كتاب الجهاد والسير من المحرر في الحديث - 03
"بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين وللمستمعين يا رب العالمين.
قال المؤلف -رحمه الله-:
وعن الصعب بن جُثَامة.."
جَثَّامة جَثَّامة.
أحسن الله إليك.
"وعن الصعب بن جَثَّامة قال: سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أهل الدار من المشركين يبيّتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم فقال: «هم منهم»، متفق عليه، زاد ابن حبان: ثم نهى عن قتلهم يوم حنين.
وعن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها قالت: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قِبَل بدر، فلما كان بحرة الوبرة أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة، ففرح أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رأوه، فلما أدركه قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: جئت لأتبعك وأصيب معك، قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «تؤمن بالله ورسوله؟» قال: لا، قال: «ارجع، فلن أستعين بمشرك»، قالت: ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل فقال له كما قال أول مرة فقال له النبي -عليه الصلاة والسلام- كما قال أول مرة، قال: لا، قال: «ارجع فلن أستعين بمشرك»، قالت: ثم رجع فأدركه بالبيداء، فقال له كما قال بالبيداء، فقال له كما قال أول مرة: «تؤمن بالله ورسوله؟» قال: نعم، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «فانطلق»، رواه مسلم.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن امرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقتولة.."
أحسن الله إليك.
"أن امرأة وُجدت في بعض مغازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقتولة، فأنكر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قتل النساء والصبيان، متفق عليه.
وعن الحسن عن سمرة -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «اقتلوا شيوخ المشركين، واستبقوا شرخهم»، رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه، والشرخ: الشباب.
وعن حارثة بن مضرب عن علي -رضي الله عنه- قال: تقدم عتبة بن ربيعة، وتبعه ابنه وأخوه، فنادى من يبارز، فانتدب له شباب من الأنصار فقال: من أنتم؟ فأخبروه فقال: لا حاجة لنا فيكم، إنما أردنا بني عمِّنا فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «قم يا حمزة، قم يا علي، قم يا عبيدة بن الحارث» فأقبل حمزة إلى عتبة، وأقبلت إلى شيبة، واختَلف بين عبيدة والوليد ضربتان.."
واختُلِف.
واختُلِف أحسن الله إليك.
"واختُلِف بين عبيدة والوليد ضربتان، فأثخن كل واحد منهما صاحبَه، ثم ملنا إلى الوليد فقتلناه، واحتملنا عبيدة، رواه أحمد وأبو داود، وهذا لفظه، وحارثة وثَّقه ابن معين، وصحح الترمذي وابن حبان حديثه، لكن الذي في مغازي ابن إسحاق أن عليًّا قتل الوليد، وحمزة قتل شيبة، وأن عبيدة بارز عتبة، فالله أعلم.
وعن جابر بن عتيك أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: «من الغِيرة ما يحب الله».."
من الغَيرة.
من الغِيرة، من الغَيرة، أحسن الله إليك.
"«من الغَيرة ما يحب الله، ومنها ما يبغض الله، فأما التي يحبها الله- عز وجل- فالغيرة في الرَّيبة..»".
في الرِّيْبة.
أحسن الله إليك.
"«فالغيرة في الرِّيبة، وأما التي يبغضها الله فالغَيرة في غير رِيبة، وإن من الخيلاء ما يبغض الله، ومنها ما يحب الله، فأما الخيلاء التي يحب الله فاختيال الرجل في نفسه عند اللقاء، واختياله عند الصدقة، وأما التي يبغض الله -عز وجل- فاختياله في البغي والفخر»، رواه أحمد وأبو داود والنسائي وأبو حاتم البستي.
وعن يزيد بن أبي حبيب قال: حدثني أسلم بن أبو عمران.."
أحسن الله إليك..
