شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (143)
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم" شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح".
مع مطلع حلقتنا يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلًا ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.
حياكم الله، وبارك فيكم، وفي الإخوة المستمعين.
المقدم: قال المصنف- رحمه الله- عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاءهُ رجل فقال: لم أشعر، فحلقت قبل أن أذبح، فقال: «اذبح ولا حرج»، فجاء آخر فقال: لم أشعر، فنحرتُ قبل أن أرمي، قال: «ارمِ ولا حرج»، فما سئل النبي- صلى الله عليه وسلم- عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: «افعل ولا حرج».
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
راوي الحديث عبد الله بن عمرو بن العاص، الصحابي الجليل، والصحابي تقدم التعريف به.
والحديث ترجم عليه الإمام البخاري، بقوله: باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها، باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها، يقول العيني: وجه المناسب بين البابين، هذا الباب والذي قبلهُ باب فضل العلم، من حيثُ إن المذكور في الباب الأول هو فضل العلم، والمذكور في هذا الباب هو الفتيا، وهو أيضًا من العلم، الفتيا من العلم.
المقدم: نعم.
إذ لا يتصور أن يفتي غير عالم، هذا الأصل، ومطابقة الحديث للترجمة، من حيث إن المذكور في الحديث هو الاستفتاء والإفتاء، الاستفتاء..
المقدم: السؤال.
في قوله: "حلقت قبل أن أذبح"، والإفتاء..
المقدم: «افعل ولا حرج».
«اذبح ولا حرج»، نعم، «ارمِ ولا حرج»، إلا قال في آخر الحديث، إلا قال: «افعل ولا حرج»، هذه هي الفتيا، الفُتيا بضم الفاء، يقال: استفتيت الفقيه في مسألة فأفتاني، والاسم منه الفُتيا بالضم، والفتوى بالفتح، قاله الكرماني، يخطئ كثير من الناس إذا أراد أن يسأل، فيقول: يا شيخ عندي فتوى.
المقدم: المفترض استفتاء.
استفتاء نعم، هو يطلب فتوى، كثير على ألسنة العامة، يا شيخ عندنا فتوى، عندك فتوى تكفيك.
المقدم: لكن لو كان المتحدث يقول: إنَّ فلانًا يطلب الفتوى.
يطلب لا بأس، الاستفتاء، السين والتاء للطلب، والمقصود طلب الفتوى، هذا الاستفتاء، يقول ابن حجر: المصادر الآتية بوزن فُتيا قليلة، مثل: تُقيى، ورُجعى، وزاد العيني: العذرى، بمعنى العذر، والعسرى، بمعنى العسر، واليسرى، بمعنى اليسر، والعتبى، بمعنى العتب، والحسنى، بمعنى الإحسان، والشورى، بمعنى المشورة، والرُغبى، بمعنى الرغبة، والنُهبى، بمعنى الانتهاب، والزلفى، بمعنى التزلف وهو التقرب، والبشرى، بمعنى البشارة.
نعم إذًا قليلة أو كثيرة؟! ابن حجر يقول: المصادر الآتية بوزن فُتيا قليلة، ذكر اثنين، وأضاف إليها العيني، عددًا كبيرًا، فليست قليلة.
والفُتيا والفتوى جواب الحادثة، جواب السؤال، جواب الاستفتاء، والفُتيا والفتوى في ديننا لها شأنٌ عظيم، في الإسلام لها شأنٌ عظيم، لماذا؟ لأنَّها توقيعٌ عن الله- عزَّ وجلَّ-، والمفتي موقع عن الله- جلَّ وعلا-، ومخبرٌ عنهُ، وجازم بأن هذا مرادهُ من قولهُ، الذي يسئل فيجيب، كأنهُ يقول: هذا حكم الله في هذه المسألة، قد صرح بعض المتأخرين المعاصرين بمثل هذا، فألف كتاب "أنت تسأل والإسلام يجيب"، الإسلام يجيب، والأجوبة عبارة عن شيء من اجتهادات هذا المسؤول، هذا التعبير صحيح؟
المقدم: لا، خاطئ.
هذا ليس بصحيح.
المقدم: أذكر -أحسن الله إليكم- أن عددًا من العلماء الكبار عندما يطرح عليهم سؤال حتى في هذه الإذاعة مثلًا، ما رأي الدين في كذا؟ يقول: لا، غيِّر هذه الكلمات، قال: ما رأيك، لا تقول: ما رأي الدين.
