كتاب الجامع من المحرر في الحديث - 02
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،
في كتاب الجامع من المحرر لابن عبد الهادي –رحمه الله تعالى- الذي بدأنا بشرحه قبل أسبوعين، وانتهينا من شرح الحديث الأول حديث «إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ»، وبدأنا بشرح الحديث الثاني وهو حديث عائشة –رضي الله عنها-: «من أحدث فِي أمرنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رد»، وقلنا: إن هذا الحديث أصل من أصول الشريعة في هدم البدع والمحدثات، وكل ما يُتعبَّد به ويُتقرَّب إلى الله به –جلَّ وعلا- مما لم يسبق له شرعية من الكتاب ولا من السُّنَّة، إضافةً إلى قوله –عليه الصلاة والسلام-: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ».
فعرفنا أن من أهل العلم من قسَّم البدع إلى بدع محمودة، وبدع مذمومة، ومنهم من قسَّمها إلى خمسة أقسام، فقال: هناك البدع الواجبة، وهناك البدع المستحبة، والمباحة، والمكروهة، والمحرَّمة، فكيف يُقال بأن هناك بدعًا واجبة أو مستحبة أو محمودة، والرسول –صلى الله عليه وسلم- يقول: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ»، «من أحدث فِي أمرنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رد» أي مردودٌ عليه «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً ليسَ عليه أمرُنا هذا فهو رَدٌّ»؟
ذكرنا أن من استروح إلى مثل هذا التقسيم استدل بمثل حديث «مَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً حَسنةً فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَن عَمِلَ بهَا إلى يوم القيامة، وَمَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، فعليه وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَن عَمِلَ بهَا إلى يوم القيامة»، لا شك أن من سنَّ في الإسلام سًنَّةً سيئة هذا أحدث في الإسلام ما ليس منه؛ لأنه ليس في الإسلام شيءٌ سيئ، وأما من سنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنة فلا يعني أنه أحدث وأوجد ما لم يسبق له شرعية في الكتاب والسُّنَّة، وإنما أحيا شيئًا له شرعية في الكتاب والسُّنَّة، وشهره بين الناس وعمل الناس به اقتداءً به.
ذكرنا أن الحديث ورد على سبب، وهو أن النبي –عليه الصلاة والسلام- لما حثَّ على الصدقة، فجاء رجلٌ بصدقته، وسبق الناس إلى التصدق بمالٍ وفير، قال النبي –عليه الصلاة والسلام-: «مَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً حَسنةً فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَن عَمِلَ بهَا إلى يوم القيامة»، فالحث على الصدقة موجود، وفضل الصدقة ثابت بنصوص الكتاب والسُّنَّة فلا يُقال: إنها بدعة، لكن هذا الشخص الذي أحياها حتى اقتدى به الناس، ومعلومٌ أن الناس يقتدي بعضهم ببعض، ويتابع بعضهم بعضًا، ويُقلِّد بعضهم بعضًا، وإن كان الأصل في هذا الأمر أنه مشروع، لكن بعضهم يُشجِّع بعضًا، مثل هذا الرجل الذي جاء بصدقته، وسبق الناس إلى التصدق بهذا المال، قلَّده الناس وتابعوه وتصدقوا، فله مثل أجورهم، وقُل مثل هذا في عمل العالم في حُكمٍ شرعيٍّ له أصل في الكتاب والسُّنَّة يُظهره ويشهره بين لناس؛ ليُقتدى به، وقد يكون المفضول بهذه النية الصالحة فاضلًا.
صلاة الرجل في بيته أفضل إلا المكتوبة، لكن لو أن عالمًا من العلماء اعتمد هذا، وهو الأصل في أهل العلم أنهم يصلون في بيوتهم؛ لأنها أفضل إلا المكتوبة، ثم رأى عامة الناس من لا يأتي إلى الصلاة إلا مع الإقامة، وإذا سلَّم خرج، ولا يدري ماذا يصنع ويفعله العالم في بيته، ويظنون أن العالم لا يفعل شيئًا غير الفريضة، فأراد العالم أن يُنبههم إلى أن هناك نوافل قبل الصلوات وبعدها، وأن هناك أذكارًا، وأن هناك رباطًا، ملازمة للمسجد، انتظار الصلاة بعد الصلاةـ، لا مانع أن يُظهِر مثل هذا؛ ليُقتدى به فيكون له أجره وأجر من عمل به، فضل الله واسع، لكن لا يعني أن هذا يأتي بصلاة ذات صفة خاصة لم يرد بها شرع، ويريد أن يقتدي الناس به، نقول: هذا مبتدع عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لكن إذا عمل شيئًا مشروعًا له أصل في الكتاب والسُّنَّة ونيته أن يقتدي به الناس فهذا له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.
بعضهم يستدل بقول عمر –رضي الله عنه- وهو في صحيح البخاري: "نِعمت البدعة هذه" يعني بها صلاة التراويح، وهذا لا شك أنه أشكل عند كثير "نِعمت البدعة"، نِعم: حرف مدح أو فعل مدح على خلافٍ بين أهل العلم هل حرف أو فعل، لكنه يُراد به المدح، بخلاف بئس التي يُراد بها الذم، "البدعة" كأنه يقول: أنا أمدح هذ البدعة، يعترف بأنها بدعة ، ويقول: "نِعمت"، فيمدحها.
أولًا: صلاة التراويح عُمِلت على مثالٍ سابق، وسبق لها شرعية من فعله –عليه الصلاة والسلام- فقد صلى النبي –عليه الصلاة والسلام- بأصحابه جماعة ليالي رمضان ليلتين أو ثلاث، ثم تركها وعدل عنها مُعللًا الترك بخشية أن تفرض عليهم، شرعيتها ثابتة من فعله –عليه الصلاة والسلام- في المسجد جماعة، تركها النبي –عليه الصلاة والسلام- رأفةً بأمته، لا نسخًا لها ولا عدولًا عنها، إنما رحمةً بأمته بحيث لو شُرِعت لو فُرِضت على الناس لشق عليهم فعلها، فتركها النبي –عليه الصلاة والسلام- رأفةً بأمته.