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،
فيقول المؤلف -رحمه الله- تعالى: "وعن الصَّعْب بن جَثَّامَة قال: سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أهل الدار من المشركين يُبَيَّتُون"، في صحيح ابن حِبَّان: عن الصَّعْب بن جَثَّامة قال: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم-، بهذا يتبين المبهم، وأن السائل هو راوي الحديث الصعب بن جَثَّامة.
سئل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن أهل الدار، يعني ممن يراد قتالهم من المشركين يُبَيَّتون التَّبْيِيْت هو الإغارة بالليل على غفلة وغِرَّة، التبييت هو الإغارة بالليل، لذا قال أهل العلم: فإنه لا يدري أين باتت يده، يعني بالليل من نوم الليل، يبيَّتون يُغار عليهم بالليل على غِرَّة وغَفلة مع اختلاط رجالهم بنسائهم وصبيانهم.
"فيصيبون من نسائهم وذراريهم فقال: «هم منهم»" إذا لم يمكن التمييز بين الكبار من المقاتِلَة وبين من جاء النهي عن قتلهم كالنساء والذراري كأن تترس الكفار بنسائهم أو بذراريهم فإنهم يقتلون معهم فقال: «هم منهم»، يعني هم كفار مثلهم، لكن جاء النهي عن قتل النساء والذراري، وذلك حينما يتميزون عن الكبار، ويكونون في مأمن من القتل إذا قتل الكبار، أما إذا لم يمكن تمييز الكبار من الصغار والرجال من النساء، فإن الجميع يقتلون ارتكابًا لأخف الضررين، ارتكابًا لأخف الضررين، والدلالة الأصلية بقوله أو من قوله -عليه الصلاة والسلام-: «هم منهم»، يعني في هذا الموضع هم منهم في هذا الموضع، وهناك دلالة فرعية استدل بها بعض العلماء فقال: إنهم منهم، يعني في حكمهم في الدنيا والآخرة، فهم في النار كالكبار، أولاً هل الحديث سيق لبيان حكمهم في الآخرة، أو لبيان حكمهم في الدنيا؟
الحديث سيق لبيان حكمهم في الدنيا، وهذه دلالته الأصلية، ففيه دليل على جواز ذلك، لكن هل يمكن أن يستدل بقوله: هم منهم فيأخذون حكمهم في الدنيا والآخرة؟ فيكونون مثلهم في الدنيا يقتلون، وفي الآخرة يدخلون النار، والأدلة في أطفال المشركين معروفة؟
جاء فيها أكثر من نص، جاء فيهم أنهم منهم، كما هنا، وجاء فيهم أنهم يمتحنون كأهل الفترة وجاء فيهم أنهم خدم أهل الجنة، جاء فيهم نصوص بسببها اختلف العلماء في حكمهم على أقوال استوعبها بأدلتها ابن القيم في أواخر طريق الهجرتين، فليرجع إليه.
المقصود أن الاستدلال بالدلالة الفرعية على مثل هذا الحكم استدلال بدلالة ضعيفة عند جمع من أهل العلم.
"زاد ابن حبان: ثم نهى عن قتلهم يوم حنين" قد يقول قائل: إنه جاء النهي عن قتل النساء والذراري، وهنا قال: هم منهم، يوم حنين متأخِّر عن القصة التي ذكرها الصَّعْب، فيرون أن النهي ناسخ، على أن جمعًا من أهل العلم أن ما زاده ابن حبان مدرَج في حديث الصعب، وليس من أصله، وجاء أيضًا أن النهي عن القتل كان يوم خيبر، والصواب حُنَيْن؛ لأن خالد بن الوليد ما أسلم إلا بعد خيبر، وشهد الفتح، وشهد حنينًا، فلعل حُنين إن سلم من الإدراج يكون هو المحفوظ.
