شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح - كتاب الصوم (عام 1427 هـ) - 10
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسَلَّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقةٍ جديدة في برنامجكم شرح كتاب ((التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح)).
مع مطلع هذه الحلقة يسُرنا أن نُرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلاً ومرحبًا بكم فضيلة الدكتور.
حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المُستمعين.
المقدم: بقي معنا بعض الأحكام في حديث الرُبيِّع بنت معوِّذ، أحسن الله إليكم.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،
ففي آخر الحلقة السابقة، ذكرنا أن جمهور العلماء يرون أن الصيام لا يجب على من لم يبلغ. وقلنا إنه استحب جماعةٌ من السلف، منهم ابن سيرين والزهري والشافعي وجمهور أهل العلم، أنهم يؤمرون به للتمرين، يعني كما يؤمرون بالصلاة. لكن هنا الصيام باعتبار المشقة، قيدوه بإطاقته إذا أطاقوه، على خلافٍ بينهم في السن الذي يُطيق فيه الصيام.
يقول الأوزاعي: إذا أطاق صوم ثلاثة أيامٍ تباعًا لا يضعُف فيهن، حُمِلَ على الصوم.
والمشهور عن المالكية أنه لا يُشْرَعُ في حق الصبيان.
الإمام البخاري- رحمه الله تعالى- لما ترجَّم قال: باب صوم الصبيان، وقال عُمَر- رضي الله عنه- لنشوان في رمضان: ويلك وصبياننا صيامٌ، فضربه.
المالكية يقولون: لا يُشْرَع في حق الصبيان.
المُصنِّف جاء بالأثر عن عُمَر- رضي الله تعالى عنه- من باب التلطُّف في الرد على المالكية. يعني الخبر المرفوع أقوى رد على المالكية، لكن كيف تلطَّف الإمام البخاري في التعقُّب على المالكية بإيراد أثر عُمَر في صدر الترجمة؛ لأن أقصى ما يعتمدونه في معارضة الأحاديث دعوى عمل أهل المدينة. عمل أهل المدينة يُخالفون به المرفوع، لماذا؟ يقولون: لو كان الخبر مُحكمًا، لعملوا به، فهي دار الهجرة والصحابة متوافرون فيها. ويتوافر فيها السنن القولية والفعلية، فلو كانت هذه السُّنَّة مُحكمة، ما نُسخت، لعمل بها أهل المدينة. فلما تركها أهل المدينة، دلَّ على أنها منسوخة.
البخاري- رحمه الله- تلطَّف في الرد عليهم، وتنزَّل معهم، فأورد أثر عُمَر- رضي الله عنه- في صدر الترجمة؛ لأن أقصى ما يعتمده المالكية في معارضة الأحاديث: دعوى عمل أهل المدينة على خلافها.
ولا عمل يُستندُ إليه في المدينة أقوى من العمل في عهد عُمَر- رضي الله عنه-، مع شدة تحريه ووفور الصحابة في زمانه، وقد قال للذي أفطر في رمضان موبخًا له: كيف تُفْطِر وصبياننا صيام؟! ونأتي بعد ذلك على الخبر المُعلَّق عن عُمَر، بعد أن نُنهي الكلام على الحديث.
فإيراد الأثر إنما هو للرد على المالكية الذين عارضوا المرفوع بعدم عمل أهل المدينة به، وعرفنا وجهة نظرهم في ذلك، وأن أقوى ما يُستند إليه في عمل أهل المدينة في عهد عُمَر مع شدة تحريه وقد قال ذلك، فدلَّ على أن السُّنَّة مُحكمة وليست منسوخة.
ابن الماجشون من المالكية، يعني إذا كان المالكية لا يرون صيام الصبيان ولا إلزامهم ولا أمرهم بذلك، فابن الماجشون وهو منهم، قال: إذا أطاق الصبيان الصيام، أُلزموه. فإذا أفطروا لغير عذرٍ، فعليهم القضاء. يعني في الطرف الثاني، في الطرف المُقابل.
إذا أطاق الصبيان الصيام، أُلزموه. فإذا أفطروا لغير عذرٍ، فعليهم القضاء. ابن الماجشون معروف من المالكية.