النبي –عليه الصلاة والسلام- قال: «عُمرَةٌ في رمَضَانَ تَعدِلُ حجة مَعِي»، هل اعتمر في رمضان –عليه الصلاة والسلام- ما اعتمر، لماذا؟
لو تضافر هذا القول مع فعله –عليه الصلاة والسلام- لتقاتل الناس على العمرة في رمضان، أنتم ترون وضع الناس الآن في رمضان، والنبي –عليه الصلاة والسلام- ما اعتمر، فكيف لو اعتمر في رمضان؟!
فالنبي –عليه الصلاة والسلام- يترك الأمر؛ خشية أن يُفرَض على أمته، فترك صلاة الليل جماعةً في المسجد، مع أنه يُصلي الليل في بيته، ما خرج إليهم في الليلة الثالثة أو الرابعة -على الخلاف في الروايات-؛ خشية أن تُفرَض عليهم وهو يصلي في بيته. معلوم النبي –عليه الصلاة والسلام- قيام الليل بالنسبة له شيءٌ عظيم شيءٌ، مهم جدًّا، جزء من حياته، قام –عليه الصلاة والسلام- حتى تفطَّرت قدماه، كان يُحيي الليل لا سيما في ليالي العشر من رمضان.
فمضى الأمر في بقية عهده –عليه الصلاة والسلام- وفي عهد أبي بكر؛ لأن مدته لم تطل سنتين، وصدر من خلافة عمر، فألهم الله –جلَّ وعلا- عمر –رضي الله عنه- بعد أن عرف أن السبب الذي من أجله تُرِكت صلاة التراويح سأل ما يُمكن أن تُفرَض عليهم بعد وفاته –عليه الصلاة والسلام- فانتفت المفسدة التي خشيها النبي –عليه الصلاة والسلام- وتمحضت المصلحة، فجمعهم على أُبي، وصار يصلي بهم صلاة قيام الليل في رمضان جماعة، فصلاة التراويح لها شرعية من فعله –عليه الصلاة والسلام- وعُمِلت على مثالٍ سبق، وعلى هذا فليست ببدعة لا لغوية ولا شرعية.
عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- يقول: "نِعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل منها" يعني صلاة آخر الليل؛ لأن التراويح صلاة أول الليل.
"نِعمت البدعة" هذا مدح لها، وتسميتها بدعة مع أنها ليست ببدعة لغوية؛ لأنها عُمِلت على مثالٍ سابق، وليست ببدعةٍ شرعية من باب أولى؛ لأن الذي فعلها على مثالٍ سبق هو النبي –عليه الصلاة والسلام- الأسوة والقدوة.
بعض العلماء من الشراح أساء الأدب مع عمر –رضي الله تعالى عنه- فقال: والبدعة مذمومةٌ ولو كانت من عمر، عمر الخليفة الراشد النبي –عليه الصلاة والسلام- يقول: «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي: أَبُي بَكْرٍ، وَعُمَرُ» «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ من بعدي» فيقول: البدعة مذمومةٌ ولو كانت من عمر؟ لا شك أن هذا سوء أدب.
طيب إذا لم تكن بدعة لغوية ولا شرعية وهو يقول: "نِعمت البدعة" ماذا تكون أجل؟ نعم من أهل العلم من قال: إنها بدعة لغوية، وإلى هذا مال شيخ الإسلام –رحمه الله- شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هي بدعةٌ لغوية، لكن عرفنا أنها ليست بدعة لغوية؛ لأن التعريف تعريف البدعة اللغوية لا ينطبق عليها، وهى ما عُمِل على غير مثالٍ سابق هي عُمِلت على مثالٍ سابق.
الشاطبي يقول: مجاز، ما معنى مجاز؟
يعني أنه لفظٌ استُعمِل في غير ما وُضِع له، والذي يقول بوجود المجاز سواءً كان في لغة العرب أو في النصوص هذا ما عنده إشكال أن يقول: مجاز، لكن الذي لا يرى المجاز كيف يتصرف؟ كيف يتصرف الذي لا يرى المجاز؟ هناك أسلوب في البديع مُستعمَل في اللغة وفي النصوص أيضًا اسمه المشاكلة والمجانسة في التعبير، وأن يؤتى بلفظ هو غير مراد في الأصل، لكن من باب المشاكلة والمسايرة والمجانسة في التعبير سواءً كان المجانَس حقيقيًّا أو تقريريًّا، سواءً كان حقيقةً أو تقريرًا، يعني كأن قائلًا لعمر: ابتدعت يا عمر، أنت جمعت الناس، ما فعله أبو بكر ولا النبي –عليه الصلاة والسلام- في آخر وقته، قال: "نِعمت البدعة"، كأنه قال: ابتدعت يا عمر، وهذا ثابت ولو تقديرًا ما يلزم أن يكون ثابتًا لفظًا، وكأن عمر خشي أن يُقال له: ابتدعت، فبادر، فقال: "نِعمت البدعة"، والمشاكلة والمجانسة في التعبير معروفة في لغة العرب، وفي النصوص.
قالوا اقْتَرِحْ شيئاً نُجِدْ لك طَبْخَ |
|
قلت: اطْبُخُوا لي جُبَّةً وقميصًا |
الجُبة والقميص تُطبخ؟!
لكن من باب المشاكلة في التعبير والمجانسة {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] السيئة الجناية جزاؤها سيئة مثلها، معاقبة الجاني سيئة؟ لكنها مشاكلة ومجانسة، والمشاكلة واردة في لغة العرب وفي النصوص.