قال -رحمه الله-: "وعن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها قالت: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قِبَل بدر" يعني جهة بدر، "فلما كان بحرة الوبرة" يعني خرج من المدينة وكان منها على بضعة أميال في مكان يقال له: حرة الوبرة، "فلما كان بحرة الوبَرة أدركه رجل قد كان يُعرَف منه جرأة ونجدة" يُعرَف بالشجاعة هذا الرجل الذي تبعهم، يعرف بالشجاعة، "ففرح أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رأوه"، ولا شك أن القتال والجهاد يحتاج إلى مثل هذا، والمقاتلون إذا صار معهم من هذا الجنس أو من هذا النوع عَدد يرتاحون، ويخف عليهم الهم والحمل إذا وجد من يسعفهم من أهل الشجاعة والجرأة والنجدة، ولذلك فرح به أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رأوه.
"فلما أدرك النبي -عليه الصلاة والسلام- قال لرسول الله: جئتُ لأتبعك وأصيب معك، وأصيب معك" يعني من إيش؟
من الغنيمة، يصيب معه من الغنيمة، يعني يذهب لقتال، احتمال أن يُقتَل لا في سبيل الله، يعني الذي يسهل الأمر على المسلم أنه موعود بإحدى الحسنيين، لكن الكافر ماذا تُعادِل أو ماذا يعادِل حطام الدنيا الذي يصيبه بالنسبة لنفسه؟
"جئتُ لأتَّبِعَك وأصيب معك، قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «تؤمن بالله ورسوله؟»"؛ لأن الذي لا يؤمن بالله ورسوله لا تؤمَن منه الخيانة الذي لا يؤمِن بالله ورسوله لا يؤمَن، لا تؤمَن منه الخيانة، "قال: لا"، مازال كافرًا مشركًا قال: «فارجع»، يعني ليس لنا بك حاجة، إنما حاجتنا فيمن يعيننا على عدونا، ويصدق معنا في اللقاء وهو المسلم الذي يرجو ثواب الله، ويخشى عقابه، أما الكافر الذي قد يحتاج إليه في لحظة من اللحظات فيخذلهم مثل هذا. «ارجع، فلن أستعين بمشرك، ارجع فلن أستعين بمشرك».
الجهاد ذروة سنام الإسلام، فكيف يتولاه من لا يؤمِن بيوم الحساب؟ ارجع فلن نؤمن بمشرك. "قالت: ثم مضى حتى إذا كان بالشجرة أدركه الرجل فقال له كما قال أول مرة"، جئت لأتبعك وأصيب معك، "فقال له النبي -عليه الصلاة والسلام- كما قال أول مرة، «تؤمن بالله ورسوله؟»" فأجاب بنفس الجواب، "قال: لا، قال: «فارجع فلن أستعين بمشرك»، قال: ثم رجع فأدركه بالبيداء، قال: ثم رجع فأدركه بالبيداء فقال له كما قال أول مرة.
«تؤمن بالله ورسوله؟» قال: نعم، قال: نعم، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فانطلِق»" إذًا فانطلق يعني معنا، وجاهد معنا وقاتل معنا؛ لأنك أسلمت، فصار لك ما للمسلمين، وعليك ما على المسلمين، يستدل بهذا من لا يرى جواز الاستعانة بالمشركين، وهذا قول طائفة من أهل العلم، ودليله صريح، وتعليله واضح، دليله حديث الباب ومخرج في الصحيح وعلته ظاهرة؛ لأن المشرك لا يؤمَن أن ينقض على المسلمين، أو يخذلهم في أحوج ما يكونون إليه، فلا تجوز الاستعانة بالمشركين، وهذا قول معروف عند أهل العلم.
