أبو حاتم الرازي نَقَل عنه ابنه عبد الرحمن في (الجرح والتعديل) الوصفَ لبعض الرواة بأنه (مجهول)، أو (مجهولٌ لا أعرفه)، أو (لا أعرفه)، في أكثر من ألف وخمسمائة راوٍ، والجهالة عند أهل العلم إما أن تعني عدم العلم بحال الراوي، وهذا ما يشير إليه قول ابن حجر في (النخبة) وشرحها: (ومن المهم معرفة أحوال الرواة: جرحًا، أو تعديلًا، أو جهالةً)، فجعل الجهالة قسيمًا للجرح والتعديل، فليست بتعديل ولا تجريح، وإنما هي مرتبة ثالثة، ولذا قال: (ومن المهم معرفة أحوال الرواة: جرحًا، أو تعديلًا، أو جهالةً).
ولكن من أهل العلم كابن حجر في (التقريب) مَن جعل الجهالة من مراتب التجريح، ويترتَّب على هذا الحكمُ على الحديث الذي في سنده راوٍ قيل فيه: (مجهول)، هل نحكم عليه مباشرة بأنه ضعيف؛ لأن فيه الراوي فلانًا وهو مجهول، أو نتوقَّف في حكمه حتى نعرف حال الراوي الذي قيل فيه: (مجهول)؟
فعلى القول بأنها من ألفاظ التجريح نحكم مباشرة؛ لأنه مجروح، وعلى القول بأنها عدم علمٍ بحال الراوي -مثل ما أشارتْ إليه عبارة الحافظ في (النخبة)- نتوقَّف حتى نعرف هل هو مما يُعدَّل أو مما يُجرَّح.
وأبو حاتم في أجوبته لابنه قال في بعض الرواة من الصحابة: (مجهول)، وهو من الصحابة! والصحابة كلهم عدول، بل قال في (حاطب بن عمرو بن عبد شمس من المهاجرين الأولين، سمعتُ أبي يقول: هو مجهول)، من المهاجرين الأولين! وأيُّ وصفٍ للتعديل أبلغ من هذا: من المهاجرين الأولين؟!
وقال في (خُليدة بن قيس بن عثمان من بني نعمان بن سنان الأنصاري، شهد بدرًا، سمعتُ أبي يقول: هو مجهول)، بدريٌّ! من أهل بدر!
وقال في (حمزة بن الجمير -ويقال خارجة بن الجمير- من بني عُبيد بن عدي الأنصاري، بدريٌّ، سمعتُ أبي يقول ذلك، ويقول: هو مجهول)، (يقول ذلك) يعني يقول: (هو بدري)، ويقول: (هو مجهول)! فإذا كان من الصحابة -وأبو حاتم لا يُنازِع في كون الصحابة كلهم عدولًا وكلهم ثقاتًا- فما معنى الجهالة في مثل هذا الكلام؟ قالوا: معناها: قلة الرواية، فهي إشارة إلى قلة الرواية وليست تجريحًا ولا توقُّفًا في تعديله.
وابن أبي حاتم كتابه كبير جدًّا، وفيه أكثر من ألف وخمسمائة –باستقرائي- قال فيهم: (مجهول)، وقال في بعضهم: (لا أعرفه)، وفي بعضهم قال: (مجهول، أي: لا أعرفه)، وهنا يتحدَّد المراد، أنه لا يعرفه، فعلى هذا ليست جرحًا.
وأبو حاتم أحيانًا يذكر الراوي ولا يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، يذكر مجرد اسمه وما يتعلق به من غير ما يدل على جرحه أو تعديله، وقبله البخاري فعل ذلك في (التاريخ الكبير)، فإذا ذُكِر الراوي في (التاريخ الكبير) للبخاري و(الجرح والتعديل) وهما يتوافقان في كثير من الرواة، فكثيرًا ما يقال: (ذكره البخاري وابن أبي حاتم ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا)، فماذا يعني إذا لم يُذكر فيه جرح ولا تعديل؟ يعني أنه لا تُعرَف حاله، فهو مجهول أيضًا، خلافًا لمن زعم أن هذا تعديلٌ وأمارةُ توثيق، والشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- سواء كان في تحقيق (المسند) أو في الحكم على أحاديث (الطبري)، قال –مثلًا-: (جعفر الزبيري...لكن البخاري ترجم له في "التاريخ الكبير" فلم يقل فيه شيئًا من هذا، ولم يذكر فيه جرحًا، وكذلك ابن أبي حاتم لم يذكر فيه جرحًا،...وأن يذكره البخاري في "التاريخ" دون جرحٍ أمارة توثيقه عنده، وهذان كافيان في الاحتجاج بروايته)، يعني إذا ذكره البخاري ولم يجرح ولم يعدِّل، وكذلك في (الجرح والتعديل) لابن أبي حاتم.
وقال في صدقة بن أبي سهل: (مترجم في "التعجيل" وغيره، وذكره البخاري وابن أبي حاتم ولم يذكرا فيه جرحًا فهو ثقة).
وقال في رواة كُثر من هذا النوع، فهذه قاعدة مطَّردة عنده، أنه إذا لم يُذكر فيه جرح ولا تعديل فهو ثقة، وهذا لا شك أنه من تساهل الشيخ أحمد شاكر.
والراجح في أمثال هؤلاء، وقد أشار إليه ابن أبي حاتم في بعض المواضع أنه بيَّض له ولم يجد فيه جرحًا ولا تعديلًا، فهذا يعني أيش؟ هل يعني أنه ثقة؟ يعني: ما يعرف عنه شيئًا، ويكون نظير قول أبيه: (مجهولٌ، أي: لا أعرفه)، فعلى هذا تكون الجهالة عند أبي حاتم أنها عدم علمٍ بحال الراوي، وليست تجريحًا ابتدائيًّا.