ما فيه شك أن المسائل تختلف، إذا أجاب بنص، سئل عن مسألة فيها نص، فأجاب بالنص، هذا رأي الدين، لكن إذا أجاب باجتهاد هذا رأيه الشخصي، وإن كان مستندًا إلى قواعد الدين العامة فالأولى الاحتياط في مثل هذا، فعلى من يتصدى لهذا الأمر أن يتقى الله- عزَّ وجلَّ-، ويحذر كل الحذر من الجرأة، والفُتيا بغير علم؛ لأنَّ هذا من الكذب على الله- عزَّ وجلَّ-، كما جاء في قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [سورة النحل:116]، إذا قرنّا هذه الآية مع قوله- جلَّ وعلا- في سورة الزمر: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [سورة الزمر:60]، هذا يوجد في النفس وقفة شديدة، وبهذا نعرف تدافع السلف في الفُتيا على ما سيأتي النقل عنهم، فالمفتي بغير علم كاذبٌ على الله- عزَّ وجلَّ-، داخلٌ في الوعيد في آية الزمر، يعني ولو أصاب، إذا أفتى بغير علم بغير أهلية، كما لو حكم بين الناس وهو جاهل، يعني قضى بين الناس وهو جاهل، ولو أصاب الحق.
ولذا تدافع السلف الفُتيا، وكرهوا الجرأة عليها، والمسارعة إليها، والإكثار منها، قال علقمة: كانوا يقولون أجرأكم على الفُتية أقلكم علمًا، يعني بالمناسبة الحديث الوارد «أجرأكم على الفُتيا أجرأكم على النار» ، فيه كلام لأهل العلم، فيه ضعف، «أجرأكم على الفُتيا أقلكم علمًا»، وعن البراء قال: أدركتُ عشرين ومائة من الآنصار، من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يسأل أحدهم عن المسألة، ما منهم إلا ود أنَّ أخاهُ كفاه، «أجرأكم على الفُتيا أقلكم علمًا»، لماذا؟ لماذا؟
أحد الحضور: لأنَّ صاحب العلم لا يتجرأ.
لا يتجرأ على الفتيا، لماذا؟ لأنَّ عنده من
المقدم: الوجل والخوف.
الأدلة.. والخشية من الله- جلَّ وعلا- ما يردعه عن ذلك، الأمر الثاني أن الأقل علمًا هو في طور بناء شخصيته، يعني على حد زعمه، حد تصوره، فيجيب عن كل شيء؛ لأنَّهُ يخشى أن يقول: لا أعلم، فيقال: ماذا تعلم؟ فهو في طور بناء شخصيته على حد زعمه، وهذا ليس بمبرر أبدًا لا من قريب ولا من بعيد أن يجرؤ على الفُتيا.
أحد الحضور: إذا كان الإنسان عنده علم بهذه المسألة، وسُئِل، هو طبعًا ليس طالب علم، بل من صغار طلبة العلم، وسُئل عن مسألة سمع فيها فتوى فلان.
المقدم: الأخ يسأل يقول: إذا كان سئل عن مسألة وعندهُ قول لأحد أهل العلم، عنده معرفة من هذه المسألة، لكنه ليس من أهل العلم، أو ليس من العلماء، هل يفتي؟ هل ينقل هذا القول؟
نعم إذا كان ليس من أهل العلم، وليست لديه الأهلية لبحث المسائل بنفسه، بمعنى أنه ليست لديه أهلية الاجتهاد فلهُ أن ينقل الفتاوى، لهُ أن ينقل، فيقول: أفتى فلان بكذا، ورأي فلان كذا، لا بأس.
المقدم: ينقلها كما هي؟
ينقلها كما هي، فهو ناقل هنا.
يقول: أدركتُ عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يسأل أحدهم عن المسألة، ما منهم إلا ود أن أخاه كفاه، وفي رواية: فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى يرجع إلى الأول. وعن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: إن الذي يفتي الناس في كل ما يستفتونه لمجنون، وسئل عمر بن عبد العزيز عن مسألة، فقال: ما أنا على الفُتيا بجريء، وكتب إلى بعض عماله: إني والله ما أنا بحريص على الفُتيا، وما وجدت منه بدًّا، يعني إذا وجد من يفتي غيره، وعنهُ أنهُ قال: أعلم الناس بالفتاوى أسكتهم، وأجهلهم بها أنطقهم. وقال سفيان الثوري: أدركنا الفقهاء وهم يكرهون أن يجيبوا في المسائل، والفُتيا، حتى لا يجدوا بدًّا من أن يفتوا، وإذا أعفوا منها كان أحب إليهم.