وذهب الحنفية إلى جواز ذلك إلى جواز ذلك؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- استعان بصفوان بن أمية يوم حنين، استعان بصفوان بن أميَّة يوم حنين، لكن هل الاستعانة بصفوان بجهاده، بقتاله بنفسه أو بسلاحه يُستعار منه؟
بالسلاح، لعل قول الحنفية حينما تكون الحاجة داعية إلى الاستعانة، وحينما يغلب على الظن الهلاك عند المسلمين لاسيما إذا دهمهم عدو لا يطيقونه إذا دهمهم عدو لا يطيقونه، فرق بين أن يكون الجهاد جهاد طلب، وأنت الطالب للعدوّ، فكونك تكف عن طلبه حتى تقدر عليه، لا شك أن هذا أولى من أن يستعين بمشرك، لكن إذا دهم العدو بلاد المسلمين، وغلب على الظن أنه يبيد خضراءهم، ويقضي عليهم، ووُجِدَ من الكفار من عُرِف بالوفاء بالعهود فلعل هذا هو ما يذهب إليه الحنفية، وإلا فلا يُظَن بهم أنهم يرون الاستعانة بهم مطلقًا.
وعلى كل حال إذا دعت الضرورة إلى الاستعانة بهم فقد أجازه جمع من أهل العلم، والضرورة أيضًا تقدَّر بقدرها، ولا يجوز أن تستمر الضرورة، بل لا بد من الإعداد، إعداد العُدَّة والقوة التي أمرنا بها؛ لنرفع عن أنفسنا هذه الضرورة، وإذا أجيزت الضرورة في ظرف أو في وقت فإنه لا يجوز الاستمرار على حال الضعف حتى نحتاج إلى عدونا؛ ليدافع عنا وهو في الوقت نفسه يتربص بنا الدوائر، فكأنه يتولى طرفي العقد، فقول الحنفية مربوط بالضرورة، وإذا انتهت الضرورة انتهت الحاجة إليهم، ودليل الباب صريح في عدم الاستعانة بالمشركين.
"وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن امرأة وُجِدَت في بعض مغازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقتولة أن امرأة وُجِدَت في بعض مغازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقتولة، فأنكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قتل النساء والصبيان".
إنما يُقتَل المقاتِلَة، فلا يُقتَل النساء؛ لأنهن في الأصل لسن من أهل القتال، لكن لو شاركت صار حكمها حكم الرجال، وكذلك الذراري، وكذلك الشيوخ، وكذلك المنقطعون للتعبد مثل هؤلاء لا يُتَعرَّض لهم؛ لأنهم لا يقاتِلون.
نهى عن قتل النساء والصبيان في الحديث السابق، «هم منهم» فهو محمول على حالة ما إذا اختلط الجميع ولم يمكن تمييز الكبار من الصغار ولا الرجال من النساء، «هم منهم»، أما إذا تميَّز النساء عن الرجال، وتميَّز الصبيان عن الكبار فإنه حينئذ لا يجوز قتلهم، لا يجوز قتلهم، وذكرنا في درس سبق ما بين قوله: نهى عن قتل النساء والذرية، وما في قوله -عليه الصلاة والسلام-: «مَن بَدَّل دينه فاقتلوه، مَن بَدَّل دينه فاقتلوه»، الحديث عام في الرجال والنساء، مَنْ مِن صيغ العموم، فالمرتد يقتل سواءً كان ذكرًا أو أنثى، لكن هذا خاص بالمرتد، النهي عن قتل النساء في حديث الباب خاص بالكوافر الأصليات، خاص بالكوافر الأصليات، بدليل «مَن بدل دينه فاقتلوه».
