شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (107)
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا ومرحبًا بكم إلى لقاءٍ جديد ضمن برنامجكم "شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح". مع مطلع حلقتنا يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير- عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، قسم السنة وعلومها، كلية أصول الدين بالرياض- فأهلًا ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.
حياكم الله، وبارك فيكم، وفي الإخوة المستمعين.
المقدم: نحن الآن، أطل علينا كتاب العلم من هذا الكتاب، قبل أن نقرأ الحديث الأول في هذا الكتاب نود أن نتحدث عن كتاب العلم بدايةً، خصوصًا أن أهل العلم صنفوا هذا الكتاب، أو عنونوا لهذا الكتاب في عدد من كتب السنة.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم، وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. الكتاب سبق التعريف به، وأنه مصدر كتب يكتب كتابًا وكتابةً وكتبًا، والعلم مصدرٌ- أيضًا- عَلِمَ يَعلمُ علمًا فهو عالمٌ. قال الجوهري: علمت الشيء أعلمه علمًا عرفته، علمت الشيء أعلمه علمًا عرفته. قال العيني: فهذا -يعني قول الجوهري- كما ترى لم يفرق بين العلم والمعرفة، والفرق بينهما ظاهر؛ لأن المعرفة (إدراك الجزئيات)، والعلم (إدراك الكليات)؛ ولهذا لا يجوز أن يُقال: "الله عارف" كما يُقال "عالم". قُلت: وفي هذا الكلام نظر، بل نظرٌ ظاهر؛ لأن الله-سبحانه وتعالى- يعلم الجزئيات كعلمه بالكليات- خلافًا للفلاسفة كابن سينا وغيرهم- الذين يقولون: إن الله يعلم الكليات، ولا يعلم الجزئيات، يعني كلام العيني.
المقدم: خوفهم من حلول حوادث في عدم علم الجزئيات، ما سبب نفيهم لعدم علمه بالجزئيات؟
تبعًا للفلاسفة، الفلاسفة عندهم أن الله -جل وعلا- يعلم الكليات في الجملة، ولا يعلم دقائق الأمور وإنكار العلم معروف عند غلاة القدرية، إنكار العلم جُملةً، إنكار علم الجزئيات هذا قول الفلاسفة، لكن كلام العيني خطير جدًّا فيقول: فهذا كما ترى لم يفرق بين العلم، والمعرفة، يعني (الجوهري)، والفرق بينهما ظاهر؛ لأن المعرفة إدراك الجزئيات، والعلم إدراك الكليات؛ ولهذا لا يجوز أن يُقال: "الله عارف"، كما يُقال: "عالم"، مقتضى ذلك أن الله -سبحانه وتعالى- يعلم الكليات؛ لأن العلم إدراك الكليات، وليس بـ "عارف"، ولا يُقال: "الله عارف"؛ لأن المعرفة إدراك الجزئيات، هذا فيه شبه من قول الفلاسفة، وإن كنا نربأ بالعيني أن يقول بقولهم، لكن هذا على كل حال كلامه فيه نظر ظاهر؛ لأن الله-سبحانه وتعالى- يعلم الجزئيات كعلمه بالكليات خلافًا للفلاسفة.
في مختصر التحرير وشرحه "لابن النجار" يقول: ولا يوصف -سبحانه وتعالى- بأنه "عارف". قال ابن حمدان في "نهاية المبتدئين": علم الله تعالى لا يسمى "معرفة"، حكاه القاضي إجماعًا. والعلة عند هؤلاء لا ما ذكره العيني، إنما العلة؛ لأن المعرفة تستلزم سبق الجهل، والعلم لا يستلزمه، المعرفة عند هؤلاء تستلزم سبق الجهل، والعلم لا يستلزمه، لكن يرد على هذا قوله- صلى الله عليه وسلم-: «تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة» فأضاف المعرفة إلى الله -جل وعلا- إلا أن يُقال: إن هذا من باب المشاكلة، والمقابلة. وقال ابن سيده: العلم نقيض الجهل، عَلِمَ علمًا وعلم هو نفسه، ورجلٌ عالمٌ وعليمٌ من قوم علماء، وعلامٌ وعلامةٌ من قوم علامين، والعلام والعلامة النسابة، وإذا بولغ في وصف الشخص بالعلم يُقال له علامة، وعَلّمه العلم وأعلمه إياه فتعلمه، فإذا بولغ في وصف الشخص بالعلم يُقال له علامة.
