شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (209)
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهلًا بكم إلى لقاء جديدة ضمن برنامجكم شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، نستهل هذه الحلقة بالترحيب بضيفنا صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلًا بكم فضيلة الدكتور.
حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.
المقدم: لا زلنا في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، كنا أمضينا في هذا الحديث مجموعة من الحلقات، لعلنا نستكمل ما تبقى في هذه الحلقة بإذن الله.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في الحديث يقول عمر: «وعندنا كتاب الله حسبنا» وعندنا كتاب الله، «كتاب» مبتدأ مؤخر، خبره متعلق الظرف عندنا، والواو للحال، «وحسبنا» خبر مبتدأ محذوف أي هو حسبنا أي كافينا، يقول القسطلاني: أي فلا نكلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما يشق عليه في هذه الحالة من إملاء الكتاب، ولم يكن الأمر في ائتوني للوجوب على ما تقدم، «فاختلفوا» عمر اجتهد وقال هذا الكلام، اختلفوا يعني من الصحابة من وافق عمر، ومنهم من خالَفه، فأصر على كتابة الكتاب، يعني مقتضى الخلاف عمر له وجهة نظر أنه ما دام حصل هذا الخلاف وحصل هذا التنازع والرسول -عليه الصلاة والسلام- غلبه الوجع، ومن باب الرأفة والشفقة به قال عمر -رضي الله تعالى عنه-: «عندنا كتاب الله حسبنا». «فاختلفوا» أي الصحابة عند ذلك، فقالت طائفة: بل نكتب؛ لما فيه من امتثال أمره وزيادة الإيضاح، بعضهم رجح الكتابة.
«وكثُر اللغط» بضم المثلثة والجملة معطوفة على الجملة الأولى، قال العيني: ويجوز أن تكون الواو للحال والألف، واللام في اللغط عوضًا عن المضاف إليه، والتقدير فاختلفوا، والحال أنهم كثر لغطهم، و«اللغط» بالتحريك الصوت والجلبة، وقال الكسائي: اللغْط بسكون الغين لغةٌ فيه، والجمع ألغاط، وقال الليث: اللغَط أصوات مبهمة لا تفهم، تقول: لغط القوم وألغطوا مثل لغطوا، وهذا كلام موجود في التهذيب للأزهري، وفي عمدة القاري أيضًا. «فقال» وفي رواية: «وقال». «قوموا عني» أي عن جهتي، قال العيني: أي قوموا مبعدين عني، فهذا الفعل يستعمل باللام نحو قوموا لله، وأحيانًا يستعمل بـ(إلى) نحو إذا قمتم إلى الصلاة، وبالباء نحو قام بأمر كذا وبغير صلة، يعني بغير حرف جر، وتختلف المعاني باختلاف الصلات، يعني باختلاف الحروف، يعني هل هذا من تضمين الفعل أو من تقارض الحروف، كلامه أنه من تضمين الأفعال؛ لأنه قال: تختلف المعاني باختلاف الصلات التي هي الحروف؛ لتضمن كل صلة معنًى يناسبها، فيكون الفعل قوموا معناه إذا تعدى بـ(عن) غير معناه إذا تعدى بـ(إلى) وغير معناه إذا تعدي بالباء إلى آخره.
ولا ينبغي عندك في الحديث «قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع»، ولا ينبغي من أفعال ينبغي من أفعال المطاوعة، تقول: بغيته فانبغى، كما تقول: كسرتهُ فانكسر، يسمونه فعلًا مطاوعًا، والتنازع لا ينبغي عندي «التنازعُ» فاعل ينبغي، قال ابن حجر: فيه إشعار بأن الأولى كان المبادرة إلى امتثال الأمر وإن كان ما اختاره عمر صوابًا إذ لم يتدارك ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- بعدُ، الآن ابن حجر: فيه إشعار بأن الأولى كان المبادرة لامتثال الأمر، من أين أخذه، لا ينبغي عندي التنازع، يعني ما دام أمرهم ائتوني بكتاب، يأتونه بكتاب من غير تنازع؛ لأنه قال: ولا ينبغي عندي التنازع، فدل على أنهم لو بادروا وامتثلوا ما حصل هذا التنازع.