قد يقول قائل: إن ما بين النصين ليس من باب العموم والخصوص المطلق لنقول: إن هذا خاص بالكوافر الأصليات، وذاك عام في الجميع خاص بالمرتدات، لكن عمومه من وجه، وخصوصه من وجه، النص الذي معنا خاص بالنساء لا يشمل الرجال، نهى عن قتل النساء، لكن عمومه يشمل الأصليات والمرتدات، نهى عن قتل النساء، والثاني «من بدل دينه فاقتلوه» عام في كل من ارتد من الرجال والنساء، لكنه خاص بالمرتد بمن بدل دينه، ولا يشمل الكوافر الأصليات، فهناك عموم وخصوص وجهي، وحينئذ نحتاج إلى مرجِّح خارجي، نحتاج إلى مرجِّح خارجي، ففي العمومَين هل العمومان على حد سواء في الحفظ من عدمه؟
يعني عموم «من بدل دينه فاقتلوه»، هل محفوظ أو مخصوص؟ وُجد ما يخصصه «من بدل دينه فاقتلوه»، وجد نص في المرتدة أنها لا تقتل؟ لكن نهى عن قتل النساء، المرأة إذا قَتَلت تُقتَل أم ما تُقتل؟ المرأة إذا زنت وهي محصنة ترجم أم ما ترجم؟ ترجم، فعموم النهي عن قتل النساء غير محفوظ؛ لأنه دخله المخصصات، وعموم «من بدل دينه فاقتلوه» محفوظ، فيقدَّم عمومه على عموم النهي عن قتل النساء، وبهذا قال جمهور العلماء، وأن المرتدة تقتل بخلاف الكافرة الأصلية فإنها لا تُقتَل، فالجمهور على قتل المرتدات خلافًا للحنفية.
"وعن الحسن عن سمرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «اقتلوا شيوخ المشركين، واستبقوا شَرْخَهم»".
يعني استبقوا الشباب، وأما الشيوخ كبار السن فاقتلوهم، لماذا؟
لأنه في الغالب أن الشباب أقرب إلى الاستجابة والدخول في الإسلام من الشيوخ الكبار، هذا هو الغالب، مع أن الحديث ضعيف، فيه سعيد بن بَشِيْر، وهو مضعَّف عند أهل العلم، وفيه أيضًا رواية الحسن عن سمرة، فيه رواية الحسن عن سَمُرَة، والحسن معروف أنه مدلِّس، وتدليسه شديد، وقد روى بالعنعنة، فلا تُقبَل، على خلاف بين أهل العلم فيما يرويه الحسن عن سمرة، منهم من يقول: إن رواية الحسن عن سَمُرَة منقطعة، وأنه لم يسمع منه مطلقًا، ومنهم من أثبت سماعه من سمرة مطلقًا، ومنهم من قال: إنه سمع حديث العقيقة فقط؛ لأنه صرح بسماعه عن حبيب بن الشهيد قال: قال لي محمد بن سيرين: سل الحسن ممن سمع حديث الحقيقة، فقال: من سَمُرَة، فأثبت السماع لحديث العقيقة، لكن هل يلزم من سماع الحسن لحديث العقيقة أن يسمع غيره لاسيما وأن تدليسه شديد؟ يدلِّس عن ضعفاء، ورواه بصيغة العنعنة، ومثل الحسن إذا روى بصيغة العنعنة فإنه لا يقبل خبره.
الحسن إمام من أئمة المسلمين، الحسن إمام من أئمة المسلمين بلا منازِع، لكن وَصْمَة التدليس لم يسلم منها بعض الأئمة، لم يسلم منها بعض الأئمة، وليست بكذب؛ لأنه يروي بصيغة محتمِلَة؛ لأن المدلِّس يروي بصيغة محتمِلة، لكن لو روى بصيغة صريحة قال: سمعت فلانًا، أو حدثني فلان، فلا يكفي أن يقال: مدلِّس، إنما يقال: كذَّاب، قد يدلِّس في الصيغة كما حصل للحسن قال: حدثنا أبو هريرة، وهو ما سمع أبا هريرة، إنما حدث أهل المدينة وهو فيها، وهذا تدليس من نوع خاص، يعني هناك تدليس يمشي على عامة الناس، ولا يمشي على الخاص، لكن هناك تدليس، تدليس مثل حدثنا أبو هريرة، يعني أهل المدينة، وأنا فيها يعني ما سمعت، من يكشف مثل هذا؟
ونظيره في واقع الناس الذي يدلِّس على الناس ويصبغ لحيته بالسواد هذا مدلس ويكتشف يعني لكن الذي يصبغ لحيته بالسواد ويخرج شعيرات أربع أو خمس أو عشر ما يصبغها يخليها بيض يصبغ الباقي هذا تدليس من نوع خاص ينطلي حتى على الخاصة، يعني فالتدليس درجات وطبقات.
