يقول: (ذكرتم أن الاختصار من أبواب التحصيل)، نعم، بعض الناس وهو يقرأ يكون مشتَّت الذهن، لا يحصر ذهنه فيما يقرأ؛ لظروف خاصة، أو لجِبِلَّة فيه، فمثل هذا يَحصر ذهنه إذا صمَّم على اختصار ما يريد أن يقرأ، فإنه إذا أراد أن يختصر لا بد أن يُحضر ذهنه، ويُجمِع قواه، ويَحصر نظره فيما يريد اختصاره؛ لأنه لا يمكن أن يحذف شيئًا إلَّا لعدم حاجته إليه، ولا يُثبت شيئًا إلَّا لحاجته إليه، ولا يتم ذلك إلَّا بعد النظر الدقيق، وأقول: لا يَعتمد على مختصرات الناس؛ ليكون علمه بما حَذف كعلمه بما أَبقى، ولا شك أن هذه طريقة مجرَّبة ونافعة جدًّا لضبط العلوم.
أيضًا هناك طريقة في جرد المطوَّلات، فلا شك أن الإنسان قد يقرأ كتابًا، وفي النهاية يعصر ذهنه؛ ليختصر أو ليستذكر ما قرأ، فلا يجد إلا شيئًا يسيرًا لا يُقابِل ما صرفه من جهد ووقت، فجرد المطوَّلات يحتاج أيضًا إلى طريقة، وهي استعمال الأقلام الملوَّنة، من غير تقيُّد بالألوان التي أذكرها، لكنها تُحتذى، وهي مجرَّبة، فاللون الأسود يجعله للتعليق، واللون الأحمر لِما يُراد حفظه، فإذا مرَّ عليك نصٌّ تحتاجه، وهو مهم في حياتك العلمية، وتريد حفظه، فإن وقفتَ على كل نصٍّ تريد حفظه وردَّدتَه حتى تحفظه فمعناه أنك لن تنتهي من الكتاب، وافترض أن الكتاب (فتح الباري)، فمتى سينتهي؟ لكن تعمل عليه علامة بالقلم الأحمر؛ لتعود إليه فيما بعد. واللون الأخضر لِما يُراد تكراره من أجل فهمه، واللون الأزرق لِما يُراد نقله في مذكره، أو على حاشية كتاب؛ لأنه يوضِّح كلامًا استغلق في ذلك الكتاب، وأيضًا تدوين الفوائد ورؤوس المسائل في طُرَّة الكتاب، في الصفحة التي بعد التجليد، وأذكر وأنا أقرأ في (تفسير القرطبي)، في الطبعة الأولى، رجعتُ إلى (لسان العرب)؛ من أجل التعليق على كلمة، ونقلتُ منه الكلام في سطرين، ثم اطَّلعتُ على الطبعة الثانية من (تفسير القرطبي) بعد أن اقتنيتها بمدة، وقد كانت مطبوعة قبل أن أُولد، فوجدتُ التعليق بحروفه، بمقدار سطرين من (لسان العرب)، فمثل هذا يفيد طالب العلم. وإذا كان الاختصار يفيد طالب العلم، فالشرح والتعليق يفيده أيضًا، فكتاب مطوَّل تختصره، وكتاب مختصر تشرحه، وتستفيد، هذا إذا كانت الحافظة ما تُسعف، أما إذا كانت الحافظة تُسعف، بحيث إنه بمجرد القراءة يُحصِّل العلم، فهذا لا شك أنه أسرع.
يقول: (وإن لديَّ طريقة تختلف، وهي نظم المختصرات، كـ"أخصر المختصرات"، و"زاد المستقنع")، هذا مفيد جدًّا، لكن ما كلٌّ يَملك ملَكة النظم، وعلى كل حال تقليب العلوم من مطوَّل إلى اختصار، ومن مختصر إلى تطويل، ومن متن إلى حاشية، ومن حاشية إلى شرح، هذا لا شك أنه معاناة للعلم، وتعب فيه، وبذلك يستقرُّ العلم، ولا يستطاع العلم براحة الجسم، فشخص يقول: (سأسترخي، وأجلس في استراحة أو ملحق، وأضع رجلًا على رجل، وسأُحصِّل العلم)! هذا لا يمكن إطلاقًا، بل لا بد أن يتعب طالب العلم، ولذا لما وُجد في عهده -عليه الصلاة والسلام- مَن يكتب الحديث، وقال -عليه الصلاة والسلام- كما في حديث أبي سعيد -رضي الله عنه-: «لا تكتبوا عنِّي، ومَن كتب عنِّي غير القرآن فليَمْحُه» [مسلم: 3004]، أشار بعض أهل العلم في سبب هذا النهي، مع قولهم: إنه خشية أن يختلط الحديث بالقرآن، وإنه إذا كُتب في صفحات مستقلَّة فلا بأس، لكن أشار بعضهم إلى أن للكتابة أثرًا في ضعف الحفظ، ولذلك نُهي عنها في أول الأمر، وهذا واقع، فالذي يعتمد على الكتابة لا شك أنه سيضعف عنده الحفظ، وانظروا إلى الناس لمَّا كانوا يُدوِّنون أرقام الهواتف، فمنهم مَن يُدوِّن، ومنهم مَن يحفظ، ثم جاءت الهواتف المحمولة التي يُخزَّن فيها الرقم، فصرتَ لا تعرف رقم أخيك، ولا أبيك، ولا أُمِّك، بل ولا نفسك، وأحيانًا تُملي رقمك غلطًا، فالكتابة لها أثر على الحفظ.