فلا مستدل ولا مستمسك لمن يقول بالبدع بقول عمر –رضي الله عنه وأرضاه- توسع الناس في البدع توسُّعًا ضاهوا بها الشرعية، وزاحموا بها العبادات المشروعة الثابتة، وانشغل بها كثيرٌ من المسلمين، وضيعوا كثيرًا مما أوجب الله عليهم بسببها، والنفوس تشرئب إلى مثل هذه المُحدثات، ووراءها النفس والشيطان، ففي كثيرٍ من بلدان المسلمين تجدهم ينشغلون بأمور لا أصل لها في الشرع، وتقضي على أوقاتهم وجهودهم، ويتعبون وراءها وهي خفيفةٌ على نفوسهم ومُحببة إليهم، بينما ما ثبت بالكتاب والسُّنَّة، وفيما ثبت في كتاب الله وصحَّ عن نبيه –عليه الصلاة والسلام- غُنية عن كل ما يُتعبَّد به مما لا أصل له، نحن ما علينا قاصر، يعني لو أراد الإنسان أن يشغل عمره بطاعة الله –جلَّ وعلا- واشتغل بما صح مما يُقرِّب إلى الله –جلَّ وعلا-، وثبت عن رسوله –عليه الصلاة والسلام- لوجد ما يُغنيه عن هذه الأمور، لكن النفوس مجبولة على الإغراب، وتجد النفس تنساق لمثل هذه الأمور؛ لأن الشيطان خلى بينهم وبينها، معروف أن الجنة حُفَّت بالمكاره، وما يُتقرَّب به إلى الله –جلَّ وعلا- موصِل إلى جناته، فحُفَّت بالمكاره، فتجد الشيطان يحول بينك وبينها، ويثقِّلها على نفسك تثقل عليك، لكن تخلى الشيطان؛ لأن هذا لن تؤجر عليه، بل قد تأثم به، فيدفعك الشيطان، ويُزينه لك؛ حتى تنشغل به عمَّا أوجب الله عليك.
قد يقول قائل: لماذا يترك الناس ما ثبت بالكتاب والسُّنَّة، وينشغلون بأمور لا أصل لها قد تكون فيها أحاديث وأخبار موضوعة، ويتشبثون بها، ويشغلون أوقاتهم بها، ويتركون ما صح عن النبي- عليه الصلاة والسلام-؟ لأنه ما صح عنه لا شك أن فيه ثِقلًا على النفس؛ لأن الجنة حُفَّت بالمكاره، وما لم يثبت عنه –عليه الصلاة والسلام- من البدع والمحدثات التي تُبعِد عن الله– جلَّ وعلا- وعن مراده وما يُرضيه هذه يُحسِّنها الشيطان.
بعد هذا الحديث الثالث حديث النعمان بن بشير قال: سَمِعت رَسُول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُول: «الْحَلَال بيِّن وَالْحَرَام بيِّن».
النعمان بن بشير من صغار الصحابة، عمره لما توفي النبي– عليه الصلاة والسلام- ثماني سنوات، احتمال أن يُقال: هذا من مراسيل الصحابة، أكثر مرويات ابن عباس رواها عن النبي –عليه الصلاة والسلام- بواسطة صحابيٍّ آخر، كثير من مرويات صغار الصحابة هي مروية بوسائط، ابن عباس سمع من النبي –عليه الصلاة والسلام- مما جمعه ابن حجر مما صُرِّح فيه بالتحديث أكثر من أربعين حديثًا، لكن أكثرها مثل مرويات عبد الله بن الزبير، ومرويات صغار الصحابة، عائشة –رضي الله عنها- بواسطة.
الصغار بواسطة يُسمونها مراسيل الصحابة، وهي حُجةٌ بإجماع أهل العلم، ولها حكم الوصل.
أمَّا الَّذِي أرْسَلَهُ الصَّحَابِيْ |
|
فَحُكمُهُ الوَصْلُ عَلى الصَّوَابِ |
هذا الحديث النعمان بن بشير لما تُوفي النبي –عليه الصلاة والسلام- عمره ثماني سنوات، احتمال أن يكون النعمان سمعه من النبي –عليه الصلاة والسلام- في آخر الأمر، احتمال أن يكون سمعه قبل وفاته بسنة أو سنتين، لكنه يقول: "سَمِعت رَسُول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُول" فالمجزوم به أنه أخذه منه –عليه الصلاة والسلام- مباشرة، وبهذا يُقرر أهل العلم صحة سماع الصغير.
ويستدلون أيضًا على صحة سماعه بما رواه البخاري من حديث محمود بن الربيع أنه عقل المجة التي مجها النبي –عليه الصلاة والسلام- في وجهه من دلوٍ وهو ابن خمس سنين، فلا شك أن ابن خمس سنين قد يكون مميزًا يعقل، يفهم السؤال، ويرد الجواب، ويحفظ ما يحصل له أو ما يسمع كالنعمان بن بشير ومحمود بن الربيع.
قال: "سَمِعت رَسُول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُول: «الْحَلَال بيِّن والْحَرَام بيِّن، وَبَينهمَا أُمُور مُشْتَبهَات»" أو متشابهات أو مشبَّهات، «فَمَنِ اتَّقَى الشُّبهات» أو المشبَّهات أو المتشابهات «اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ، وَمن وَقع فِي الشُّبُهَات وَقع فِي الْحَرَام، كَالرَّاعِي يرْعَى حول الْحمى، أَلا وَإِن حمى الله مَحَارمه، أَلا وَإِن فِي الْجَسَد مُضْغَة إِذا صلحت صلح الْجَسَد كُله، وَإِذا فَسدتْ فسد الْجَسَد كُله، أَلا وَهِي الْقلب».
الحلال بيِّن واضح ظاهر لا اشتباه فيه، والحرام كذلك بيِّن، الذي عليه دليل ظاهر في ثبوته وفي دلالته من الأمور الظاهرة هذا معروف عند العامة وعند الخاصة، عند العلماء وعند عامة الناس، وكذلك الحرام.
المُجمع على حِله هذا يعرفه كل أحد من المسلمين، والمُجمع على تحريمه هذا يعرفه كل أحد، هذا لا يشتبه فيه أحد، ويقرب من هذا ما وضحت دلاته بحيث لا تلتبس ولا تخفى إما من قبيل الحرام أو من قبيل الحلال، ثم يدنو بعضهما من بعض حتى يحصل الاشتباه، فيلتبس على بعض الناس حتى من الخاصة من أهل العلم، هل يكون هذا من قبيل الحلال أو من قبيل الحرام؟
الآن أنت عندك لون أبيض خالص، ولون أسود خالص، ثم بعد ذلك هذا البياض وهذا السواد يتضاءل شيئًا فشيئًا إلى أن يلتقيا في لونٍ واحد، الذي هو البرزخ بينهما، وهو الحلال، لكن ما قرب من السواد، وما قرب من البياض يعني شيئًا فشيئًا يحصل فيه التباس، هل يُلحَق بهذا أو يُلحَق بهذا؟ هذا هو محل الاشتباه.