وابتذل كثيرٌ من طلاب العلم هذه الكلمة، فصاروا يطلقونها على طلاب العلم فضلًا عن العلماء، صاروا يطلقونها على طلاب العلم فضلًا عن العلماء، وهذا مخالف لقوله -عليه الصلاة والسلام- لأمره -عليه الصلاة والسلام- بإنزال الناس منازلهم، تقول عائشة -رضي الله عنها-: «أُمرنا أن ننزل الناس منازلهم». فطالب العلم له منزلة، العالم له منزلة، العلامة له منزلة، فهذا فيه مخالفة لأمره-عليه الصلاة والسلام- فيه أيضًا غش للشخص نفسه الذي يوصف بهذا الوصف، وغش لغيره، يعني الثناء على الشخص ومدحه بما ليس فيه غش، وأيضًا تغرير بغيره، تغرير بغيره ممن يريد أن يُفيد منه، فإذا قيل له علامة، وفلان علامة لم يوجد فرق، وإذا فُرق بين الناس ومُيّز بينهم، وأُخذ من كل شخص ما يحسنه ويتقنه أدرك الناس العلم، وإلا بهذه الطريقة يضيع طلاب العلم، والله المستعان.
المقدم: يعني كأننا نريد أن نحدّ من استخدام لفظ "العلامة"، خصوصًا أن بعض بالذات الإعلاميين الذين ربما يكون لهم مناشط إعلامية عديدة يتعرضون للقاء بعدد من العلماء، يطلقون هذا اللفظ مع الأسف، وقد نبهنا في أكثر من محفل على ضرورة المحافظة على هذا اللفظ ألا يطلق إلا على من يستحق. أذكر أن أحد كبار علماء هذه البلاد-رحمه الله- كان يرفض رفضًا قاطعًا أن يُقال له علامة، مع أنه يستحق هذا اللفظ.
نعم، كون الإنسان يستحق ويتواضع مطلوب هذا، لكن أيضًا بالمقابل الشخص الذي يُطلق هذا اللفظ ويتجوز فيه فيطلقه على من يستحق ومن لا يستحق، هذا فيه مخالفة لأمره -عليه الصلاة والسلام- أن نُنزل الناس منازلهم، هذا ما صار في فرق بين طالب علم وعلامة، لا فرق بينهم، وحينئذٍ يكون الطالب المبتدئ الذي يريد أن يتعلم يضيع بين هؤلاء. والسبب في إطلاق هذا اللقب الكبير على طلاب العلم وبعض العلماء الذين لم يصلوا إلى درجة المبالغة في تحصيل العلم وتأصيله وتقريره، وتعليمه يعني لا شك أنه سببه الإعجاب يُعجب هؤلاء الشباب والطلاب بفلان من الناس، إما بطريقة عرض أو بأسلوب، أو ببحث بعض المسائل، واستقصائها، واستقرائها، ثم بعد ذلك هم يطرِدونه في العلم كله، والله المستعان.
قال أبو علي: سُمي العلم علمًا؛ لأنه من العلامة وهي الدلالة، والإشارة. ومما هو من ضرب العلم قولهم اليقين ولا ينعكس، فتقول كلُ يقينٍ علم، وليس كل علم يقينًا. وذلك أن اليقين علمٌ يحصل بعد استكمال الاستدلال والنظر لغموض فيه، والعلم النظر والتصفح ومن العلم الدراية، وهي ضربٌ مخصوصٌ منه. ثم إن العلماء اختلفوا في حد العلم، اختلفوا في حد العلم، قال في مختصر التحرير وشرحه: العلم لا يحد، العلم لا يحد في وجه، قال بعضهم لعسره، ويميز بتمثيلٍ وتقسيم، وقال بعضهم: لأنه ضروري. وممن قال: لا يحد لعسره إمام الحرمين والغزالي. وممن قال: لا يُحد؛ لأنه ضروري الرازي، كما في عُمدة القاري. وقال آخرون: يُحد يعني يُعرف، ولهم في ذلك أقوال.
