في قوله –جلَّ وعلا-: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [الحج: 36] يقول تعالى: اذكروا اسم الله على البُدن عند نحركم إيَّاها صواف، بمعنى: مصطفَّة، واحدُها: صافَّة، وقد صفَّتْ بين يديها.
ورُوي عن الحسن، ومُجاهد، وزيد بن أسلم، وجماعةٍ أُخر أنهم قرأوا ذلك: (صوافيَ) بالياء منصوبةً، يعني: خالصةً لله –جلَّ وعلا- لا شريك له، فهي صافيةٌ له لا شِرك فيها.
والقراءة الأولى: {صَوَافَّ} -جمع صافَّة- هذه قراءة الأكثر. وقرأ بعضهم: (صَوافٍ) بإسقاط الياء وتنوين الحرف على مثال: عَوارٍ. ورُوي عن ابن مسعود –رضي الله عنه- أنه قرأ هذا الحرف: (صوافِنّ) بمعنى: مُعقَّلة.
يقول الطبري في تفسيره: (والصواب من القراءة في ذلك عندي قراءةُ من قرأه بتشديد الفاء ونصبها -{صَوَافَّ}-؛ لإجماع الحُجَّة من القَرَأَة عليه بالمعنى الذي ذكرناه لمن قرأه كذلك)، {صَوَافَّ} يعني: تصف ثلاث قوائم، وتُعقل يدُها اليسرى، كما هو السُّنة في نحر الإبل أن تُعقل يدُها اليسرى.
الطبري –رحمه الله- ذكر هذه القراءات التي أشرنا إليها، ثم قال: (والصواب من القراءة في ذلك عندي قراءةُ من قرأه بتشديد الفاء ونصبها؛ لإجماع الحُجَّة من القَرَأَة عليه)، الإجماع عند الطبري هو قول الأكثر، وهذا معروفٌ عنه ومتداول في كتب الأصول، ومن أدلته ما يذكره في مثل هذا المقام؛ لأنه قال: (لإجماع)، مع أنه ذَكَر المُخالِف، فدلَّ على أن قول الأقل لا يَخرق الإجماع، فالإجماع عنده كما هو مشهور ومتداول في كتب الأصول أنه قول الأكثر، وهنا يقول: (لإجماع الحُجَّة من القَرَأَة).
الحافظ ابن كثير –رحمه الله تعالى- نقل عن ابن عباس –رضي الله عنهما- في قوله: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} قال: (قيام على ثلاث قوائم، معقولة يدُها اليسرى، يقول: بسم الله، والله أكبر، اللهم منك ولك، -هذا المراد بذكر اسم الله-. وقال ليثٌ عن مجاهد: إذا عُقِلتْ رجلها اليُسرى قامتْ على ثلاث. وقال الضحاك: تُعقل رجلٌ واحدة فتكون على ثلاث. وفي الصحيحين عن ابن عمر أنه أتى على رجلٍ قد أناخ بدنته وهو ينحرها، فقال: ابعثها قيامًا -يعني قائمةً- مقيدةً، سُنَّة أبي القاسم -صلى الله عليه وسلم-. وعن جابرٍ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم– وأصحابه كانوا ينحرون البُدن معقولة اليسرى قائمةً على ما بقي من قوائمها، رواه أبو داود).
هذا معنى {صَوَافَّ} يعني: قائمة معقولة يدها اليُسرى، فتصفُّ على ثلاث قوائم، فإذا نُحِرتْ سقطتْ، وهذا معنى قوله –جلَّ وعلا-: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36]، {وَجَبَتْ} يعني: سقطتْ، ومنه يُعرِّف الأصوليون الواجب في اللغة: الساقط، ومنه قوله –جلَّ وعلا- {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} يعني: سقطتْ، ومنه "وجبت الشمس" يعني: سقطتْ في مغيبها، والله أعلم.