في قوله -جل وعلا-: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} يعني استغفروا الله عندك، {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} وهذا في حياته -عليه الصلاة والسلام-، {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]؛ لأنه يغفر الذنب لمن تاب.
يقول الحافظ ابن كثير: (يرشد الله تعالى العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيستغفروا الله عنده، ويسألوه أن يستغفر لهم، -وهذا معلومٌ أنه في حياته عليه الصلاة والسلام-، فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفر لهم، ولهذا قال: {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}).
والقصة التي أشار إليها السائل في قوله: (وهل يجوز طلب الاستغفار من الرسول -عليه الصلاة والسلام- بعد مماته استدلالًا بقصة العتبي؟)، هذه القصة مشهورة في كتب التفاسير التي لا تعتني بصحة الأخبار، وهي مشهورة عن العتبي يقول: (كنتُ جالسًا عند قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعتُ الله يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}، وقد جئتك مستغفرًا لذنبي مستشفعًا بك إلى ربي، ثم أنشأ يقول:
يا خيرَ مَنْ دُفنَتْ بالقَاعِ أعظُمُهُ |
|
فطَابَ منْ طِيبِهِنَّ القاعُ والأكَمُ |
نَفْسي الفداءُ لقبرٍ أنتَ ساكنُهُ |
|
فِيهِ العفافُ وفِيهِ الجودُ والكرمُ |
ثم انصرف الأعرابي فغلبتني عيني -يقوله العتبي في القصة المفتراة المكذوبة- فرأيتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- في النوم يقول: يا عتبي اِلحق الأعرابي، فبشره أن الله قد غفر له.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم): (وأما الحكاية في تلاوة مالك هذه الآية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ} الآية، فهي -والله أعلم- باطلة، فإن هذا لم يذكره أحد من الأئمة فيما أعلمه، ولم يذكر أحدٌ منهم أنه استحب أن يُسأل بعد الموت لا استغفارًا ولا غيره).
ويقول ابن عبد الهادي في (الصارم المُنكي): (وفي الجُملة ليست هذه الحكاية المذكورة عن الأعرابي مما يقوم به حجة، وإسنادها مظلم مختلِف، ولفظها مختلِف أيضًا، ولو كانت ثابتة لم يكن فيها حجة على مطلوب المعترض، ولا يصلح الاحتجاج بمثل هذه الحكاية ولا الاعتماد على مثلها عند أهل العلم، وبالله التوفيق).
وعلى كل حال الحكاية منكرة وإسنادها مظلم لا يثبت به خبرٌ عاديٌّ فضلًا عن أن يكون منسوبًا إلى أمرٍ يكون فيه الرسول -عليه الصلاة والسلام- طرفًا، فضلًا عن أن يكون في موضوع يتعلق بالعقيدة، فهذه لا تثبت، والله أعلم.
وبالنسبة للأخبار والقصص التي في التفاسير، فالمفسرون يذكرون القصص وبعضهم يتحرَّى وينقد، وهذا هو الأصل، وما يذكره كثيرٌ من المفسرين اعتمادًا على أن التفسير في أصله لا يُطلَب له الأسانيد القوية، ولذا جاء عن الأئمة أنهم يتساهلون في أسانيد المغازي والتفسير والترغيب وما أشبهها، إضافة إلى ما جاء عنه -عليه الصلاة والسلام-: «حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» [البخاري: 3461]، فهذا فَتَح المجال لأمثال هؤلاء المفسرين فجمعوا في تفاسيرهم ما هبَّ ودبَّ، وصاروا كحاطبِ ليلٍ، ولو أنهم اعتنوا بالتفسير ونقَّحوه مما شابه مما ذُكِر فيه من هذه القصص الباطلة والأخبار الواهية لخفَّ حملُه وخفتْ مراجعته وحفظه على العلماء والمتعلمين، لكن هذه التفاسير أُرهقتْ بهذه القصص وهذه الأخبار عن بني إسرائيل وغيرهم؛ اعتمادًا على تساهل كثير من أهل العلم في الأسانيد التي يثبت بها التفسير، فهذا فَتَح لهم بابًا في التساهل، وإذا فُتح الباب وَلَج فيه ما يصل إلى حدِّ الوضع والنكارة، وما يصل إلى حدِّ ما يخالف الصحيح من كلام الله وكلام رسوله -عليه الصلاة والسلام-، بل ما يخالف المعقول كما هو موجود في بعض التفاسير مع الأسف.
والأصل أن التفسير لكلام الله، ولا يُفسَّر كلام الله إلا بشيء صحيح؛ لأن المفسِّر يقول بلسان حاله: مراد الله -جل وعلا- من هذه الآية كذا، فلا يجوز أن يفسِّر بشيء لا يثبت، والله المستعان.