إبراهيم –عليه السلام- خليل الله، {كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] يعني اجتمع فيه من الأوصاف ما يندر اجتماعه في شخصٍ واحد، بل تكون هذه الأوصاف متوزِّعة على عددٍ من الناس، بحيث يعدل أُمَّة، {قَانِتًا} مطيعًا لله، {حَنِيفًا} مستقيمًا على دين الإسلام، والحنيف في الأصل من الحَنَف وهو الميل، فهو مائلٌ عن الشرك وأهله، مستقيمٌ على دين الإسلام، ولذلك قال: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} يعني لم يأتِ بشرك، وفي دعائه -عليه السلام-: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]، وهو الذي حطَّم الأصنام، مما يجعل المسلم يخاف ويكون على وجل وخوف دائم من أن يزيغ قلبه ويميل إلى شيءٍ من الشرك، سواء قلَّ أو كثُر، كبُر أو صغُر، فما دام إبراهيم الذي حطَّم الأصنام، وهو الحنيف القانت الذي لم يكن من المشركين، يقول إبراهيم التيمي: ومن يأمن البلاء بعدك يا إبراهيم؟! إبراهيم الحنيف الذي اتَّخذه الله خليلًا يقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ}! فعلى المسلم أن يكون دائمًا على وجلٍ وخوف من أن يزيغ قلبه عن هذا الدين، وأن يكون لَهِجًا بدعاء الله -جل وعلا- أن يميته مسلمًا غير مشركٍ.
يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى-:
|
لعلى طريقِ العفوِ والغفرانِ |
|
لكنَّما أخشى انسلاخَ القلبِ من |
|
تحكيمِ هذا الوحيِ والقرآنِ |
ورضًا بآراءِ الرجالِ وخرصِهَا |
|
لا كان ذاك بمنَّةِ الرحمنِ . |
فإبراهيم -عليه السلام- أُمَّة، اجتمع فيه من الأوصاف ما يندر أن يجتمع في شخصٍ واحد، ولذلك قالوا في رجال الحديث: إن بعض الرواة يُرجَّح وإن كان فردًا على رواية الأكثر؛ لما يَشتمل عليه ويتَّصف به من الصفات التي لا توجد في غيره. فالأصل أن الأكثر مرجَّح على الواحد، والخطأ أبعد بالنسبة للجماعة منه إلى الواحد، لكن قد يوجد من الصفات في هذا الواحد ما يجعله راجحًا على غيره ولو تعدَّد؛ أخذًا من قوله -جل وعلا-: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} يعني فيه أوصاف، وهذا الإمام الذي رُجِّح على جمعٍ فيه من الأوصاف ما لم تتوافر في هذه المجموعة كاملة.
يقول ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: (فأما الأمة: فهو الإمام الذي يُقتدَى به، والقانت: هو الخاشع المطيع، والحنيف: المنحرف قصدًا عن الشرك إلى التوحيد. ولهذا قال: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}).
والأصل في الحَنَف هو الميل، ولذلك يقال لمن في قدمه ميل: أحنف. والميل نسبي، إما أن يكون ميلًا عن الصراط المستقيم، أو ميلًا إلى الصراط المستقيم وانحراف عن الشرك، وهو المقصود هنا كما أشار إليه الإمام ابن كثير -رحمه الله-، والله أعلم.