قال العيني: أصح الحدود أنه صفة من صفات النفس توجب تمييزًا لا يحتمل النقيض في الأمور المعنوية. فقوله: صفة جنس يتناول جميع صفات النفس، وقوله: توجب تمييزًا احتراز عما لم يوجب تمييزًا كالحياة. وقوله: لا يحتمل النقيض احترازٌ عن مثل الظن؛ لأن الظن يحتمل النقيض، وإن كان النقيض احتمالًا ضعيفًا. وقوله: في الأمور المعنوية: يخرج إدراك الحواس، وعرفه في مختصر التحرير بقوله: هو صفة يميز المتصف بها تمييزًا جازمًا مطابقًا أي لا يحتمل النقيض. في الأول قال: العلم لا يحد في وجه، العلم لا يحد بهذا افتتح ابن النجار كلامه عن العلم، العلم لا يُحد في وجه، ثم عرفه بقوله: هو صفة يميز المتصف بها تمييزًا جازمًا مطابقًا، كيف لا يُحد ثم عرفه؟
لأنه قال في مقدمة الكتاب: إذا قُلت في وجه فالمُقَدم غيرهُ، يعني إذا قلت في وجه فهو قول مرجوح، فالمقدم غيره؛ ولذلك عرفه فيما بعد فقال: صفة يميز المتصف بها تمييزًا جازمًا مطابقًا أي لا يحتمل النقيض.
قال البخاري -رحمه الله تعالى-: باب فضل العلم، وقول الله- تعالى-: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[المجادلة:11]. وقوله- عز وجل-: {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}[طه:114]. نقل ابن حجر عن ابن العربي قال: بدأ المُصنف بالنظر في فضل العلم قبل النظر في حقيقته، بدأ المُصنف بالنظر في فضل العلم قبل النظر في حقيقته؛ ولذلك لاعتقاده أنه في نهاية الوضوح، فلا يحتاج إلى تعريف، أو لأن النظر في حقائق الأشياء ليس من فن الكتاب؛ لأن البخاري -رحمه الله تعالى- لم يضع كتابه لحدود الحقائق، لو سبرنا مؤلفات المتقدمين ما وجدنا فيها عناية بالحدود، لماذا؟
لأن الحقائق لا تخفى عليهم؛ لأنهم لم يختلطوا بغيرهم، وعهدهم بالشارع قريب، فعلمهم بمصطلحاته لا يحتاج إلى ذكر، نعم يحتاج الناس إلى ذكر الحدود، والتعاريف، وركبوا على هذه الحدود وهذه التعاريف بقية ما يتعلق بأي باب من الأبواب، فجعلوا الحكم عليه فرعًا عن تصوره، وجعلوا التصور قبل الحكم؛ لأنهم بحاجة إلى معرفته، وتعريفه. يعني بعد أن طال الزمان، واختلط الناس بغيرهم، وخفيت عليهم بعض المصطلحات الشرعية.
أقول: نقل ابن حجر عن ابن العربي قال بدأ: المُصنف بالنظر في فضل العلم قبل النظر في حقيقته؛ وذلك لاعتقاده أنه في نهاية الوضوح فلا يحتاج إلى تعريف، أو لأن النظر في حقائق الأشياء ليس من فن الكتاب. يعني التعاريف التي حدها المناطقة وتبعهم غيرهم عليها، وجعلوا من شرطها أن تكون جامعة مانعة مختصرة يعني نظرت إلى مصنفات المتقدمين وجدتها خالية تمامًا عن هذا، إذا نظرت في النصوص الشرعية وجدت أن النص الشرعي قد يُعرِّف الشيء ببعض أفراده، ببعض أفراده. النبي-عليه الصلاة والسلام- فسّر الظلم بالشرك فرد من أفراده، وفسّر القوة بالرمي فرد من أفراده، لكن هذا على طريقة المناطقة ما يجيء، ما يمكن على طريقة المتأخرين. لأن البخاري لم يضع كتابه لحدود الحقائق وتصورها، بل هو جارٍ على أساليب العرب القديمة، فإنهم يبدؤون بفضيلة المطلوب للتشويق إليه، يبدؤون بفضيلة المطلوب للتشويق عليه إذا كانت حقيقته مكشوفةً معلومة.