وقال الإمام أحمد- رحمهُ الله-: من عرض نفسهُ للفُتيا فقد عرضها لأمرٍ عظيم، إلا أنه قد تلجئ إليه الضرورة، فقيل له أيهما أفضل: الكلام أم السكوت؟ قال: الإمساك أحب إلي، قيل لهُ: فإذا كانت الضرورة؟ فجعل يقول: الضرورة الضرورة، وقال: الإمساك أسلم، لكن لا يعني هذا أنَّ الناس لا يجدون من يفتيهم، لإحجام المتأهل الكفء، هذه النصوص إنما تورد في الحد من جرأة بعض الناس على الفُتيا، وأما المتأهل لاسيما إذا تعين عليه الأمر بأن لا يوجد في البلد غيره فهذا يجب عليه أن يفتي؛ لأنَّ من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجامٍ من النار، كما جاء في الخبر.
الأمر الثاني: أن من عُيِّن لهذا الأمر من قبل ولي الأمر يتأكد في حقه أن يجيب من يستفتي، لكن ينبغي أن نستصحب ما ذكره الإمام البخاري- رحمه الله تعالى- قبل ذلك عن عمر- رضي الله عنه-: تفقهوا قبل أن تسودوا، يجب على طالب العلم أن يدرك هذا، فيؤهل نفسه إذا أراد أن ينفع الأُمَّة بمثل هذا، يؤهل نفسه قبل أن يبتلى بهذا، لا يكون إذا ابتلي بهذا راجع نفسه وأخذ يتعلم من جديد، مقالة الإمام أمير المؤمنين عمر- رضي الله عنه-:" تفقهوا قبل أن تسودوا"، وأردفها الإمام البخاري- رحمه الله تعالى- بقوله: وبعد أن تسودوا؛ لأنَّ الفقه لا نهاية له، وليعلم المفتي أنه يوقِّع عن الله أمره ونهيه، وأنه موقوف ومسؤول عن ذلك، قال الربيع بن خثيم: أيها المفتون انظروا كيف تفتون، وكان ابن سيرين إذا سئل عن الشيء من الحلال والحرام تغير لونه وتبدل حتى كأنه ليس بالذي كان، وكان النخعي يُسأل فتظهر عليه الكراهية، ويقول: ما وجدت أحدًا تسأله غيري؟ وقال: قد تكلمت، ولو وجدت بدًّا ما تكلمت، وإنَّ زمانًا أكون فيه فقيه أهل الكوفة لزمان سوء.
وعن محمد بن واسع قال: أول من يدعى إلى الحساب الفقهاء، وعن مالك- رضي الله عنه- أنه كان إذا سئل عن المسألة كأنهُ واقف بين الجنة والنار، كأنَّه واقف بين الجنة والنار.
الآن من شيوخنا من إذا سئل وهو جالس وقف، إن كان واقفًا يجلس، من شدة حرصه وتحريه؛ ليبين للسائل أن هذا ليس بالأمر السهل، وليربي الطلبة على ذلك، أن لا يتجرؤوا على الفتيا، وقال بعض العلماء لبعض المفتين: إذا سئلت عن مسألة فلا يكن همك تخليص السائل، ولكن تخليص نفسك أولًا، إذا سئلت عن مسألة فلا يكن همك تخليص السائل، ولكن تخليص نفسك أولًا، وقال لآخر: إذا سئلت عن مسألة فتفكر فإن وجدت لنفسك مخرجًا فتكلم وإلا فاسكت، وكلام السلف في هذا المعنى كثيرٌ جدًّا يطول ذكرهُ واستقصاؤهُ، ذكر شيئًا من ذلك الحافظ ابن رجب- رحمه الله تعالى- في شرح حديث «ما ذئبان جائعان أرسلا في حظيرة غنم بأفسد لها من حب المال والشرف لدين المرء».
هذا حب الشرف تصدر المجالس بالفتوى، هذا حب الشرف، وهو داء، وهو مفسدٌ للدين، والحديث مخرج عند الإمام أحمد والنسائي والترمذي وابن حبان وغيرهم من حديث كعب بن مالك وأبي موسى وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأسامة بن زيد وجابر وأبي سعيد وعاصم بن عدي الأنصاري- رضي الله عنهم- أجمعين، حديث مروي من طرق كثيرة جدًّا، وشرح الحافظ ابن رجب- رحمه الله تعالى- هذا الحديث بشرح لا يستغني طالب العلم عن قراءته.
المقدم: في الأربعين.