وعلى كل حال كونه مدلسًا، يعني لا ينفي أن يكون إمامًا من أئمة المسلمين، وإن كان قدحًا عند شعبة وغيره، لكن جمهور أهل العلم على أنه لا ينافي الثقة، لا ينافي الثقة، ويبقى أنه يرد بعض حديثه لتدليسه.
"وعن الحسن عن سمرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «اقتلوا شيوخ المشركين، واستبقوا شرخهم»"، يعني شبابهم؛ لأنهم كما قال أهل العلم: الشباب أقرب للاستجابة، وأما بالنسبة للشيوخ الذين أمضوا أعمارهم على شيء فإنه يندر فيهم الاستجابة، ولذلك حتى في المناقشات في المسائل العادية في مجالس الناس تجد الكبير يقف عند رأيه، بينما الصغير يقبل النقاش.
وعلى كل حال "رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه" صححه الترمذي، مع أن في إسناده سعيد بن بشير عنده وهو ضعيف، فهذا من تساهله -رحمه الله-.
قال -رحمه الله-: "وعن حارثة بن مضرِّب،عن علي -رضي الله عنه- قال: تقدَّم يعني عتبة بن ربيعة، وتبعه ابنه وأخوه، وتبعه ابنه وأخوه، فنادى من يبارِز؟ فنادى من يبارِز؟" المبارزة يخرج، يبرز شخص فيطلب من يبارزه، فيبرز له نظيره من الفريق الثاني، فيتصارعان ويتقاتلان، ولا شك أن طلب المبارزة ابتداءً والاستجابة لها عنوان الشجاعة، ما كل شخص يبرز يصلح للمبارزة، وقل مثل هذا في المناظرة، ما كل شخص يصلح للمناظرة؛ لأنه لو بَرَز غير الكفؤ وقُتِل، هو يرجو الشهادة في سبيل الله، لكنه يفت في عضد قومه.
المقصود أنه برز عتبة بن ربيعة وتبعه ابنه وأخوه، "فنادى مَن يبارز؟ فانتدب له شباب من الأنصار، فانتدب له شباب من الأنصار فقال: مَن أنتم؟ فأخبروه قال: لا حاجة لنا فيكم، فقال: لا حاجة لنا فيكم"؛ لأن قريشًا يرون لأنفسهم السيادة والقيادة، ويرون أن غيرهم دونهم، فلا يرضى السيد أن يبرز له شاب صغير أو من قبيلة دون قبيلته، ولا شك أن هذا مما جاء الإسلام بهدمه، فالناس سواء، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [سورة الحجرات:13].
وفي هذا المجال يذكر الخلاف في المفاضلة بين العباس عم النبي -عليه الصلاة والسلام- وبلال، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، العباس بن عبد المطلب عم النبي -عليه الصلاة والسلام- له من الفضائل والمناقب، وعم الرجل كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- في حقه «صِنْوُ أبيه»، لكن ميزان الشرع واحد، لا يختلف بالنسبة لفلان ولا علان، يعني أجيب مثل هذا المثال لا لأقرر أن هذا أفضل أو ذاك أفضل، لا، إنما لأبين أن هؤلاء الذين مشوا وجروا على ما كانوا عليه من فخر بالقبيلة والنفس هذه في ميزان الشرع لا تعدل شيئًا، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [سورة الحجرات:13].