ثم بعد ذلك أُذن في الكتابة، «اكتبوا لأبي شاه» [البخاري: 112]، وقال أبو هريرة -رضي الله عنه-: "كان عبد الله بن عمرو يكتب ولا أكتب" [البخاري: 113]، وتوسَّع الناس في الكتابة، ودُوِّنت الأحاديث في الكتب، مع بقاء الحفظ؛ لوجود الحرص والاهتمام من الصحابة -رضي الله عنهم-، والتابعين، ومَن بعدهم من الأئمة، لكن بان الأثر فيمن بعدهم، فضعُف الحفظ، واعتمد الناس على الكتابة، وبعد قرون جاءت الطباعة، وإذا كان الحفظ يثبت مع عدم الكتابة، فالكتابة بالنسبة للطباعة أفضل بكثير، وهذا شيء مجرَّب، وكتابة الكتاب عن قراءته عشر مرات؛ لأني زاولتُ النَّسخ، ولا زلتُ أتصوَّر ما كتبتُ من المخطوطات.
ولمَّا جاءت الطباعة كيف كان أثرها على التحصيل؟ أفتى شيوخ الأزهر بتحريم طباعة الكتب الشرعية؛ لأنهم يقولون: أولًا: هذه الطباعة مُحدَثة، والأمر الثاني: أن طالب العلم يَقتني هذا الكتاب ويضعه في الرَّف، وهذا آخر علمه به، وهذا هو الحاصل، بينما لو لم توجد هذه الطباعة لاضطر أن يستعير هذا الكتاب، ويسهر عليه في الليل والنهار، ويكتبه، ويتصوَّره، بدلًا من أن يشتريه ويضعه في الدِّرج، إن احتاج إليه وإلا فلن ينظر فيه، وعندنا من الكتب ما أنسى بعضُها بعضًا، حتى العناوين لا نعرفها، ونشتري الكتاب مرة، ومرتين، وثلاثًا؛ لكثرة الكتب، لكن لو كان ما عندنا إلا شيء يسير، مثل ما كان عند شيوخنا، وقد رأيتُ بعض مكتبات الشيوخ، فوجدتُها دولابين أو ثلاثة، لكن تجدها كلها عليها لمسات للشيخ، أما نحن فماذا تأخذ وماذا تُبقي؟ والله إني أحيانًا أبحث عن الكتاب، وأنا أُريد المجلد الخامس، وأجد من المجلد الأول خمس نُسخ، ولا أَجد ولا واحدًا من الخامس، ولذا مقولة ابن خَلدون في الصميم: (كثرة التصانيف مَشغَلة عن التحصيل)، وأحيانًا أستعير، وأحيانًا أشتري، والكتب مكدَّسة عندي، عاق بعضُها عن بعض. وآخر ما رأيتُ في يوم الخميس الماضي، حيث زرتُ مؤسسة الشيخ محمد بن عثيمين -رحمة الله عليه-، فإذا بهم قد نقلوا مكتبة الشيخ من البيت إلى المؤسسة، فنظرتُ فيها، فإذا بها لا يصل مجموعها إلى ألف مجلد، يسيرة جدًّا، وقد رُتبتْ كما كانت في البيت -كما قال ابنه عبد الله-، وقلتُ: (هل نقص منها شيء؟)، قال: (لم ينقص شيء)، فإذا كانت الكتب بهذا المقدار، فلا شك أن الإنسان يستفيد منها، وإذا كان شراؤه بقدر الحاجة فما يلام أيضًا، أما إذا كان مثل وضع بعض الناس، يشتري جميع الطبعات، وهذا تختلف ورَقُه عن الثاني، وهذا أبيض، وهذا أصفر، وهذا كتَّان، وهذا كوشيه، وهذا كذا، وكلَّما جاءتْ نسخة أفضل من التي قبلها اشتراها، فهذا لا شك أنه يُوقع في حرج عظيم، وخذوها مِن مُجرِّب.
يقول: (ونثر المنظومات كـ"نظم الرحبيَّة"، و"القلائد البرهانيَّة")، هذا نوع يُعين بلا شك، لكن قد يحتاج طالب العلم المبتدئ الذي يُوصى بمثل هذا الفعل إلى مراجعة الشروح التي تُعينه على فكِّ بعض الألفاظ.
وبعض المشايخ يوصي أن يقرأ طلاب العلم في الكتب الميسَّرة السهلة، وقد أُقيمتْ دورة علميَّة في جهة من الجهات، وكانت الكتب مؤلَّفة مِن قِبَل المشاركين في الدورة، والحضور ضعيف جدًّا، ففلان يَشرح مصنَّفَه، وفلان يَشرح مصنَّفَه، أربعة، وأنا الخامس، وقد اشتركتُ معهم بـ(صحيح البخاري)، فما الذي حصل؟ إذا جاء فلان ومعه كتابه قالوا: (نقرأ الكتاب في البيت، فما يحتاج إلى شيء)؛ لأنه أُلِّف بلغة أو لهجة لا تصعب عليهم، ولا يمكن أن يُمرَّن عليها طالب علم؛ لأن طالب العلم لا بد أن يرجع إلى المراجع، والمراجع فيها وعورة، وفيها صعوبة في الأساليب، فإذا تعوَّد على مؤلفات المعاصرين فلن يستطيع التعامل مع كتب المتقدِّمين، وليس من تعذيب طلاب العلم أن يُؤلَّف مثل: (المنتهى)، أو (مختصر خليل)؛ لأنه إذا عُصر بهذه الطريقة، سَهُل عليه ما عداه.