وسبب الاشتباه تعارض الأدلة عند أهل العلم ووجود الخلاف عند العامة، العالم يحصل له الاشتباه، ولا يحصل له تمييز هذا من هذا، إذا تعارضت عنده الأدلة من غير مرجِّح، والعامي إذا رأى العلماء، أحدهم يُفتي بكذا، وأحدهم يُفتي بكذا حصل عنده الاشتباه، لكن ما المطلوب في هذه الحالة سواءً كان من عالم اشتبهت عليه الأدلة ولم يستطع الترجيح أو من عامي اختلفت عنده الأقوال؟
معلومٌ أن فرض العامي تقليد أهل العلم، لكن إذا اختلفوا من يُقلِّد لا شك أن عليه أن يُقلِّد الأوثق في دينه وعلمه وورعه حسب استطاعته لا يُكلَّف أن ينظر إلى أهل العلم ويُميز بينهم بالمقاييس العلمية ما يستطيع على هذا، لو استطاع أن يُميز بين أهل العلم بهذه المقاييس لكُلِّف النظر في النصوص، والمسألة مفترضة في عامي لا يُحسن التعامل مع النصوص، لكن إذا اشتهر واستفاض عند الناس أن هذا من أهل العلم، وأفتاه بشيء لزمه قبول قوله، إذا اشتبه عنده بأن يُوجد أكثر من عالم يفتون بأقوالٍ متضاربة، وكلهم ثقات عنده، وما استطاع أن يُميز بينهم عليه أن يقف، والفرض في مثل هذه الحالة التوقف سواءً كان بالنسبة للعامي الذي لم يظهر له رُجحان أحد القولين أمِن الحلال أم من الحرام، فإنه حينئذٍ يلزمه أن يتوقف، ولا يقول برأيه؛ لأنه يحتاج إلى مرجِّح ولا مرجِّح.
وإذا كان المتوقَّف فيه المشتبه فيه دائرٌ بين الحِل والحرمة، فمن اتقى الشبهات اتقى الحرام، هل أنت مضطر لهذا الأمر؟ تنظر في هذا الشيء هذا اللحم هل هو حلال أم حرام؟
الورع أن تترك اللهم إلا إذا اضطُررت، فأنت يُباح لك أن تأكل المُجمع على تحريمه وهو الميتة، لكن ما دمت في سعة «مَنِ اتَّقَى الشُّبهات فقد اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ، وَمن وَقع فِي الشُّبُهَات وَقع فِي الْحَرَام» لا محالة؛ لأن من يُكثِر من المباحات الذي يُكثِر من المباحات تدعوه نفسه وتنازعه إلى مزاولة ومباشرة ما فيه شُبهة، وتناول المكروه؛ لأن النفس إذا رُبيِّت على شيء وجرت عليه يصعب عليها أن تُفارقه، فإذا ما وجد المباح استشرفت نفسه، واشرأبت إلى ما يُجانسه مما يقرب منه مما هو مكروهٌ أو خلاف الأولى أو فيه شُبهة، ويتأول لنفسه يقول: هذا ما هو بحرام، ما وقعنا في الحرام؛ ولذا أُثِر عن بعض السلف أنهم يكرهون أو يتركون تسعة أعشار الحلال؛ خشية أن يقعوا في الحرام، والمسألة مسألة بُلغة، «كُنْ في الدُّنْيا كأَنَّكَ غريبٌ»، يعني خُذ منها ما يكفيك، ولا تُحرج نفسك بأكل شيء ما تدري ما أصله، فإذا اشتبه عليك الأمر وأنت لست مضطرًا له ولا محتاجًا إليه حاجة ماسة تتضرر بتركه فالحمد لله اتركه.
«فقد اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ» استبرأ لدينه معلوم، يعني عمِل بالعزيمة، وحرص على براءة دينه؛ لئلا يقع في المحظور، فيحصل هناك خدشٌ في دينه، يحصل فيه خدش إذا وقع في المحظور.
«اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ» عِرضه لماذا؟
لأن الناس يرونه يتناول هذه الشبهات.
طالب: ..............
في شيء؟
طالب: ..............
الصوت؟
الناس إذا رأوه يتناول هذه الشبهات لا شك أنهم يقعون فيه، ويتكلمون فيه، ويقعون في عِرضه، لكن إذا ترك هذه كلها ترك الشبهات فسلِم له دينه، وسلِم له عِرضه.
سلامة الدين مطلوبة بلا شك، لكن سلامة العِرض هل يلتفت الإنسان لكلام الناس ويؤثر عليه هذا، أو أنه لا يلتفت إلى كلام أحد يتناول المباح ولا عليه من أحد؟
نعم عليه أن ينظر إلى كلام الناس، سلامةً له وصيانةً لهم؛ لأنهم إذا وقعوا في عرضه أثِموا، وجاء في الخبر: "رحِم الله امرأً كف الغِيبة عن نفسه"، ولذا يُقرر أهل العلم في العدالة أنها مَلكة تحمل على ملازمة التقوى والمروءة، يعني كونك تأكل طعامًا محرَّمًا أو شرابًا محرَّمًا قادحًا في التقوى، لكن كونك تأكل طعامًا مباحًا، وتشرب شرابًا مباحًا في مكانٍ لا يليق بك، لا يليق بك أن تأكل في هذا المكان، هذا مما يقدح في العدالة، وسببه ومرده كلام الناس، لا يعني هذا أن يكون الباعث والحامل في ترك هذا الأمر وهو كلام الناس وتأثير كلام الناس، لا، لكن لا شك أن لكلام الناس أثرًا، والناس شهداء الله في أرضه، لما مُرَّ بالجنازة فأثنوا عليها خيرًا، قال النبي –عليه الصلاة والسلام-: «وجبت»، ومُرَّ بجنازةٍ أخرى فأثنوا عليها شرًّا، قال النبي –عليه الصلاة والسلام-: «وجبت، وجبت، وجبت» ثلاث مرات، فقيل له: مُرَّ بالجنازة الأولى فأُثني عليها خيرًا فقلت: «وجبت» ما وجبت؟ قال: «وجبت له الجنة، والثانية أثنيتم عليها شرًّا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في أرضه».