المقصود أن ابن حجر يقول: فيه إشعار بأن الأولى كان المبادرة لامتثال الأمر، وإن كان ما اختاره عمر صوابًا، يعني يوجد صواب وأصوب، فيه أوْلى وخلاف الأولى، فما اختاره عمر- رضي الله تعالى عنه- خطأ؟ ليس بخطأ، لأنه لو كان خطأً ما أقره النبي -عليه الصلاة والسلام- ولما ترك الكتاب من أجل تنازعهم، إذ لم يتدارك ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد؛ لأنه عاش بعد ذلك، النزاع هذا الموجود في الحديث يوم الخميس، ومات النبي -عليه الصلاة والسلام- في يوم الاثنين، فلو كان خطأً لتداركه النبي -عليه الصلاة والسلام-.
قال القرطبي: واختلافهم في ذلك كاختلافهم في قوله: «لهم لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» يعني مرده الاجتهاد، «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة»، فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا، وتمسك آخرون بظاهر الأمر فلم يصلوا، فما عنف أحدًا منهم من أجل الاجتهاد المسوغ، والمقصد الصالح انتهى، يعني فيما يسوغ فيه الاجتهاد، أما ما لا يسوغ فيه الاجتهاد فلا يأتي بمثل هذا كلام، «فخرج ابن عباس» ظاهره أن ابن عباس كان معهم، فخرج ابن عباس يقول.
المقدم: هذا في أصل الحديث، وليس عندنا.
نعم، انتهى كلام المختصِر عند قول «عندي التنازع»؛ لأنه لا يعتني بالموقوفات، يعتني بالمرفوع إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، في الأصل في البخاري: فخرج ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين كتابه، قوله: «فخرج بن عباس» ظاهره أن ابن عباس كان معهم، يعني خرج من المكان الذي فيه هذا الاجتماع، وأنه في تلك الحالة خرج قائلًا هذه المقالة، وليس الأمر في الواقع على ما يقتضيه هذا الظاهر، بل قول ابن عباس المذكور إنما كان يقوله عندما يحدث بهذا الحديث، يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين كتابه، كلما حدّث بهذا الحديث قال هذا الكلام، يعني كما يقول الواحد منا، الرزية كل الرزية الاختلاف الذي وقع عنده -عليه الصلاة والسلام- حتى رُفع بيان ليلة القدر، هل يعني هذا أن قائل هذا الكلام حضر؟ ما يلزم.
وليس الأمر في واقع لم يقتضيه، هذا الظاهر، بل قول ابن عباس المذكور، إنما كان يقول عندما يحدث بهذا الحديث ففي رواية معمر عند المصنف في الاعتصام وغيره قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: ومعروف أن عبيد الله تابعي من الطبقة الثانية لم يدرك القصة، يقول: فخرج ابن عباس يقول: إن الرزية بفتح الراء وكسر الزاي بعدها ياءٌ ساكنة ثم همزة، يعني إن الرزيئة أتى بعدها ياء ساكنة ثم همزة، وقد تسهل وتشدد الياء، تكون الرزية؛ لأن هذه الهمزة إذا سهلت صارت ياءً، ثم إذا أدغمت الياء في الياء صارت عبارة عن ياء مشددة الرزية، وتشدد الياء ومعناها المصيبة، الرزية يعني المصيبة، «كل الرزية» منصوبٌ على النيابة عن المصدر، كل نائب مصدر ومثل هذا يعد من المفاعيل المطلقة، قاله العيني.
«ما حال» «إن الرزية كل الرزية ما حال» أي حجز بحيث صار حاجزًا بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين كتابه، و«ما حال» في محل رفع خبر إن، إن الرزية ما حال، ما حال أي حجز، صار حاجزًا بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين كتابه الذي أراد كتابته، فتركه لاختلافهم ولغطهم، يقول النووى في شرح مسلم: اعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- معصومٌ من الكذب، هذا محل إجماع، معصوم من الكذب ومن تغيير شيء من الأحكام الشرعية في حال صحته وحال مرضه، أيضًا وفي حال غضبه وفي حال رضاهُ، كما في حديث عبد الله بن عمرو: «اكتب فوالله ما خرج من هذا إلا حق».