لا في شرح مستقل، في رسالة النفيس بن جدة يجدر بطالب العلم مراجعته، كغيرها من كتبه ومؤلفاته ورسائله، كتبه الكبيرة والصغيرة، رحمه الله تعالى، لكن الفتوى منصبٌ ديني عظيم، هي وظيفة الأنبياء وورثتهم، من فروض الكفايات لا بد من القيام بها، ولذا قال بعض أهل العلم: إنه يحرم البقاء ببلد ليس فيها عالم مفتٍ؛ لأنَّ الناس يضطرون أن يعبدوا الله على جهل، وحينئذٍ لا يجوز البقاء في هذا المكان، الفتوى منصبٌ ديني عظيم، هو وظيفة الأنبياء وورثتهم، وهو أيضًا من فروض الكفايات لابد من القيام به، فـ«من سئل عن علم فكتمهُ ألجم يوم القيامة بلجامٍ من نار» كما مر بنا مرارًا، وعلى الإمام أن يلزم من تتوفر فيه الأهلية لذلك، من تتوفر فيه الأهلية للفتوى للإمام أن يلزمه، كلام السلف الذي سبق محمول على من لم يتعين عليه؛ لأنَّ الفتوى مزلة قدم، لاسيما إذا استشرفها الإنسان، ورغب فيها، وحرص عليها، فإن مثل هذا في الغالب لا يُوفَّق، فضلًا عمن تصدى لهذا الأمر من غير أهلية، الإمام المحقق ابن القيم- رحمهُ الله تعالى- لهُ كتاب هو من أعظم كتبه، اسمهُ إعلام الموقعين عن رب العالمين، ويقصد بذلك المفتين.
المقدم: يصح أعلام؟
يصح أعلام وإعلام؛ لأنَّ أعلام هو ذكر أعلام المفتين من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، لكن هذا شيء يسير بالنسبة لما احتوى عليه من إعلام من يتصدى لهذا الأمر، من آداب الفتوى وشروطها، يتعين على من نصب نفسهُ لهذا الأمر أن يراجع هذا الكتاب، ويفيد منه في شروط الفتيا وآدابها، وطريقة السلف والأئمة في ذلك؛ لأنَّ التأهل إنما يكون بتحصيل العلم الشرعي المعتمد على الكتاب والسُّنَّة، المعتمِد على الكتاب والسُّنَّة، وهو الفقه في الدين بجميع أبواب الدين، اعتمادًا على الكتاب والسُّنَّة، وعلى من اطلع على نصوص الكتاب والسُّنَّة وحفظها وفهمها أن يقرن بذلك الاطلاع على أقوال أهل العلم؛ لئلا يغفل عن قول راجح، هو أقوى من ترجيحه، يقول سعيد بن أبي عروبة: من لم يسمع الاختلاف فلا تعدوه عالمًا، وقال قتادة: من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفهُ الفقه، وقال عطاء: لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالمًا باختلاف الناس، فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه.
وعن ابن القاسم قال: سئل مالك قيل لهُ: لمن تجوز الفتوى؟ فقال: لا تجوز الفتوى إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه، قيل له: اختلاف أهل الرأي؟ قال: لا، اختلاف أصحاب محمد- صلى الله عليه وسلم- ذكر ذلك أبو عمر بن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، وهذا كتابٌ أيضًا لا يستغني عنهُ طالب علم. على كل حال الذي عنده شيء يزعم أنه علم، وهو في ذلك لم يستند على النصوص على الكتاب والسُّنَّة، إنما هي مجرد أقوال حفظها وتلقاها وقرأها فهذا ليس بعلم في الحقيقة، هذا نقل عن الآخرين، لكنه ليس بعلم؛ لأنَّ العلم معرفة الحق بدليله، وقد قرر أهل العلم أن المقلد ليس من أهل العلم، بل نقل ابن عبد البر الاتفاق على هذا، المقلد الذي لا يعرف الحق بدليله، يعرف أقوال الأئمة بدون أدلتها، هذا ليس من أهل العلم، إنَّما هو مجرد ناقل، فهذا الباب بابٌ عظيم، بابٌ عظيم جدًّا ينبغي العناية به والاهتمام بشأنه.
ومع الأسف أنه يوجد في هذا الوقت، إضافة إلى ما يوجد في هذه البلاد وغيرها من علماء ربانيين، عرفوا بالعلم والعمل، يفتون بقال الله وقال رسوله، الأُمَّة فيها خير، مازال الخير موجودًا، لكن مع الأسف أنَّه يوجد أيضًا من يفتي عن جهل، من يفتي عن جهل، ويوجد أيضًا من هو من أهل التحري الزائد عن حده من يحجم عن الفتوى وهو أهل لذلك، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
المقدم: أحسن الله إليك، أيضًا ظهور بعض من تلقى علمًا يسيرًا في الفضائيات أو نحوها ويتصدى للفُتيا، وخصوصًا الفُتيا الخطيرة التي تتعلق بمجموع الأُمَّة، والتي تذكرنا بقول بعض الصحابة لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر، ويفتي على عامة الناس في الفضائيات، وربما يحصل من هذا أيضًا مشاكل كبيرة.