لما انتدب له شباب من الأنصار "فقال: من أنتم؟ فأخبروه فقال: لا حاجة لنا فيكم، إنما أردنا بني عمنا" يعني أندادًا، نريد أندادًا أشباهًا نظراء؛ لأنهم يرون أن هؤلاء الشباب دونهم في السن وفي المنزلة، وبين قبائل العرب دونهم على حد زعمهم، فإن قتلوهم فلا فخر لهم عليهم، وإن قتلوهم صارت المصيبة مثل ما حصل فيما يذكر عن الحجاج أنه طلب من يصارعه، فخرجت امرأة، فرفض، هي مصيبة على الوجهين إن صرعها قيل: ما له فخر، امرأة، وإن صرعته عاد العار فهم يرونهم بهذه المنزلة.
"لا حاجة لنا فيكم، إنما أردنا بني عمنا فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «قم يا حمزة، قم يا حمزة»" أسد الله، «قم يا علي»، وعلي معروف بشجاعته وجرأته وإقدامه -رضي الله عنه وأرضاه-: «قم يا عبيدة بن الحارث»، أنداد أنداد بالنسبة للوضع الاجتماعي، وإلا فلا نسبة بين مسلم وكافر، هؤلاء نظراء بالنسبة لتقدير القوم الذين طلبوا المبارزة ورضوا بهم؛ لأنهم على حد زعمهم على المستوى المطلوب.
«قم يا حمزة، قم يا علي، قم يا عبيدة بن الحارث»، الرسول -عليه الصلاة والسلام- حينما ينتدب للمبارزة أقرب الناس إليه بهذا يكون الاقتداء، وبهذا تمتثل الأوامر، أما الذي يأمر الناس ويفرض على الناس، ويجعل أحبابه وأقاربه آخر الناس، هذا ما يمتثل أمره، ولا يطاع، ولذلك لما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- في خطبته الشهيرة في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا»، إلى آخر الخطبة، ثم قال: «وأول دم أضع دمنا دم ابن ربيعة بن عبد المطلب» ما قال: أضع دم فلان من هذيل أو فلان من تميم، ودمنا خله آخر شيء، إذا فعل هذا يمتثل أمره؟
إذا لم يكن أول المبادرين إلى الأمر، ويضحي بأقرب الناس إليه امتُثِل أمره، «وأول ربا أضع ربانا ربا العابس بن عبد المطلب»، عمه، أما من يأمر وينهى، ويدافع عن الأقربين، ويدفع الأبعدين، هذا ما يمكن أن يمتثل أمره إن امتثل خوفًا منه في العلانية لا يمتثل منه في السر، ولذا من ندب النبي -عليه الصلاة والسلام-، «قم يا حمزة»، ما قال: والله هذا عمي أولاً كونه ينتدب حمزة؛ لينال بذلك شرف الدنيا والآخرة، ما أسوأ الاحتمالات في تقدير الناس أنه إيش؟ يقتل، وإذا قتل حصلت له الشهادة، وقد حصلت له في يوم أحد حتى صار سيد الشهداء، الرسول- عليه الصلاة والسلام- أول من يبرز في القتال -عليه الصلاة والسلام- «قم يا حمزة، قم يا علي، قم يا عبيدة بن الحارث».
"فأقبل حمزة إلى عتبة"، وسيأتي في الرواية الأخرى أن حمزة قتل شيبة، "فأقبل حمزة إلى عتبة، وأقبلتُ إلى شيبة"، هذا من حديث علي -رضي الله عنه-، وأقبلتُ يعني علي -رضي الله عنه- إلى شيبة، وفي الرواية الأخرى أن عليًّا قتل الوليد، وحمزة قتل شيبة، وأن عبيدة بارز عتبة فالله أعلم.
يقول: "فأقبل حمزة إلى عتبة، وأقبلتُ إلى شيبة، واختُلِف" يعني أقبل حمزة إلى عتبة فقتله، وأقبلتُ إلى شيبة فقتلته، "واختُلِف بين عبيدة والوليد ضربتان" يعني كل واحد ضرب الثاني، فأثخن يعني أثقل صاحبه بالجراح، "فأثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم ملنا إلى الوليد، فقتلناه واحتملنا عبيدة"، يعني ثم مات عبيدة -رضي الله عنه وأرضاه-.