لا يكون الناهز على فعل الخير أو الباعث على ترك المحرَّم هو ملاحظة الناس، خشية الله وتقوى الله هو الأصل، لكن مع ذلك مراعاة الناس وكف ألسنة الناس، واغتياب الناس لك، وتناولهم عِرضك، وتأثيمهم بذلك لا شك أنه مراعًى شرعًا.
«فقد اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ».
قد يقول قائل: إن الاستبراء للدين مطلوبٌ شرعًا، طلب البراءة للدين مطلوبٌ شرعًا، وطلب البراءة للعِرض من باب أنه يقع بمجرد هذ الاستبراء، يعني بمجرد إخبار لا من باب الطلب، قال بهذا بعض أهل العلم، لكن لا شك أن ملاحظة الناس إذا لم تكن هي الباعث على العمل، يعني لا أثر لها في أصل العمل، ولا أثر له في أصل الترك، لا مانع من ملاحظتها بعد ذلك.
يعني شخص أنعم الله عليه، ويخرج بثياب يتكلم الناس فيه بسببها؟ هذا لائق بمسلم أن يكون مسخرة للناس؟ الثوب طاهر ما فيه نجاسة ولا فيه شيء، وساتر العورة، ولا فيه شيء، لكن مع ذلك عليه أن يُلاحظ ويُراعي أعراف الناس. «وَمَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ثوب شهرة، يعني ينفرد به عن الناس، يعني الناس ما اعتادوا أن يلبسوا هذا اللباس، هو ساتر وفضفاض وطاهر ونظيف، ما فيه شيء، لكن ما تعوَّد الناس صار ثوب شهرة، وهذا من هذا الباب.
«وَمن وَقع فِي الشُّبُهَات وَقع فِي الْحَرَام»؛ لأنها يجر بعضها بعضًا، أنت إذا طلبت ما تُريده من أبواب الحلال ما وجدت تعودت وعوَّدت نفسك وجرت عليه، ثم وجدته بواسطة عقدٍ فيه شيء من الالتواء، وأجازه فلان وفلان وفلان من العلماء، ومنعه آخرون معروفون بالتحري والتثبت، وأجازه أكثر الأئمة ولا فيه حرام، والمسألة خلافية بين مكروه وبين حلال، الأمر سهل يعني، تجاوز هل المسألة خلاف الأولى؟ نرتكب خلاف الأولى، ثم بعد ذلك تتجاوز هذا إلى المكروه، ثم بعد ذلك تلتفت يمينًا، شمالًا تُريد لو مكروه ما تجده، ونفسك تُلح عليك في مثل هذا لأمر؛ لأنك عوَّدتها.
وَالـنَفسُ راغِـبِةٌ إِذا رَغَّـبتَها |
|
وإِذا تُـرَدُّ إِلـى قَـليلٍ تَقنَعُ |
والنفسُ كالطفلِ إن تهملهُ شَبَّ على |
|
حُبِّ الرَّضاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِم |
نعم النفس لا شك أنها تدعوك إلى ما عوَّدتها عليه، والأجسام على ما اعتادت.
المقصود أن «من اتَّقَى الشُّبُهَات اسْتَبْرَأَ لدينِهِ وَعرضه، وَمن وَقع فِي الشُّبُهَات وَقع فِي الْحَرَام، كَالرَّاعِي يرْعَى حول الْحمى يُوشك أَن يقع فِيهِ، أَلا وَإِن لكل ملكٍ حمى» الملوك من القِدم لهم مواشٍ، لهم إبل، وبقر، وغنم، ومعلومٌ أن بهيمة الأنعام قوتها وعيشها مما ينبت من الأرض، فإذا نزل المطر، وأنبت العُشب رعت بهيمة الأنعم، فالملوك باعتبارهم مُتنفِّذون ينظرون إلى أفضل مكان في الأرض ويضعون عليه سياجًا، ويمنعون مواشي غيرهم من الدخول فيها، وقد يتعرض من يتجاوز ويدخل العقوبة، هذا موجود في القديم والحديث، لكن أنت ترعى على الحد، حد هذا الحمى، ترعى على الحد، واحدة من إبلك أو من أغنامك التفتت يسيرًا إلى جهة الشمال ورأت شيئًا خصبًا ودخلت وأكلت هي تُنازعها نفسها، وأنت تُنازعك نفسك بعد أن تأكل غنمك من هذا الكلام المُعشِب، وتلتفت يمينًا وشمالًا ما حولك أحد تدخل، «يُوشك أَن يرتع فِيهِ»، «يرْعَى حول الْحمى يُوشك أَن يرتع فِيهِ»، لا بُد أن يُوضَع سياج يحول بين الإنسان وبين ما يحرم عليه.
انظروا إلى من تساهلوا في كثيرٍ من الأمور أو في بعض الأمور شيئًا فشيئًا إلى أن وصل الحد بهم إلى شيءٍ لا يقبله عقل ممن ينتسب إلى العلم من القديم تجده كلما ابتعد عن النصوص عن الوحيين ابتُلي بأمور يعتمد فيها على عقله، فيقع في الضلال شيئًا فشيئًا إلى أن ينسلخ وهو لا يشعر؛ لأن العلم قال الله وقال رسوله.