وقد أنكر ابن العربي في شرح الترمذي على من تصدى لتعريف العلم، وقال: هو أبين من أن يُبَين. قلت: (القائل ابن حجر) وهذه طريقة الغزالي، وشيخه الإمام أن العلم لا يُحد؛ لوضوحه، أو لعسره كما تقدم. يقول: بل هو جارٍ على أساليب العرب القديمة (يقصد البخاري) بدأ بفضل العلم، ثم ذكر ما يتعلق به. طيب ماذا عن فضائل القرآن؟ هل هي قبل تفسير القرآن، أو بعده عند البخاري؟ أيهما الأول التفسير أم الفضائل؟ التفسير قبل الفضائل هذا يخرق كلام ابن العربي، هذا يرد على كلام ابن العربي، يقول: بل هو جارٍ على أساليب العرب القديمة في أنهم يبدؤون بفضيلة المطلوب للتشويق إليه، إذا كانت حقيقته مكشوفةً، معلومة. وقد أنكر ابن العربي في شرح الترمذي على من تصدى لتعريف العلم، وهو أبين من أن يُبين.
الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسيره تردد مرة جعل فضائل القرآن في آخر الكتاب، ومرة جعلها في أول الكتاب تبعًا لهذا الكلام، بدأ بالفضائل للتشويق، وفي بعض عرضات الكتاب، وبعض نسخ الكتاب هو مؤخر؛ اقتداءً بالإمام البخاري -رحمه الله تعالى- حينما أخر فضائل القرآن عن التفسير. وقد جاء في فضل العلم وأهله العاملين به من نصوص الكتاب والسنة ما لا يدخل تحت الحصر، من ذلك ما ذكره الإمام البخاري- رحمه الله تعالى- فالآية الأولى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}[المجادلة:11] قيل في تفسيرها: يرفع الله المؤمن العالم على المؤمن غير العالم، ورفعة الدرجات تدل على الفضل، إذ المراد به كثرة الثواب، وبها تُرفع الدرجات، ورفعتها تشمل المعنوية في الدنيا بعلو المنزلة وحسن الصيت وفي الآخرة بعلو المنزلة في الجنة. وفي صحيح مسلم من حديث عمر- رضي الله عنه- قال: إن نبيكم-صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين». وقوله تعالى: {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}[طه:114] واضح الدلالة في فضل العلم؛ لأن الله تعالى لم يأمر نبيه بطلب الازدياد من شيء إلا العلم.
وفي شرح ابن بطال جاء في كثير من الآثار أن درجات العلماء تتلوا درجات الأنبياء ودرجات أصحابهم، والعلماء ورثة الأنبياء، وإنما ورثوا العلم وبيَّنوه للأمة، وذبوا عنه وحموه من تحريف الجاهلين، وانتحال المبطلين. روى ابن وهب عن مالك قال: سمعت زيد بن أسلم يقول في قوله تعالى: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ}[الأنعام:83] قال: بالعلم. وذكر عن الأوزاعي قال: جاء رجل لابن مسعود فقال: يا أبا عبد الرحمن، أي الأعمال أفضل؟ قال: العلم، ثم سأله: أي الأعمال أفضل؟ قال: العلم. قال: أنا أسألك عن أفضل الأعمال وأنت تقول: العلم، قال: ويحك، إنما العلم بالله ينفعك قليل العمل وكثيره، ومع الجهل بالله لا ينفعك قليل العمل ولا كثيره.
ثم قال ابن بطال: غير أن فضل العلم إنما هو لمن عمل به، ونوى بطلبه وجه الله تعالى، غير أن فضل العلم إنما هو لمن عمل به، ونوى بطلبه وجه الله تعالى. ذكر مالك أن عبد الله بن سلام قال لكعب: من أرباب العلم؟ قال: هم أهله الذين يعملون بعلمهم، قال: صدقت. قال: فما ينفي العلم من صدور العلماء بعد إذ علموه؟ قال: الطمع.
