السائل يسأل عن الأحاديث المكررة بأسانيدها ومتونها، وابن حجر يقول: هي نحو عشرين، ولم يبيِّنها، نقلًا عمَّن اعتنى بها من بعض مَن لقيه ابن حجر، ولم يبيِّنها، لكنها مُبيَّنة في مقدمة (إرشاد الساري شرح صحيح البخاري) للقسطلاني، مذكورة في مواضعها، وبعضها مكرر مرتين، وبعضها مكرر ثلاثًا.
فلعله عدَّ المكررات بمواضعها وعدَّ الثلاثة كذا فرأى أنها أكثر، وإلا المسألة مضبوطة بالتحرير، والعلماء لا سيما ابن حجر له عناية بـ(صحيح البخاري) وعدِّ أحاديثِه في كل باب وفي كل كتاب، وقد حقَّق ودقَّق العِدَّة، وكانوا يقولون: إن (البخاري) سبعة آلاف وثلاثمائة وخمسون حديثًا، المكرر منها فوق ثلاثة ألوف، ويبقى منه أربعة آلاف، هذا تواطأ الناس على ذكره، وأثبته ابن الصلاح في مقدمته، والحافظ العراقي، وغيرهما من أهل العلم، لكن لما جاء ابن حجر وأخذ يعدُّ أحاديث كتب (صحيح البخاري) إذا انتهى من شرح كتاب عدَّ أحاديثه المرفوعة والموقوفة، الموصولة والمعلَّقة، وغير ذلك، ثم انتهى من الكتاب، متوصلًا إلى أن عدد الأحاديث: حديثان وخمسمائة وألفا حديث، يعني كم الفرق؟ الفرق ألف وخمسمائة بين عِدَّة ابن حجر وعِدَّة غيره.
وكان العلماء فيما سبق لا يعتنون بالدقة في هذه الأمور، قالوا عن (المسند): إنه يشتمل على أربعين ألف حديث، ولما جاءت العِدَّة الدقيقة وُجِد أقل من الثلاثين بقليل، فالفرق كبير: عشرة آلاف حديث.
وقالوا عن (مسلم): ثمانية آلاف حديث، وقال ابن سلمة: اثنا عشر ألف حديث، الفرق الكبير بين هذه الأعداد لا يرجع ولا يعود إلى سقوط أحاديث عند أحد ووجودها عند الآخرين، أو زيادة أو نقص، وإنما سببه عدم عنايتهم بالأعداد الدقيقة، وبدلًا من أن يعدَّ سبعة آلاف حديث أو ثمانية آلاف حديث، يحفظ مائة حديث، فهمَّتهم مصروفة لهذا.
لكن الآن صار الناس يعتنون بدقة الأعداد، ولا سيما أنه يترتَّب عليها أمور في الطباعة، فإذا عدَّ نسخة واحدة وأثبتَها نُشر هذا العدد في ألوف مؤلفة من النسخ، فيستفيد منها كثير من طلاب العلم في الإحالات وغيرها، لكن إذا عدَّ نسخته في المتقدمين وهي بين يديه يُردِّدها ويُراجعها ويحفظ منها ما يحفظ فأَثَر العدد ضعيف بالنسبة للمتقدمين، وإن كان له أثر ملموس في العصور المتأخرة.
وبالنسبة لـ(صحيح البخاري) وما قيل في عدده ليس مردُّ ذلك إلى اختلاف النسخ، فغاية ما قيل في الزيادة والنقص في بعض النسخ أن رواية حماد بن شاكر تنقص عن غيرها ثلاثمائة حديث، لكن الفرق بين أربعة آلاف -بغير تكرار- وبين ألفين وخمسمائة كبير جدًّا، مردُّه في ذلك إلى عدم عنايتهم بالدقة؛ لضعف الأثر المترتب على ذلك، ولا يرون تضييع الوقت في مثل هذا، وقلنا: إن الأثر الآن كبير، والفائدة كبيرة بالنسبة لطلاب العلم إذا حُرِّر العدد وأُحيل عليه وأُثبِت في عشرات الألوف من النسخ، فلو ضحَّى الإنسان –مثلًا- مدةً مناسبة لعدِّ هذه الأحاديث من أجل أن يُفيد غيره فالجدوى ظاهرة.
وظهر الترف في المتأخرين، حتى ذُكِر عن شخص من أهل اليمن ممن ينتسب إلى العلم أنه أشكل عليه القراءة في (تفسير الجلالين)؛ لأنه رأى أن التفسير مختصر جدًّا، وقد يكون القرآن هو الغالب فيكون الحكم له، وقد يكون التفسير هو الغالب فيكون الحكم له، فعدَّ حروف القرآن وحروف التفسير، يقول: إلى سورة المزمل العدد واحد -وهذه من الغرائب-، ومن المدثر إلى آخر القرآن زاد التفسير، فانحلَّتْ عنده المشكلة، صار الحكم للتفسير وليس للقرآن، فصار يقرأ في التفسير من غير وضوء، وعلى كل حال لا شك أن مثل هذا تشديد على النفس لا يأتي به الشرع، ولا أعرفه لغير هذا، يوجد في بعض التفاسير مثل: (تفسير الخازن) عدد حروف كل سورة، وعدد آياتها، وعدد ركوعها وسجداتها، لكن عدد الحروف لكل سورة هذا أيضًا لا شك أنه قدرٌ زائد على ما أُمِر به المكلَّف.
ومن الترف -وهذا استطراد- أن يوجد في التفاسير ما اقتُصر فيه على الحروف المهملة، فيُفسَّر القرآن كله بحروف مهملة، ما في التفسير ولا نقطة، لا شك أن هذا من الترف، ويعوق عن غيره، ويَحمل المفسِّر على اعتماد ألفاظٍ وجُملٍ مفضولة من أجل أن يجدها في الحروف المهملة، والله المستعان.