قال ابن بطَّال: أجمع العلماء على أنه لا تلزم العبادات والفرائض إلا عند البلوغ، إلا أن كثيرًا من العلماء استحبوا أن يُدرَّب الصبيان على الصيام والعبادات؛ رجاء بركتها لهم، وليعتادوها وتسهُل عليهم إذا لزمتهم.
لا شك أن التمرين يُسهِّل العبادة على الشخص، فلو تصورنا أن شخصًا فجأةً بلغ، فقيل له: صلِّ. لا شك أن هذا الأمر يكون شاقًّا عليه، لكن لو كان قبل ذلك بسنين، خمس سنين، ست سنين، يتردد إلى المسجد ويُصلي مع الناس، سَهُلَت عليه. وقل مثل هذا في الصيام، بل أشد.
يقول ابن بطَّال: أجمع العلماء على أنه لا تلزمهم العبادات والفرائض إلا عند البلوغ، إلا أن كثيرًا من العلماء استحبوا أن يُدرَّب الصبيان على الصيام والعبادات؛ رجاء بركتها لهم، وليعتادوها وتسهُل عليهم إذا لزمتهم.
قال المُهلَّب: في هذا الحديث من الفقه، أن من حمل صبيًّا على طاعة الله، ودرَّبه على التزام شرائعه، فإنه مأجورٌ بذلك. وأن المشقة التي تلزم الصبيان في ذلك غير مُحاسبٍ بها من حملهم عليها.
هم لا شك أنهم يلزمهم مشقة، والصبي إذا أُمِرَ بالصلاة بل ضُرِب عليها إذا أتمَّ عشر سنين، وخرج لصلاة الفجر في الظلام، قد يعتريه ما يعتريه مما يؤذيه. وكل هذا مُحتمل بجانب أمره- عليه الصلاة والسلام- بذلك. فلو أن الأب أمر ولده أن يخرج إلى المسجد، واعتراه ما اعتراه بسبب هذا الأمر، فإنه لا يلزمه شيء ومع ذلك هو مأجور؛ لأنه يمتثل الأمر النبوي. وقل مثل هذا في الصيام وغيرها من العبادات. إذا دُرِّب على العبادات، فإنه حينئذٍ مأجور. لكن الضرب في غير الصلاة، في الصيام، وقل في التعليم مثلاً، وهو من أفضل نوافل العبادات، في التعليم، يستدلُّ بعضهم بالضرب في الصلاة بالضرب في التعليم، ويستدلُّ بعضهم على عدم الضرب في التعليم بتخصيص الضرب في الصلاة. ففي هذا مُتمسَّك للطرفين.
يقول: الصلاة في حقه- في حق ابن عشر- نفل، ويُضرَب عليها. والعلم من أفضل نوافل العبادات، فليُضْرَب عليه كالصلاة. ويعكس الطرف الآخر، يقول: إنه ما يضرب على أي عبادة من العبادات إلا الصلاة، فدلَّ ذلك على أهميتها دون غيرها، فلا يُضْرَب على تعليم ولا غيره.
ومع ذلك، النصوص الثابتة عن أهل العلم في هذا المجال، في باب التعليم وفي باب التربية وفي باب التأديب، أن الولد يُضْرَب، لكنه غير مُبرِّح بحيث يتضرر به. وهذا هو المأثور عن العلماء في سائر الأزمان، يضربونهم ضربًا غير مُبرِّح؛ لأن الطفل لا يُدرك مصلحة نفسه وقد لا يمتثل للأمر. فكونه يُضْرَب، لا شك أنه من باب مصلحته، فليقسُ أحيانًا على من يرحمِ.
وكل الكتب التي تحدثت عن التعليم وعن التربية عند علماء المُسلمين، كلها تُقرر الضرب في موضعه. لا يكون سلاحًا يُهدد به كل طالب، بحيث يُزرع الخوف والرهبة عند الطالب، لا. لكنه إذا لم يُجدِ ما دونه، فليُسلَك.
هذا الحديث- كما هو معلوم- أخرجه الإمام البخاري هنا في كتاب الصوم، باب صوم الصبيان.