قال ابن حجر: والمراد بالعلم العلم الشرعي، المراد بالعلم الذي جاءت النصوص بالحث عليه وبيان منزلة أهله إنما هو: العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر دينه في عباداته، ومعاملاته والعلم بالله وصفاته، وما يجب له من القيام بأمره، وتنزيهه عن النقائص، ومدار ذلك على التفسير، والحديث، والفقه. وقد ضرب هذا الجامع، وقد ضرب هذا الجامع (يعني الصحيح، صحيح البخاري) وقد ضرب هذا الجامع الصحيح في كل من الأنواع الثلاثة بنصيب- فرضي الله عن مصنفه.
وذكر الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر:28] أي: إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى كلما كانت المعرفة به أتم، والعلم به أكمل كانت الخشية له أعظم وأكثر. يعني من كان بالله أعرف كان منه أخوف، وجاء في الحديث الصحيح: «إن أعلمكم بالله وأخشاكم وأتقاكم لأنا» الرسول-عليه الصلاة والسلام-. ثم نقل عن الحسن البصري قوله: العالم من خشي الرحمن بالغيب، ورغب فيما رغب الله فيه، وزهد فيما سَخَطُ اللهِ فيه، ثم تلا الآية. وعن ابن مسعود-رضي الله عنه- قال: ليس العلم عن كثرة الحديث، ولكن العلم عن كثرة الخشية. وقال أحمد بن صالح المصري، عن ابن وهب، عن مالك: قال إن العلم ليس بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يجعله الله في القلب.
قال أحمد بن صالح معناه: أن الخشية لا تدرك بكثرة الرواية، وإنما العلم الذي فرض الله-عز وجل- أن يتبع فإنما هو الكتاب، والسنة، وما جاء عن الصحابة-رضي الله عنهم- ومن بعدهم من أئمة المسلمين فهذا لا يدرك، يقول: وما جاء عن الصحابة-رضي الله عنهم- ومن بعدهم من أئمة المسلمين فهذا لا يدركُ إلا بالرواية. ويكون تأويل قوله: نور يريد به فهم العلم، ومعرفة معانيه أصل العلم، العلم الشرعي مبني على نصوص، لا تدرك هذه النصوص إلا برواية، درايتها ومعرفة ما تشتمل عليه من تأويل هذا يُدرك ويُفهم، وهو النور الذي أشاروا إليه. ونقل القرطبي في تفسيره عن علي -رضي الله عنه- قال: (إن الفقيه حق الفقيه من لم يقّنط الناس من رحمة الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله، ولم يؤمنهم من عذاب الله، ولم يدع القرآن رغبةً عنه إلى غيره، إنه لا خير في عبادة لا علم فيها، ولا علم لا فقه فيه، ولا قراءة لا تدبر فيها).
إذا عُلم هذا فإن العلم منه ما هو فرض عين ومنه ما هو فرض كفاية. قال أبو عمر بن عبد البر، أبو عمر بن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله"- وهذا كتاب لا يستغني عنه طالب علم، لا أقول لا يستغني عن اقتنائه، بل لا يستغني عن قراءته طالب علم- يقول أبو عمر: أجمع العلماء على أن من العلم ما هو فرض متعين على كل امرئٍ في خاصته بنفسه، ومنه ما هو فرضٌ على الكفاية إذا قام به قائم سقط فرضه على أهل ذلك الموضع. واختلفوا في تلخيص ذلك والذي يلزم الجميع، والذي يلزم الجميع فرضهم من ذلك ما لا يسع الإنسان جهله من جملة الفرائض المفترضة عليه نحو الشهادة باللسان، والإقرار بالقلب بأن الله وحده لا شريك له ولا شبه له لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد خالق كل شيء، وإليه مرجع كل شيء المحيي المميت الحي الذي لا يموت. والذي عليه جماعة أهل السنة أنه لم يزل بصفاته وأسمائه ليس لأوليته ابتداء، ولا لآخريته انقضاء، وهو على العرش استوى. والشهادة بأن محمدًا-عبده ورسوله- وخاتم أنبيائه حقٌ، وأن البعث بعد الموت للمجازاة بالأعمال والخلود في الآخرة لأهل السعادة بالإيمان والطاعة في الجنة، ولأهل الشقاوة بالكفر والجحود في السعير حقٌ.