يعني في كلام رؤوس المبتدعة رؤوس المبتدعة تجد أول الأمر الخلاف في مسألة يسيرة، ثم يتعصب لها، ويُناظر فيها، وتُورِد عليه النصوص، ويتأول هذه النصوص، تُورَد عليه إلزامات فيلتزم بهذه الإلزامات، كله من باب الانتصار للرأي، وهي عقوبة من الله –جلَّ وعلا- لحيده وميله عن الصراط عن الكتاب والسُّنَّة، فيُعاقب بما هو أشد من ذلك، حتى يجد نفسه في موقف لا يتصور في يوم من الأيام أنه يصل إلى هذا الموقف، من يتصور أن شخص مسلم يقول: لا إله إلا الله، يقول في سجوده في يوم من الأيام: سبحان ربي الأسفل؟! هل أحد يتصور هذا؟ لكنها عقوبات رقّق بعضها بعضًا إلى أن وصل هذا الحد، فأنت من البداية ضع لنفسك سياجًا يمنعك من الانحدار وأنت لا تشعر، لا بُد للمسلم أن يحتاط لنفسه، ولا ينساق وراء كل شيء.
الآن كثيرٌ من طلبة العلم –مع الأسف- يعني مصادر التلقي عندهم بدلًا من أن تكون الكتاب والسُّنَّة، قنوات ووسائل إعلام وتحليلات، وما أشبه ذلك، وتجده يقتنع بما يُقال وعنده نصوص الوحيين، لكنه ابتعد عنها؛ فابتُلي بما قال، وما نُقِل عنه، وإذا قيل: فلان قال فلان، تعجب كيف قال فلان كذا؟! كيف قال فلان مثل هذا القول؟!
بنو إسرائيل ما الذي حصل لهم؟ ضُرِبت عليهم الذلة والمسكنة، لماذا؟
طالب: .............
البداية {بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة:61]، لكن بعد ذلك؟ كفروا، وقتلوا الأنبياء، {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} [البقرة:61]، والبداية معصية، فالمعصية جرَّت إلى ما هو أشد منها.
فعلى الإنسان أن يهتم لنفسه، ويضع لنفسه سياجًا بحيث لا يدنو من هذا الحمى الذي هو حمى الله –جلَّ وعلا- وهي محارمه.
«كَالرَّاعِي يرْعَى حول الْحمى يُوشك أَن يرتع فِيهِ، أَلا وَإِن لكل ملك حمى»، وهذا من القديم مثلما ذكرنا الملوك يحمون لإبلهم ومواشيهم جهات تكون أكثر خصبة من غيرها، ويُعاقبون من يَرد إليها، النبي –عليه الصلاة والسلام- حمى، وأبو بكر حمى، وعمر حمى، لكنهم حموا لإبل الصدقة ما حموا لإبلهم الخاصة، وليس في الحديث ما يدل على جواز تخصيص الإنسان نفسه بشيء بحيث يمنع عنه غيره مما أباحه الله لجميع الناس، هذا لا يعني الجواز، يعني حكاية واقع، وهذا لا يعني الجواز، كون الملوك يحمون ويطردون الناس ويؤذونهم، وقد يعذبونهم، وقد يحصل لهم ما هو أعظم من ذلك لا يعني أن هذا يجوز، الأصل أن من سبق إلى مباح فهو أحق به، فهذا لا يعني الجواز، إنما هو حكاية واقع.
وكون النبي –عليه الصلاة والسلام- حمى النقير وحمى... يعني لإبل الصدقة ما حمى لإبله- عليه الصلاة والسلام-.
«أَلا وَإِن لكل ملك حمى، أَلا وَإِن حمى الله مَحَارمه» حمى الله محارمه، الآن المحرمات حُرِّمت أصالةً، وحُرِّمت وسائلها تبعًا لها، فالنظر إلى المحرَّم حلال أم حرام؟ النظر إلى امرأة أجنبية ينظر إلى محاسنها أو إلى صبي حرام، لماذا؟ لأنه يسوق إلى ما هو أعظم منه، فهو سياج يمنع من الوقوع في الفاحشة، وكذلك شُرب القليل من المُسكِر أو ما فيه اشتباه، وشرب النبيذ؛ حمايةً لئلا يقع الإنسان في شُرب المحرَّم المُجمَع على تحريمه، وقُل مثل هذا في كثير من الأمور.
سد الذرائع الموصِلة للشرك كلها من هذا الباب، حماية جناب التوحيد من هذا الباب، وقل مثل هذا في كل شيء.
طيب الصلاة المفروض خمس صلوات، طيب لماذا نصلي قبل الصلاة المفروضة وبعدها؟ حمايةً لهذه الفريضة؛ لأنه إذا وُجِد فيها خلل وفيها تقصير «انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ».
والإنسان إذا حرص على النوافل فهو على الفرائض أحرص، وإذا فرَّط في النوافل كاد أن يُفرِّط في الفرائض؛ لأنه لا يجد ما يُعينه على هذه الفرائض، وليس عنده سياج يمنع من الخلل فيها لا قبلها ولا بعدها، لكن إذا وُجِد في النوافل القبلية تهيأ القلب لاستقبال هذه الفريضة العظيمة، وإذا وُجِدت النافلة البعدية رقَّعت ما وُجِد من خلل في هذه الفريضة، فعندك سياج قبلها وبعدها، فتجد الأصل الذي هو المفروضة محفوظ، يعني قد يقع فيه خلل، قد يغفل الإنسان، قد يسهو، لكن يُرقَّع من هذه النوافل «انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ».
«أَلا وَإِن حمى الله مَحَارمه» المحرمات هي حمى الله.
«فلا تقربوها» يعني النهي عن قُربانها يعني القُرب حولها، لا تقرب من هذا الحمى ابتعد عنه؛ لئلا تقع فيه.
شخص يقول أو جهة تقول: يدرس الولد المكلَّف الكبير مع البنت المكلَّفة بكامل الزينة، يقول: لا أبدًا، هذا شيء وهذا شيء، هذا يُعقَل؟ لا يُعقَل هذا أن يُوجد النار مع الوقود، وما يمكن أن يشتعل، لا بُد أن يشتعل.
