لا شك أنه قيل بأن باب الاجتهاد في التصحيح والتضعيف أُغلق، وهو طَرْدٌ لقولٍ بإغلاق الاجتهاد حتى في الأحكام، والإلزام بالمذاهب المتَّبعة، ولا شك أن هذا القول باطل بالنسبة لمن تمكَّن وتأهَّل للاجتهاد في هذا الباب أو ذلك الباب، أما من لم يتأهَّل فإن عليه تقليد أهل العلم: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، أما المتأهل فيلزمه أن يقول وأن يعمل بما يثبت عنده ويدين الله -جل وعلا- به، هذا من حيث الإجمال، أما بالنسبة للتفصيل المذكور في السؤال فلا شك أن المعول في الأحكام بالنسبة للتصحيح والتضعيف والكلام في الرواة على أئمة هذا الشأن مِن المتقدمين الذين عرفوا وعاصروا الرواة، وخبروهم وخبروا مروياتهم، وأحاطوا بمرويات الراوي، وجمعوا أحاديثه، وطرق هذه الأحاديث، فصارت الصورة واضحة عندهم ومكتملة، والباب إذا لم تجُمع طرقه لم يتبين خطؤه، بخلاف المتأخرين الذين لم يتصفوا بهذه الصفات، فتجد المتأخر يجمع ما تيسر له من الطرق، ويجمع ما تيسر له من الأقوال في حال هذا الراوي، لكن ليس عنده من الخبرة والمعرفة والإحاطة والبصيرة ما عند المتقدمين، وهذا جعل ابن الصلاح يقول كلامًا فُهم منه إغلاق باب الاجتهاد؛ لأنه ما مِن عالم إلا وقد اعتمد على كتابه عَرِيًّا عمَّا يُشترط في الراوي من الحفظ والضبط والإتقان، وردَّ العلماء على ابن الصلاح قولَه هذا، وأن العلماء ما زالوا إلى عصر ابن الصلاح ومَن بعد ابن الصلاح يصحِّحون ويضعِّفون، لكن الجُرأة على التصحيح والتضعيف قبل التأهُّل لا شك أنها جناية على الدين، فَهَبْ أنك ضعَّفتَ حديثًا وقد صححه أهل العلم وثبت عنه -عليه الصلاة والسلام-، وحَرَمْت الأمة من العمل به، أو العكس صَحَّحتَ حديثًا ضعفه أهل العلم ولا يصل إلى درجة الصحيح، وجعلتهم يعملون بما لا أصل له.
فعلى الإنسان أن يتقي الله -جل وعلا- في هذا الباب وألَّا يجرؤ على التصحيح والتضعيف إلا بعد أن يتأهَّل ويتمرن، ويعرض أحكامه على أحكام العلماء المتقدمين، فإذا وجد المطابقة حمد الله -جل وعلا- على ذلك، وإن وجد اختلافًا بيْن حكمهِ مع حكمهم فعليه أن يراجع النظر في هذا الحديث وفي رواة هذا الحديث، ولا يتعجَّل في إصدار الأحكام حتى تتكون لديه المَلَكة التي تجعله يحكم بأحكام صحيحة، وتوافق أحكامُه أحكامَ الأئمة.