مثل هذا يجب عليه وجوبًا عينيًّا أن يكف عن هذا؛ لأنَّهُ يترتب على تصدره من غير علم أمور خطيرة لاحقة بالأُمَّة، يجب عليه أن يكف، فإن لم يكُف يجب أن يُكَف مثل هذا، ولا يجوز تمكينهُ بحال، لا يجوز تمكينهُ وهو غير متأهل، على كل حال المسألة تحتاج إلى شيء من البسط، وزمن البرنامج لا يستوعبها، تمام الترجمة.
المقدم: باب الفُتيا وهو واقف.
نعم، تمام الترجمة، يقول: باب الفُتيا وهو واقف على الدابة وغيرها، وهو يعني المفتي واقف على الدابة وغيرها، ومراده أنَّ العالم يجيب سؤال الطالب ولو كان راكبًا، ولو كان راكبًا على دابته، على سيارته، على أي آلة من الآلات، على الدابة، والمراد بها في اللغة كل ما مشى على الأربع، وفي العرف ما يُركب، فإن قي:ل ليس في سياق الحديث ذكر الركوب، وهو واقف على الدابة فيه ذكر؟
المقدم: لا.
الحديث ليس فيه شيء من ذلك.
المقدم: وقف فقط في حجة الوداع بمنى الناس يسألونه.
فيه ذكر للدابة؟
المقدم: لا.
يقول: فإن قيل: ليس في سياق الحديث ذكر الركوب، أجاب ابن حجر- رحمه الله تعالى- بأن البخاري- رحمه الله تعالى- أحال على الطريق الأخرى التي أوردها في الحج، فقال: «كان على ناقته»، وترجم له باب الفُتيا على الدابة عند الجمرة، «أن النبي- صلى الله عليه وسلم- وقف في حجة الوداع» حجة بفتح الحاء ويجوز كسرها، قال الجوهري: الحجة بالكسر المرة الواحدة، يقول: هو من الشواذ؛ لأنَّ القياس بالفتح، الوداع التوديع عند الرحيل، والاسم الوداع بالفتح، قاله الجوهري، وقال الكرماني: جاز الكسر وِداع بأن يكون من باب المفاعلة، لكن قال العيني: وما أظن هذا صحيحًا، وما أظن هذا صحيحًا؛ لأنَّه بالكسر يتغير المعنى.
المقدم: الوِداع.
لأنَّه بالكسر يتغير المعنى؛ لأنَّ الموادعة معنى الوِداع الموادعة، معناها المصالحة التي هي الهدنة.
المقدم: نعم.
وكذا الوداع بالكسر، والمعنى هو التوديع، وهو عند الرحيل معروف، وهو تخليف المسافر الناس خافضين وادعين وهم يودعونه إذا سافر تفاؤلًا بالدعة التي يصير إليها إذا انتقل، أو يتركونهُ وسفره، ومرادهُ بذلك أن يكون من الودع وهو الترك، يعني تركهم وتركوه، وسميت هذه الحجة التي حجها النبي- عليه الصلاة والسلام- حجة الوداع؛ لأنَّه ودع الناس، وقال لهم: «لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا».
بمنى في شرح الكرماني نقلًا عن الجوهري: منى مذكر مصروف، وقال النووي: فيه لغتان الصرف والمنع، وهو موضع معروف قرب مكة تذبح فيه الهدايا، وترمى فيه الجمرات، «للناس يسألونه»، «وهو واقفٌ في حجة الوداع للناس يسألونه»، هو إما حال من فاعل وقف، واقف حال كونه يسأل- عليه الصلاة والسلام- أو حال من الناس أي وقف لهم سائلين، يعني حال كونهم سائلين، وإما استئناف بيانًا لعلة الوقوف.
المقدم: أحسن الله عليكم، لعلنا نستكمل بإذن الله ما تبقى من ألفاظ هذا الحديث في حلقة قادمة؛ لانتهاء وقت هذه الحلقة من هذا البرنامج، أيها الإخوة والأخوات، كنا وإياكم مع فضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الكريم بن عبد الله الخضير، تحدث إليكم ولازلنا في باب الفُتيا وهو واقف على الدابة وغيرها من كتاب العلم من كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، نستكمل بإذن الله ما تبقى في حلقة قادمة، وأنتم على خير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.