فالمقصود أن مثل هذه الأمور على المسلم أن يحتاط لها، ويهتم بها، ورأينا تتابع كثير من طلاب العلم على أمورٍ ما كنا نتوقع أن تصدر منهم، لماذا؟
لأنهم تساهلوا في هذا الأمر، فعلى طالب العلم وعلى المسلم عمومًا خصوصًا طالب العلم الذي ينظر في النصوص، ولديه أهلية، هذا يختلف وضعه عن عامي يُقلِّد عالمًا، وتبرأ ذمته بتقليده، لا، طالب العلم عليه أن ينظر، عليه أن يصل إلى النتائج بنفسه، وعليه أن يحتاط لنفسه لا يجد نفسه في يوم من الأيام في موقفٍ محرج لا يجدون عنه جوابًا.
«أَلا وَإِن حمى الله مَحَارمه» ألا وهي في هذه المواضع للتنبيه «أَلا وَإِن فِي الْجَسَد مُضْغَة»، يعني قطعة من بدنه بقدر ما يمضغه بقدر اللقمة التي يمضغها الإنسان قطعة صغيرة.
«أَلا وَإِن فِي الْجَسَد مُضْغَة» يعني بقدر المضغة «إِذا صلحت» هذه المضغة «صلح الْجَسَد كُله، وَإِذا فَسدتْ فسد الْجَسَد كُله، أَلا وَهِي الْقلب»، هذه المضغة الموجودة في جسد الإنسان هي القلب إذا صلحت صلح الجسد كله؛ لأنها بمنزلة الملك لسائر الأعضاء، فهي التي تُصدر الأوامر، وهي التي تُصدر التوجيهات الصالحة إذا صلحت، والفاسدة إذا فسدت، والجوارح تأتمر بهذه الأوامر سواءً كانت صالحة أو فاسدة، والقلب اتجهت إليه جميع النصوص نصوص الكتاب والسُّنَّة، والعقل هو مناط التكليف، يعني لو قيل: اذكر شروط الصلاة: الإسلام، والعقل، والتمييز، هذه قبل كل شيء، وهي شروط الصيام مثلًا، وشروط الحج أول الشروط: الإسلام والعقل والتمييز، العقل «رُفِع القَلمُ عن ثلاثةٍ، وَالمجنونِ حتَّى يُفيق»، فالعقل مناط التكليف، ولا يُكلَّف غير عاقل بالأحكام التكليفية، أما بالأحكام الوضعية التي هي من باب ربط الأسباب بمسبباتها فيُكلَّف مثل غيره، مثل الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون؛ لأنها من باب الأحكام الوضعية، لا من باب الأحكام التكليفية.
إذا كان مناط التكليف هو العقل، ونصوص الشرع كلها تتجه أو متجهة إلى القلب، فما علاقة العقل بالقلب؟ {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179] إذًا فيه ارتباط وثيق بين القلب والعقل، فأهل العلم يقولون: إن العقل محله القلب؛ لما ذكرنا من النصوص تواردت النصوص كلها تُخاطب القلب، والعقل هو مناط التكليف إذًا بينهما ارتباط، والآية صريحة في هذا {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179]، وهذا ظاهر بالنسبة للنصوص، ما فيه إشكال ولا خفاء، لكن الأطباء يوافقون أم ما يوافقون؟
وإن كان بعضهم بدأ يوافق الآن، وبدأ يقرب مما تدل عليه النصوص، لكن الأطباء من القِدم يقول: لا، العقل محله الدماغ، وليس القلب، بدليل أنه إذا تأثر الدماغ اختل العقل، وتكشف على القلب مائة بالمائة سليم ما فيه شيء، مائة بالمائة القلب سليم، والرجل مختل، العقل مجنون، وقد يتأثر القلب، ويمرض القلب، وتغيَّر شرايين وأوردة، ويعمل له أكثر من عملية، وهو من أعقل الناس وأذكاهم، وقد يُنقَل القلب من هذا إلى هذا كما يدَّعون -ما وقفنا على هذا، لكن يقولونه- وما يتأثر شيء، إذًا أين العقل على كلامهم؟ في الدماغ، وهذه القطعة الموجودة من اللحم هذه كغيرها مثل الرئة ومثل الكبد مجرد أنها تضخ الدم، ما لها علاقة بالشعور، ولا لها علاقة بكذا، يقولون هذا.
ماذا نفعل بالنصوص؟ «إِذا صلحت صلح الْجَسَد كُله، وَإِذا فَسدتْ فسد الْجَسَد كُله، أَلا وَهِي الْقلب»، هل يُمكن أن يُقال هذا في قطعة جماد لا قيمة لها؟ يُمكن أن يقال مثل هذا الكلام {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179]؟
لا ما يمكن، فمهما قيل فيما إذا تعارض شيء من الشرع مع النقل الصحيح فلا يُمكن أن نُسلِّم لا يمكن مهما قالوا.
يعني حينما يأتي في الحديث الصحيح أن الشمس في كل ليلة تسجد تحت العرش، وتستأذن هل تخرج من المغرب أم من المشرق؟ تستأذن كل ليلة، والناس بوسائلهم ينظرون الشمس في فلكها تدور ما راحت ولا جاءت، ما تعدت فلكها، هل نقول: الكلام ليس بصحيح؟
ما علينا منهم، ما يلزم أن تصل عقولنا إلى حدٍّ نفهم فيه محارات الشرع فيه أشياء مُحيرة في الشرع، لكن ما فيه مستحيلات، قد يصل إليها بعض الناس دون بعض، يعرفها بعض الناس وبعض أطباء القلب صاروا يقربون من النصوص، ويعترفون بشيءٍ من الإعجاز الوارد في الشرع، يذكرون أشياء مذهلة، لكن السطحيين يقولون هذا الكلام، يقولون: إذا أخذنا هذا القلب ركبناه في آخر ماذا يصير؟ إذا أخذنا قلب كافر أو قلب أفسق الناس، ووضعناه في صدر رجل صالح تتغير عبادته؟ يتغير صلاحه؟
الله –جلَّ وعلا- الحكيم، الخبير، العليم، القدير، علَّام الغيوب {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7]، ويعلم أشياء ما يمكن نطلع عليها بحالٍ من الأحوال.
وقدم الإسلام لا تثبت إلا على قنطرة التسليم، ما معنى الإسلام؟ الاستسلام، أن تستسلم لله –جلَّ وعلا-، ثبت عن الله وعن رسوله ما لأحدٍ كلام، ليس لأحدٍ كلام ما دام ثبت عن الله وعن رسوله.