ومن تغيير شيء من الأحكام الشرعية بحال صحته وحال مرضه، ومعصومٌ من ترك بيان ما أمر ببيانه، وتبليغ ما أوجب الله عليه تبليغه، وليس معصومًا من الأمراض والأسقام العارضة للأجسام ونحوها مما لا نقص فيه لمنزلته، ولا فساد لما تمهّد من شريعته، يعني النبي -عليه الصلاة والسلام- يعتريه ما يعترى غيره من البشر من الأمراض، لكنه في خلال مرضه لا يتغير، لا يتغير عقله بحيث يختلف قوله أو لا يتسق قوله، أو يترك بعض ما أوجب الله عليه، أو يبلغ غير ما أُمر بتبليغه، أو يطرأ عليه شي مما فيه نقص، وأما كلام عمر، هذا كلام النوى، وأما كلام عمر -رضي الله عنه- فقد اتفق المتكلمون في شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره؛ لأنه خشي أن يكتب النبي -صلى الله عليه وسلم- أمورًا عجزوا عنها، واستحقوا العقوبة عليها؛ لأنه أعظم الناس في الناس جرمًا من سأل عن شيء، فحرم من أجله، وهنا عمر -رضي الله تعالى عنه- سعى في ألا يكتب شيء يشق على الناس؛ لأنه خشي أن يكتب النبي -صلى الله عليه وسلم- أمورًا ربما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليها؛ لأنها منصوصة، لا مجال للاجتهاد فيها، يعني أصولها موجودة في القرآن، فقال عمر-رضي الله عنه- حسبنا كتاب الله، لقول الله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، ولقوله -جل وعلا-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3].
فعلم أن الله تعالى أكمل دينه فأُمن الضلال على الأمة، وأراد الترفيه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التخفيف عليه؛ لأنه وجع، فكان عمر أفقه من ابن عباس وموافقيه، كلام النووي يدل على أن كلام عمر -رضي الله تعالى عنه- أرجح من كلام من خالفه، هم اختلفوا، يدل على أن كلام عمر واجتهاد عمر أرجح من كلام ما خالفه، وتقدم في كلام ابن حجر: فيه إشعار بأن الأوْلى كان المبادرة إلى الامتثال، وإن كان ما اختاره عمر صوابًا؛ إذ لم يتدارك ذلك، ولم يتدارك ذلك النبي-صلى الله عليه وسلم-، فكيف؟ أيهما أرجح قول النووي أم قول ابن حجر؟
يعني عمر -رضي الله تعالى عنه- قال ما قال ثم تنازعوا وكثر اللغط، فعدل النبي -عليه الصلاة والسلام- عما أراد أن يمليه فيكتب، عدل عنه، فهل الرجحان مع عمر أو مع من خالفه؟ تقدم لنا أن ابن حجر يقول: الأولَى كان المبادرة إلى امتثال الأمر، والخيرة فيما يختاره الله -جل وعلا-.
يقول الإمام أبو بكر البيهقى في أواخر كتابه دلائل النبوة: إنما قصد عمر التخفيف على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين غلبه الوجع، ولو كان مراده -صلى الله عليه وسلم- أن يكتب ما لا يستغنون عنه، يعني مما أمر بتبليغه، هل يتردد لقول عمر أو غير عمر؟ أبدًا، يقول: إنما قصد عمر التخفيف على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين غلبه الوجع، ولو كان مراده -صلى الله عليه وسلم- أن يكتب ما لا يستغنون عنه لم يتركه لاختلافهم ولا لغيره؛ لقوله تعالى: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة:67] كما لم يترك تبليغ غير ذلك لمخالفة من خالفه ومعاداة من عاداه، ما ترك شيئًا من أجل أحد -عليه الصلاة والسلام-.
قال ابن حجر: وفي الحديث دليل على جواز كتابة العلم، وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة، وعلى أن الاختلاف قد يكون سببًا في حرمان الخير، كما في قصة الرجلين اللذين تخاصما فتلاحى فلان وفلان فرفعت، تخاصما فرفع تعيين ليلة القدر بسبب ذلك، الذي حصل حينما تلاحى فلان وفلان، لا شك أنه سبب في رفع تعيين ليلة القدر، وإذا أراد الله شيئًا يسر السبب، لكن هل من مصلحة العباد أن تعين ليلة القدر أو نقول: ليس لنا خيرة في هذا، المصلحة فيما اختاره الله-جل وعلا-؟
المقدم: الخيرة فيما اختاره الله.
فيما اختاره الله، لقد تعظم الأجور وتكثر، يعني لو حددت ليلة القدر بنص لا يحتمل صار الناس ما يقومون إلا هذه الليلة.
المقدم: مع كل أسف يخبرون من يرى رؤيا إن صح أو زعمهم ويتكاسل الناس عن بقية الأيام.
وهذا القول ليس بصحيح، خطأ، خطأ بلا شك؛ لأنه يحرم الناس من القيام، وأثره على عموم الناس ظاهر، النبي -عليه الصلاة والسلام- المؤيد بالوحي يقول: رفعت، رفع العلم بها، وصار يخبر بأحاديث هي أقرب ما تكون إلى تعميتها، «التمسوها في السبع الأواخر»، «رأيت كأني أسجد على ماء وطين» ليلة واحد وعشرين، المقصود أنه أخبر عنها بأحاديث نشأ عن هذه الأحاديث اختلاف كبير بين أهل العلم، والحكمة ظاهرة في إخفائها، ولذا لا يسوغ الإخبار مع أنه مظنون، يعني بناءً على رؤى، رؤى لا يثبت بها حكم شرعي، والمؤيد بالوحي ما أخبر ولا جزم ولا قطع، وهؤلاء يجزمون بأن هذه ليلة القدر، وأخيرًا صدر بعض النشرات تبين فيها ليلة القدر إلى قيام الساعة.
المقدم: تحديدها بالأيام.
بالأيام وبالتواريخ المختلفة، يعني لو كان اختيار وترجيح الليلة سبع وعشرين إلى قيام الساعة، هذا فيه سلف من أهل العلم، ليلة أربع وعشرين فيه سلف، ليلة تسع وعشرين فيه سلف، واحد وعشرين إلى غير ذلك له سلف، لكن يخبر من هذا اليوم إلى قيام الساعة، ومع ذلك يحدد ليالٍ، هذا في تقديري خطأ، خطأ ظاهر، ولو لم يمكن فيه إلا حرمان من أراد أن يتعبد من زيادة الخير، النقص ظاهر في ليالي الأشفاع. يعني تأتي ليلة واحد وعشرين زحام، ليلة اثنين وعشرين أخف، لماذا؟ لأن ليالي الأوتار أرجى منها، ليلة سبع وعشرين زحامٌ شديد، ليلة ست وعشرين خفيف، ليلة ثمان وعشرين خفيف، يقل عدد المصلين، فكل هذا لا شك أن فيه تثبيطًا وتكسيلًا لمن أراد العبادة، والعبادة على كل حال مما حث عليها ولو لم يكون فيها إلا «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه»، و«من يقوم مع الإمام إلى أن ينصرف يكتب له قيام ليلة»، وهذا فيه حرمان لكثير من الناس بسبب أو بناءً على رؤى.
ويقول ابن حجر: وفيه وقوع الاجتهاد بحضرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، اجتهاد بحضرة النبي-عليه الصلاة والسلام-؛ لأن عمر اجتهد وقال: قوموا، ماذا قال عمر؟ قال «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا» ، فاختلفوا، فدل على أن هناك اجتهادًا من عمر ومن غيره، ولم ينكر عليهم النبي-عليه الصلاة والسلام-، فدل على وقوع الاجتهاد في عصره -عليه الصلاة والسلام-.
هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في سبعة مواضع:
الأول: هنا في كتاب العلم، في باب كتابة العلم، يقول الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: حدثنا يحيى بن سليمان قال: حدثني ابن وهب قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله يعني بن عتبة عن ابن عباس قال: «لما اشتد بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وجعه.. » فذكره، والمناسبة ظاهرة لباب كتابة العلم؛ لأنه يقول: «ائتوني بكتاب أكتب لكم»، هذا ظاهر مناسبته لكتابة العلم، وتقدم الكلام فيه.
الموضع الثاني: في كتاب الجهاد، في باب جوائز الوفد، هذا من العجائب بابان وراء بعض، في باب جوائز الوفد وباب هل يستشفع إلى أهل الذمة ومعاملتهم؟ باب هل يستشفع إلى أهل الذمة ومعاملتهم؟ ترجمتين مترادفتين وتحتهما الحديث، يعني الأصل كما جرت عادته، يعني يقول: باب جوائز الوفد، وهل يستشفع إلى أهل الذمة ومعاملتهم؟ يعطف أكثر من حكم؛ لأنها تستنبط، أو يأتي بالترجمة الأولى ويورد الحديث، ثم يأتي بالترجمة الثانية ويورد الحديث، ولعل هذا من باب التفنن في التصنيف، وإن كانت النسخ غير متفقة على مثل هذا، بعضها تجمع بين الترجمتين، وبعضها تذكر باب جوائز الوفد، ولا تذكر الترجمة الثانية، والعكس، وعلى كل حال هذا الواقع، هذا واقع الكتاب، قال -رحمه الله تعالى-: حدثنا قبيصة قال: حدثنا ابن عيينة عن سليمان الأحول عن سعيد بن جبير عن بن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: «يوم الخميس وما يوم الخميس ثم بكى حتى خضب دمعهُ الحصباء» ، هذا ابن عباس تذكر مرض النبي -عليه الصلاة والسلام-، فبكى حتى خضب دمعه الحصباء، «فقال: اشتد برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجعه يوم الخميس فقال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده أبدًا فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي التنازع»، فذكر الحديث بطوله، وفيه: «أوصي بثلاث، أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، ونسيت الثالثة»، الآن حديث الباب، حديث الباب ظاهره أن ما فيه أي وصية.
المقدم: ما كتب شيئًا.
ما كتب شيئًا.
المقدم: وهنا ابن عباس -رضي الله عنه- يقول ثلاث.
نعم، ثم أوصي بثلاث هل يختلف هذا مع ما معنا؟
المقدم: لعل الوصية تكون مستقلة ليست داخلة ضمن الكتاب.
يعني أوصاهم بكلام شفوي.
المقدم: بكلام شفوي نعم.
لكن ما كتب، أوصاهم لما رآهم اختلفوا، وترجح عنده أنه لا يكتب -عليه الصلاة والسلام- أوصاهم بهذه الثلاث، مناسبة الحديث للباب الأول جوائز الوفد، وفيه: وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، ظاهرة، ومناسبته للباب الثاني باب هل يستشفع إلى أهل الذمة ومعاملتهم؟ لعله لما أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- بإخراجهم اقتضى ذلك رفع الاستشفاع، والحض على إجازة الوفد يقتضي حسن المعاملة. والموضع الثالث: في كتاب الجزية والموادعة، في باب إخراج اليهود من جزيرة العرب، حدثنا محمد وهو ابن سلام (على خلاف في تشديده وتخفيفه)، قال: حدثنا ابن عيينة عن سليمان الأحول سمع سعيد بن جبير سمع ابن عباس يقول: «يوم الخميس.. » ، فذكره بنحو الموضع الثاني الذي تقدم، والمناسبة ظاهرة بالجزية والموادعة وإخراج اليهود من جزيرة العرب، وفيه الوصية بإخراجهم.
والموضع الرابع في كتاب المغازي، في باب مرض النبي -صلى الله عليه وسلم- ووفاته، قال: حدثنا قتيبة قال: حدثنا سفيان عيينة عن سليمان الأحول عن سعيد بن جبير قال ابن عباس فذكره بنحو الموضعين الثالث والرابع، والمناسبة ظاهرة، باب مرض النبي -صلى الله عليه وسلم- ووفاته اشتد وجعه.
المقدم: ودخولها في المغازي سبق أن ذكرنا تصنيفها العلمي في مثل هذا، يعني دخول حديث وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- في المغازي.
نعم؛ لأنهم يذكرون أيامه.
المقدم: أيامه وأخباره.
أيامه وأخباره في مغازيه.
الموضع الخامس: في الباب المذكور من الكتاب نفسه كرره -رحمه الله- قال: حدثنا على بن عبد الله قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لما حُضر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي البيت رجال فقال النبي-صلى الله عليه وسلم-: «هلم أكتب لكم كتابًا لم تضلوا بعده»، لما حُضر هذا بعد مرضه -عليه الصلاة والسلام-.
والموضع السادس: في كتاب المرضى، باب قول المريض: قوموا عني، قال: حدثنا إبراهيم بن موسى قال: حدثنا هشام عن معمر حاء حدثنا عبد الله بن محمد (تقدمت الحاء مرارًا، وأن المراد بها التحويل من إسناد إلى آخر).
المقدم: إلا عند المغاربة.
عند المغاربة الحديث، قال: حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «لما حُضر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» فذكره بنحو الموضع الخامس، وفيه: قوموا، والترجمة باب قول المريض: قوموا عني، فالمناسبة ظاهرة.
والموضع السابع في كتاب الاعتصام بالكتاب السنة في باب كراهية الاختلاف، قال -رحمه الله-: حدثنا إبراهيم بن موسى قال: حدثنا هشام عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس-رضي الله عنهما- قال: «لما حضر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي البيت رجالٌ فيه عمر بن الخطاب قال: هلم أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده» فذكره، والمناسبة لكتاب الاعتصام ظاهرة، حسبنا كتاب الله، وكراهية الاختلاف؛ لأنه ترتب عليها رفع ما أراد النبي -عليه الصلاة والسلام- فعله. والحديث أيضًا خرجه الإمام مسلم، فهو متفق عليه.
المقدم: جزاكم الله خيرًا، وأحسن إليكم، ونفع بعلمكم. ونسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم جميعًا بكل خير.
أيها الإخوة والأخوات، بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة، لقاؤنا بكم يتجدد بإذن الله تعالى في حلقة قادمة، وأنتم على خير. سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.