قال- رحمه الله-: حدثنا مُسددٌ، قال: حدثنا بشر بن المُفضَّل عن خالد بن ذكوان، عن الرُبيِّع بنت معوِّذ، قالت: أَرْسَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- غَدَاةَ عَاشُورَاءَ، فذكر الحديث، ومضى ذكر المناسبة. والحديث رواه مُسلم، فهو مُتفقٌ عليه.
الإمام البخاري- رحمه الله عليه- ذكر في الترجمة، وقال عُمَر- رضي الله عنه- لنشوان في رمضان: ويلك، وصبياننا صيامٌ؟!، فضربه. هذا مُعلَّق بصيغة الجزم، فالإمام البخاري- رحمه الله تعالى- ضَمِنَ لنا من حذف. والآن جزم به إلى عُمر بن الخطاب، فهو ثابتٌ عنده.
المقدم: لكن جزم به في موضعٍ آخر أم في نفس الموضع؟
هنا في: قال، جزم. ما قال: وذُكِر عن عُمَر، ويُقال عن عُمَر، بصيغة التمريض. لا، هذه جزم.
فقال لنشوان: أي لإنسانٍ نشوان؛ ولذلك تجد في النسخة: نشوان مُنوَّنة.
المقدم: نشوانٍ.
فهو وصف لمحذوف لإنسانٍ نشوانٍ، وهو بفتح النون وسكون المُعجمة كسكران وزنًا ومعنىً. وجمعه: نشاوى، كسكارى.
قال ابن خالويه: سَكِرَ الرجل، وانتشى وثَمِلَ ونَزِفَ، بمعنىً. يعني بمعنىً واحد.
وقال صاحب المُحكَم: نشى الرجل وانتشى وتنشى، كله سَكِرَ.
ووقع عند ابن التين: أن النشوان السكران سُكرًا خفيفًا.
وهذا الأثر وصله سعيد بن منصور والبغوي في ((الجعديات)) من طريق عبد الله بن الهُزيل: أن عُمَر بن الخطاب أُتيَ برجلٍ شَرِبَ الخمر في رمضان، فلما دنا منه جعل يقول للمنخرين والفم- يعني كأنه يخاطبه في وجهه مباشرةً- وفي رواية البغوي: فلما رُفِعَ إليه، عثر.
المقدم: كأنه يشم، يا شيخ؟
نعم، يقرُب منه جدًّا.
وفي رواية البغوي: فلما رُفِعَ إليه، عثر. فقال عُمَر: على وجهك، ويحك وصبياننا صيام؟! ثمَّ أمر به، فضُرِبَ ثمانين سوطًا، ثمَّ سيَّره إلى الشام. وفي رواية البغوي: فضربه الحد وكان إذا غَضِبَ على إنسانٍ سيَّره إلى الشام، فسيَّر هذا النشوان إلى الشام.
قد يقول قائل: إذا كان ..
المقدم: كل واحد يسير إلى جهة
إلى جهة نعم.
المقدم: يجتمع السيئون في هذه الجهة
عمر إذا غضب على إنسان سيره إلى الشام، فما ذنب أهل الشام أن يُبتلوا بمثل هذا؟ يعني هذا مثل التغريب في الزنا، يعني هذا مقياسه على التغريب في الزنا.
كيف تبلى بلد آخر بشخصٍ زانٍ والأصل أن يبقى في بلده؟
يذكر أهل العلم الحكمة في ذلك: أنه إذا تغيرَّت البلدان، قد تتغيَّر الأحوال. قد يكون بين أُناس يهابهم ويحترمهم، والغالب أن الإنسان إذا صار غريبًا في بلد، فإنه حينئذٍ يهابهم.
وعلى كل حال، المسألة بالنسبة لتغريب الزاني شرعي، «البكرُ بالبكرِ، جلدُ مئةٍ ونفيُ سنة». وأما هذا فهو اجتهاد هذا الخليفة الراشد، وأُمرنا باقتفائه.
سيَّره إلى الشام، يعني سيَّر الشارب إلى الشام، ونرى مع ذلك تساهلًا بين المسلمين في هذه المعصية، أم الخبائث.
في ((عمدة القاري)) وقال أبو إسحاق: مَن شَرِب الخمر في رمضان، ضُرِبَ مئة. وكأن مستنده ما ذُكِرَ عن سفيان، عن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه: أن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- أُتيَ بالنجاشي الشاعر، وقد شَرِب الخمر في رمضان، فضربه ثمانين، ثمَّ ضربه من الغد عشرين، وقال: ضربناك العشرين؛ لجرأتك على الله تعالى وإفطارك في رمضان. لكن لو اجتهد إمام وضربه أكثر من عشرين، لا.. الأمر إليه.
نعم، الحديث الذي يليه.
المقدم: قال- رحمه الله-: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «لا تُوَاصِلُوا، فَأَيُّكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ حَتَّى السَّحَرِ».
راوي الحديث: أبو سعيد الخدري، سعد بن مالك بن سِنان، مرَّ ذكره مرارًا. والحديث ترجم عليه الإمام البخاري بقوله: "باب الوصال ومن قال: ليس في الليل صيام؛ لقوله- عزَّ وجلَّ-: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} [سورة البقرة 187]، ونهى النبي- صلى الله عليه وسلم- عنه؛ رحمةً لهم وإبقاءً عليهم وما يُكره من التعمُّق". انظر الترجمة مُركبة، (باب الوصال ومن قال: ليس في الليل صيام لقوله- عزَّ وجلَّ-: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} [سورة البقرة 187]، ونهى النبي- صلى الله عليه وسلم- عنه؛ رحمةً لهم وإبقاءً عليهم وما يُكره من التعمُّق).
قال العيني: باب الوصال، أي: هذا بابٌ في بيان وصال الصائم صومه بالليل والنهار جميعًا. ولم يذكر حكمه؛ اكتفاءً بما ذكر في الباب من الأحاديث، التي منها: «لا تواصلوا»، ونهى عن الوصال. لم يُبيِّن الحكم (باب الوصال)، ما قال: باب كراهية الوصال ولا باب تحريم الوصال أو باب إباحة الوصال إلى السحر وما أشبه ذلك، ما قال شيئًا من ذلك. لم يذكر الحكم؛ اكتفاءً بالنصوص التي أوردها في هذا الباب.
يقول ابن حجر: الوصال هو التركُ في ليالي الصيام لما يُفطِّرُ بالنهار بالقصد، فيخرج من أمسك اتفاقًا. يعني غفل عن الأكل أو ما عنده أكل، هذا لا يُقال إنه مواصل؛ لأنه لم يترك. ويدخل مَن أمسك جميع الليل أو بعضه؛ لأنه مواصل؛ لأنه لا يلزم من الوصال أن يصل يومًا بيوم. يعني لو واصل إلى منتصف الليل، قلنا: مواصل. لو واصل إلى السحر، قلنا: مواصل. ولذلك قال: «فليواصل إلى السحر» في الحديث.
ولم يجزم المُصنِّف بحكمه؛ لشهرة الاختلاف فيه. ومن قال: ليس في الليل صيام؛ لقوله- عزَّ وجلَّ-: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} [سورة البقرة 187]، كأنه يُشير إلى حديث أبي سعيد الخير، ذكره الترمذي في ((الجامع)) ووصله في ((العلل المُفرد)) مرفوعًا: «إن الله لم يكتب الصيام بالليل، فمن صام فقد تعنى، ولا أجر له» قال الترمذي: سألت البخاري عنه، فقال: ما أرى عبادة بن النُّسي سَمِعَ من أبي الخير، يعني راوي الحديث كُنيته أبو الخير؛ لأنه وقع خطأً هنا: أبو سعيد الخير، هو أبو الخير. فيُراجع اسمه- إن شاء الله-؛ لأنه في موضع قال: أبو سعيد الخير، وموضع قال: سَمِعَ من أبي الخير.
وروى الطبراني في ((الأوسط)) من طريق علي بن أبي طلحة عن عبد الملك عن أبي ذرٍ، رفعه، قال: «لا صيام بعد الليل» أي: بعد دخول الليل، ذكره في أثناء حديث.
قال ابن حجر: عبد الملك ما عرفته، فلا يصح وإن كان بقية رجاله ثقات ومُعارضه أصح.
قال: عبد الملك ما عرفته فلا يصح، يعني هل يُضعَّف الخبر؛ لأن مُريد- الذي يريد أن يحكم عليه- ما عرف راويًا من الرواة؟
المقدم: لا.
أو يتوقف فيه حتى يعرف.
المقدم: إلا إذا كان مُتمكنًا، يعني قال الإمام أحمد: لا أعرفه، يعني بعض الأئمة الكبار إذا قال: لا أعرفه، ليس عند أهل العلم دلالة على أنه من أهل الحديث.
قد يعرفه غيره.
المقدم: يعني لا يُعرَف عن أحدٍ أنه إذا قال: لا أعرفه، يُحكَم بضعفه؟
المسألة خلافية، يعني هل قوله: لا يعرفه، يعني أنه مجهول عنده.
أبو حاتم قال في جمعٍ غفيرٍ من الرواة: فلان مجهول، أي: لا أعرفه. وقال في بعضهم: مجهول فقط، وقال في بعضهم: لا أعرفه فقط. ومع ذلك عرفه غيره وحكموا بصحة الخبر، وهو لا يعرفه.
فإذا قال الباحث مثلاً، إذا بحث الباحث في سند حديث، ووجِد في سنده رجل نظر في جميع ما بين يديه وما أمكنه الاطلاع عليه من كتب الرجال، فلم يقف على ترجمته، هل يُضعِّف الخبر بسببه؟ أو يتوَّقف؟
المقدم: يتوَّقف.
هذا بالنسبة للباحثين، غير الأئمة المُطلعين، لا شك أنه يتوَّقف، ولا يجوز له بحال أن يحكم عليه بالضعف، هذا ما فيه إشكال.
لكن لو قاله إمام: فلان لا أعرفه، أو قال: مجهول، فنأتي إلى الجهالة وننظر فيها، هل هي طعن في الراوي أو عدم علم بحاله، وهذه مسألة مُهمة يحتاجها الذين يُخرجون الأحاديث، بعضهم يجرؤ، فإذا لم يجد ترجمة راوٍ من الرواة فيما بين يديه من الكتب، حكم على الراوي بالجهالة وضعَّف الخبر بسبب.. مَن أنت يا أخي؟!.
يبقى أننا إذا حكم الأئمة على راوٍ بأنه مجهول، هل نُضعِّف الخبر؟
المقدم: نبحث في هذه الجهالة.
نعم، هل الجهالة هذه طعن في الراوي أو عدم علم بحاله؟ فإن كانت طعنًا في الراوي، قلنا: الحديث ضعيف؛ لأن فيه فلانًا وهو مجهول. وإن كانت عدم علم بحال الراوي، بحثنا عند غير هذا الإمام الذي قال: مجهول.
ومع ذلك إذا لم نجده، يلزمنا التوقف.
تصرُّف أهل العلم، يورث شيئًا من التردد في هذه المسألة، وأنها لا يُحكم بحكمٍ مُطرد. فأحيانًا يقول أبو حاتم: مجهول لا أعرفه، وحينئذٍ تكون عدم علم بحال الراوي، فنتوقف حتى نجد من يعرفه من أهل العلم غير أبي حاتم. وأحيانًا الجهالة تكون جرحًا في الراوي، لا سيما وأن أهل العلم يجعلون لفظ: مجهول، في مراتب الجرح. يجعلون في مراتب الجرح: مجهول.
الحافظ ابن حجر في ((النُخبة)) جعل الجهالة قسيم للجرح، وليست قسمًا منه.
الحافظ ابن حجر- رحمه الله- ذكر في ((النُخبة)) وشرحها، ذكر الجهالة قسيمًا للجرح والتعديل، ولم يذكرها من أقسام الجرح، فقال: ومن المُهم معرفة أحوال الرواة، تعديلاً أو تجريحًا أو جهالة. فجعل الجهالة ليست من التعديل ولا من التجريح، إنما هي بمثابة عدم علمٍ بحال الراوي. بينما جعلها في مراتب الجرح في ((مقدمة التقريب)).