هناك قول متوسط وهو مروي عن الإمام أحمد: أن العقل في القلب، وله اتصالٌ بالدماغ، كيف؟ الآن الكهرباء يمكن أن يشتغل بسلك واحد أو اثنين سالب وموجب؟ يكونون مثل هذا، ويكون الجانب الأقوى للقلب، لكن للدماغ أثر، ومن حيث المحسوس لا شك أن للدماغ أثرًا من حيث الحس، لكن من حيث النقل الصحيح، النصوص كلها موجَّهة إلى القلب، أدركنا ما أدركنا هذا لا يعنينا أن علينا أن نستسلم، ولا يمكن أن يرد شيء صحيح من جهة الشرع معارض للعقل الصريح، ليس بأي عقل، هناك عقول اجتالتها الشياطين، وهناك فِطر انحرفت عن مسارها فصارت تُخالف النصوص، هذه ما فيها إشكال، ليس الكلام معها، عقول صريحة باقية على فطرتها لا يُمكن أن يَرد في الشرع شيء ثابت يُعارض العقل الصريح، ولشيخ الإسلام كتاب مطوَّل جدًّا في الباب اسمه (موافقة العقل للنقل)، واسمه (درء تعارض العقل والنقل) موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول، وهو كتاب واحد.
واقرأ كتاب العقل والنقل الذي |
|
ما في الوجود له نظيرٌ ثاني |
كتاب عظيم، عظيم جدًّا لشيخ الإسلام ابن تيمية يحتاجه كل عالم، قد يقول طالب علم: لكن كثيرًا من طلبة العلم لا يُدركون كثيرًا مما فيه؛ لأن فيه صعوبة، فيه وعورة على طلاب العلم، لكن العلماء يحتاجونه.
واقرأ كتاب العقل والنقل الذي |
|
ما في الوجود له نظيرٌ ثاني |
وكذلك التأسيس أصبح نقضه |
|
أعجوبةً للعالم الرَّباني |
ومن العجيب أن بسلاحهُم |
|
أرَداهم نحو الحَضيض الدَاني |
ردّ عليهم بسلاحهم –رحمة الله عليه-، فلا يُمكن أن يرد نص صحيح مخالف للعقل الصريح، لكن إذا ورد تشك بالنقل أم تشك بالعقل؟ تشك بالعقل؛ لأنه محل مزلة القدم والضياع، ووُجِد من عقلاء العالم، من أذكياء العالم من رؤوس المبتدعة من ندم في النهاية، ندم وتمنى أن يموت على مثل عقائد عجائز نيسابو،ر أين عقولهم هؤلاء؟
أذكياء، عباقرة، ثم بعد ذلك لما مالوا عن النصوص، نعم إذا كان القائد لك النص من كتابٍ وسُنَّة فأبشر، سوف تصل في أقرب طريق الذي هو الصراط المستقيم، لكن إذا مِلت يمينًا وشمالًا وضللت في الصحاري والمفاوز، قد تصل بعد جهدٍ جهيد، وقد لا تصل.
كم بقي من الوقت؟
طالب: .............
خمس؟
طالب: ........
فيه سؤال أو شيء؟
طالب: ........
«إِذا صلحت صلح الْجَسَد كُله، وَإِذا فَسدتْ فسد الْجَسَد كُله»، فعلى المسلم أن يسعى في صلاح هذه المضغة. الآن القلوب تغيرت في كثير من الأحوال، وشردت، وتجد المسلم يدخل إلى المسجد، ويخرج كما دخل، لا يستفيد من صلاته، لماذا؟
لأن القلب غير حاضر، الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وإذا خرج من المسجد زاول ما يُزاول من المنكرات قبل صلاته، لماذا؟ لأن القلب غطى عليه الران؛ {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14].
هذا الران الذي غطى عليه لا بُد من معالجته وإزالته، الران قد يصل إلى الختم، ويصل إلى الطبع، ثم بعد ذلك يكون كالكوز مجخيًّا لا يعرف معروفًا، ولا يُنكر منكرًا، فعلى الإنسان أن يسعى في صلاح قلبه، تجد الإنسان يأتي إلى المسجد، أو يفتح المصحف ويقرأ، يفتح كتاب الله ويقرأ من كتابه، وقد يقرأه بترتيل وبصوتٍ طيب، لكن القلب ما هو موجود، فضلًا عن كونه يقرأه بسرعة على طريق الهذ، هذا في الغالب أنه ما يفقه، هذا في الغالب وإن وُجِد من الناس وعُرِف من بعض السلف أنه كان يهذ وحجره مليءٌ من دموعه، فأين قلوبنا؟
نحن ندخل المسجد ونخرج كأننا داخلون، ما تقدر أن تشبهه بشيء، نخرج كما دخلنا، لا فرق، أسقطنا الواجب ولا أحد يقول لنا: أعيدوا الصلاة، لكن ما الفائدة التي انتفعناها من هذه الصلاة؟ {تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] ماذا استفدنا والإنسان يومه مثل أمسه، وقد يكون أسوء من أمسه؟
فعلى الإنسان أن يسعى في صلاح هذه المضغة وصلاحها، بأي شيء؟
بمنع الفضول، الفضول هي الوسائل أو الموارد التي تَرد إلى هذا القلب، فيمنع هذه الفضول، ويحفظ قلبه، فضول الكلام القيل والقال، لا شك أن لها أثرًا في قسوة القلب، ولو كان مباحًا، فضلًا عن أن يكون محرَّمًا، فضول الأكل، فضول النظر، فضول السمع، فضول النوم الزيادة في النوم، الإنسان ما خُلِق للنوم، فضول الخُلطة، مخالطة الناس فيما لا ينفع لا شك أن لها أثرًا على القلب، فإذا حفظ الإنسان هذه الفضول، والزوائد عن قدر الحاجة فلا شك أنه يسعى في صلاح قلبه.
ولابن القيم كلام نفيسٌ جدًّا جدًّا، لا يُوجد لغيره في كتابه النافع الماتع (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي).
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد.