كان النبي-صلى الله عليه وسلم- يصلي في عرفة الظهر والعصر قصرًا، ويصلي خلفه جميع الحجاج من أهل مكة وغيرهم قصرًا وجمعًا، ويقصر كذلك في منى. وهذا صنيعه -عليه الصلاة والسلام- في حجته، وهو صنيع أبي بكر وعمر –رضي الله عنهما-. ثم لما جاء عثمان –رضي الله عنه- أتم الصلاة، متأولًا في ذلك أنه هو ولي الأمر، والبلدان جميعها تابعة له، فهو في بلده أينما حل. ولكن هذا الاستدلال أو هذا المأخذ فيه ضعف؛ لأنه ليس بأولى بذلك من النبي -عليه الصلاة والسلام- وأبي بكر وعمر –رضي الله عنهما-. ومنهم من يقول أنه تأهَّل هناك، أي تزوج وأصبح له أهل فيها. وقيل إن منى سكنت في خلافة عثمان –رضي الله عنه- وأنه بسبب ذلك أتم الصلاة؛ لأنها ما صارت محل سفر بل محل إقامة، لأنه يرى أن المسافر من يحمل الزاد والمزاد. وإذا قلنا بهذا الحد –أن المسافر من يحمل الزاد والمزاد-، قلنا: إن أكثر الأسفار الآن لا يحمل لها زاد ولا مزاد، فليست بسفر ولو طالت مدتها ومسافتها. علمًا أن أصل السفر وهو الوصف المؤثر للترخص أخذه من الإسفار، وهو البروز. فمن برز وخرج عن البلد سمي مسافرًا. ومنه قيل للمرأة: سافرة، إذا أبرزت محاسنها، أو شيئًا من مفاتنها. وعلى كل حال فقول عثمان –رضي الله عنه- مرجوح، ولذا ابن مسعود –رضي الله عنه- وافقه وقال: «الخلاف شر» [أبو داود:1960]، مع أنه لا يرى هذا الرأي. ومثل هذه الموافقة على مثل هذا الصنيع إنما تكون بين فاضل ومفضول، لا تكون بين مباح ومحرم، أو صحيح وفاسد. وهذا من أدلة الجماهير على أن الجمع والقصر من الرخص التي ليست واجبة، ولذا من صلى وهو مسافر أربع ركعات فصلاته صحيحة عند جماهير أهل العلم. فإذا اضطر الإنسان للموافقة وعدم المخالفة ورأى أن في الخلاف شر فله ذلك. وهذا إنما يكون فيما فيه سعة، من ترك مستحب أو ارتكاب مكروه. أما الواجب فلا يجوز تركه بحال، وكذلك المحرم لا يجوز ارتكابه بحال؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.