب المنتهي بما يناسبه، ونخاطب الشيوخ الكبار -ولو حصل منهم ما حصل- بما يليق بهم وبمقاماتهم، فلكلِّ إنسان ما يناسبه من الخطاب.