وأن القرآن كلام الله، وما فيه حقٌ من عند الله يجب الإيمان بجميعه، واستعمال محكمه، وأن الصلوات الخمس فرضٌ ويلزمه من علمها علم ما لا تتم إلا به من طهارتها وسائر أحكامها. وأن صوم رمضان فرضٌ ويلزم علم ما يفسد صومه، وما لا يتم إلا به. وإن كان ذا مالٍ وقدرةٍ على الحج لزمه فرضًا أن يعرف ما تجب فيه الزكاة، ومتى تجب، وفي كم تجب، ويلزمه أن يعلم بأن الحج عليه فرض مرة واحدة في دهره إن استطاع إليه سبيلًا، إلى أشياء يلزمه معرفة جملها، ولا يعذر بجهلها نحو تحريم الزنا والربا وتحريم الخمر والخنزير وأكل الميتة والأنجاس كلها والغصب والرشوة على الحكم، والشهادة بالزور وأكل أموال الناس بالباطل وبغير طيب من أنفسهم إلا إذا كان شيئًا لا يُتشاح فيه ولا يرغب في مثله، وتحريم الظلم كله وتحريم نكاح الأمهات والأخوات ومن ذُكر معهن، وتحريم قتل النفس المؤمنة بغير حق، وما كان مثل هذا كله مما قد نطق الكتاب به، وأجمعت الأمة عليه.
ثم سائر العلم وطلبه والتفقه فيه، وتعليم الناس إياه وفتواهم به في مصالح دينهم ودنياهم فهو فرضٌ على الكفاية يلزم الجميع فرضه إذا قام به قائم سقط فرضه عن الباقين لا خلاف بين العلماء في ذلك وحجتهم فيه قوله-عز وجل-: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة:122] فألزم النفير في ذلك البعض دون الكل ثم ينصرفون فيعلمون غيرهم، والطائفة في لسان العرب الواحد فما فوقه. وكذا الجهاد فرضٌ على الكفاية لقول الله -عز وجل-: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء:95]، ففضل المجاهد ولم يذم المتخلف، والآيات في فرض الجهاد كثيرةٌ جدًّا.
وفي إرشاد الساري: ينقسم العلم بانقسام المعلومات وهي لا تحصى فمنها الظاهر، والمراد به (العلم الشرعي) المقيد بما يلزم المكلف في أمر دينه عبادةً، ومعاملة وهو يدور على التفسير والفقه والحديث. وقد عد الشيخ عز الدين بن عبد السلام تعلم النحو وحفظ غريب الكتاب والسنة وتدوين أصول الفقه من البدع الواجبة، ومنها علم الباطن وهو نوعان:
الأول علم المعاملة، وهو فرض عين في فتوى علماء الآخرة، فالمعرض عنه هالك. وحقيقته النظر في تصفية القلب وتهذيب النفس باتقاء الأخلاق الذميمة التي ذمها الشارع كالرياء والعُجب والغش وحب العلو والثناء والفخر والطمع ليتصف بالأخلاق الحميدة المحمدية كالإخلاص والشكر والصبر والزهد والتقوى والقناعة.
وأما النوع الثاني (يعني من علم الباطن) فهو علم المكاشفة وهو نورُ يظهر في القلب عند تزكيته فتظهر به المعاني المجملة؛ فتحصل له المعرفة بالله تعالى وأسمائه وصفاته وكتبه ورسله إلى آخره. هذا النوع الثاني من علم الباطن إن أراد به الفراسة فهو حق، وإلا إن أراد به ما يسترسل فيه غلاة المتصوفة فهو باطل بلا شك.
المقدم: أحسن الله إليك يا شيخ.
ولعلنا نزيد هذا بيانًا في حلقة تأتي إن شاء الله تعالى.
المقدم: شكر الله لكم، لعلنا نستكمل بإذن الله ما تبقى في هذا الموضوع في الحلقة القادمة شكرًا لكم مستمعين الكرام.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.