المقدم: جعلها حكمًا.
حكمًا، فيُعامل في أحكامه في ((التقريب)) على أنها جرح، كما ذكر في مقدمته في ((المراتب)).
الثاني: تمشي على الأصل، في ((النخبة)) تمشي على الأصل وأن الجهالة عدم علم بحال الراوي، فقد يجهله أبو حاتم ويعرفه فلان. على أن الجهالة قد تُطلق في الراوي ولا يُراد بها الجرح أصلاً، إنما يُراد بها قلة الرواية. ولذا قال أبو حاتم في بعض الرواة من المهاجرين الأولين مجهول، يعني قليل الرواية. فينبغي أن يُلاحظ مثل هذا عند طلاب العلم.
المقدم: لكن هل تجرّؤ مثل هؤلاء، يعني المُنتسبين لطلب العلم، هل التجرؤ سبب لعدم فهمهم لنصوص وكلمات أهل العلم في الجرح والتعديل؟ أم أن هناك قواعد مختلفة عند بعض أهل العلم؟ يعني مثل ما ذكرتم- أحسن الله إليكم- عن ابن حجر، قد يُعذَر هؤلاء؛ لأنه يفهم مثل هذه القاعدة بالمقلوب- كما يُقال.
لا، لكن طالب العلم عليه أن يجمع النظائر، ينظر في الألفاظ الاصطلاحية ومعانيها في اللغة وفي الاصطلاح وفي مواقع استعمالها عند أهل العلم. يعني قد يستعملها عالم باصطلاح، ويستعملها آخر باصطلاحٍ آخر، فلابد من معرفة هذا كله.
نرجع إلى قول ابن حجر: عبد الملك ما عرفته، فهو لا يصح. يعني ابن حجر إمام مُطَّلع بلا شك، وعنده من الكتب وسعة الاطلاع ما يكون لقوله: فلا يصح، وجه. لكن بالنسبة لآحاد المُتعلمين الذين قد يخفى عليهم ما في الصفحة التي تليها، وقد تُذكر ترجمة راوٍ في أثناء ترجمة راوٍ آخر، يُذكر الحكم على راوٍ في أثناء ترجمة راوٍ آخر، ومع ذلك لا يُمكنهم الاطلاع عليها. وإن كانت الأمور قد تيسّرت من وجه، وهي أن هذه الآلات وهذه الحواسب، تُخرج لك اسم الراوي ولو كان في أثناء ترجمة وتُخرج ما قيل فيه ولو كان في أثناء ترجمة أو في أثناء شرح من الشروح المطوَّلة. المقصود أن الأمور تيسّرت، لكن مع ذلك طلاب العلم بحاجة إلى أن يتريثوا في أحكامهم وأن يجمعوا النظائر وينظروا في المسائل الاصطلاحية، يقارنون بها مواقع الاستعمال عند أهل العلم. فتكون دراستهم جامعة بين النظر والتطبيق.
ويقول ابن حجر: عبد الملك ما عرفته، فلا يصح. وإن كان بقية رجاله ثقات، ومُعارضه أصح. ولو صحت هذه الأحاديث، لم يكن للوصال معنىً أصلاً. ما كان له أصل، ولا توجه النهي إليه؛ لأنه بمجرد ما يُقبل الليل من هاهنا ويُدبر النهار من هاهنا، فقد أفطر الصائم. لو كان المراد به أنه أفطر فعلاً، ما كان للوصال معنى على ما تقدَّم، ولا كان في فعله قُربة يُتقرَّب بها إلى الله -جلَّ وعلا-، وهذا خلاف ما تقتضيه الأحاديث الصحيحة من فعل النبي- صلى الله عليه وسلم-، فإنه واصل على ما سيأتي. وإن كان الراجح أن وصاله- عليه الصلاة والسلام- من خصائصه.
المقدم: جزاكم الله خيرًا، وأحسن إليكم ونفع بعلمكم.
أيها الإخوة والأخوات بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة، نستكمل – بإذن الله تعالى- في حلقةٍ قادمة وأنتم على خير.
شكرًا لطيب المتابعة، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.