"رواه أحمد وأبو داود، وهذا لفظه، وحارثة وثّقه ابن معين" حارثة بن مضرِّب، "وثقه ابن معين، وصحح الترمذي وابن حبان حديثه، لكن الذي في المغازي مغازي ابن إسحاق أن عليًّا قتل الوليد، وحمزة قتل شيبة، وأن عبيدة بارز عتبة، فالله أعلم".
يعني الله أعلم بالراجح من الروايتين، وعلى كل حال هو بهذا السياق الذي ذكره المؤلِّف مضعَّف، وعلته كما قال المحقق أن في إسناده أبا إسحاق السبيعي فهو مدلس مختلق، وقد عنعن، ورواية إسرائيل عنه بعد الاختلاط على أرجح قولي أهل العلم بالحديث، الرواية الثانية المخالِفة التي في مغازي ابن إسحاق، ابن إسحاق هو إمام أهل المغازي، واختلَف العلماء فيه اختلافًا كبيرًا في روايته للحديث، في المغازي إمام، فيقدَّم على غيره، وإن كانت روايته في الحديث فيها شيء من الضعف، واختُلِف فيها اختلافًا كبيرًا، منهم من شدد القول فيه حتى نُقِل عن مالك أنه دجال من الدجاجلة، ووجد من وثقه مطلقًا، وتوسط في أمره آخرون فقالوا: إذا صرح بالتحديث فحديثه في حيِّز الحسن، لا يرتقي إلى الصحيح، ولا ينزل إلى الضعيف.
على كل حال هو صاحب تخصص فما يرويه في المغازي يرجَّح على غيره، اللهم إلا ما يخرَّج في الصحيحين، كذلك ما يرويه موسى بن عقبة في مغازيه يرجَّح، وأهل العلم يلحظون هذا الملحَظ فيما يختص به الإنسان، ويعتني به فيما يختص به الإنسان، ويعتني به لو وجدنا شخصًا متمكنًا في علم من العلوم في النحو أو في البلاغة، أو في أصول الفقه متمكن بالفعل ما هو دعي، حامل شهادة بدون علم أو اسم علم، أو اجتاز مرحلة وحمل، لا، متمكن في علمه ثم اختلف مع مفسِّر أو محدِّث في مسألة في تخصصه فالغالب والأصل أن هذا المتخصص هو المرجح قوله، ولو كان ضعيفًا في علوم أخرى، وهذا مثل ابن إسحاق في المغازي، ومثل ما يُذكَر عن الإمام أبي حنيفة في الفقه، مع أنه متكلَّم فيه في الحديث، ومثل ما يُذكَر عن عاصم القارئ في القراءة ضابط متقن، لكن في الرواية في حفظه شيء، وهذا مثل ما ذكرنا فيمن يتخصص بفن من الفنون ويتقنه في جانب من يعارضه من له مساهمة في كثير من العلوم، الأصل أن من يهتم بهذا الشيء يتقنه ويضبطه أكثر من غيره، لكن يبقى أن بعض العلوم تحتاج إلى بعض، يعني متخصص في أصول الفقه يعرف القواعد النظرية، وهو ضعيف في التطبيق في المسائل الفقهية، وجاءنا فقيه يتصور المسائل، ومع تصوره للمسائل الفرعية يربطها بأصولها وعود نفسه على هذا، عنده ما يرجحه على الأصولي المحض الذي ليست له عناية بالتطبيق، وقل مثل هذا في كثير من العلوم؛ لأنه قد يعرِض كما يقرر أهل العلم للمفوق ما يجعله فائقًا. وعلى كل حال ابن إسحاق إمام في المغازي، وإن كان فيه كلام طويل جدًّا لأهل العلم في الرواية، وهناك من برع في علم من العلوم، وغفل عن العلوم الأخرى، فدخل عليه الدَّخل من هذه الحيثية.
ونكتفي بهذا.
والله أعلم
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.