شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح - كتاب الصوم (عام 1427 هـ) - 07
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسَلَّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم.
إلى حلقةٍ جديدة في برنامجكم شرح كتاب الصوم من كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.
مع مطلع هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلاً ومرحبًا بكم فضيلة الدكتور.
حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المُستمعين.
المقدم: لازال الحديث متواصلاً عن حديث أسماء بنت أبي بكر- رضي الله عنهما- في باب إذا أفطر في رمضان ثمَّ طلعت الشمس، لعلنا نستكمل ما تبقى من أحكام هذا الحديث، أحسن الله إليكم.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،
فحديث أسماء بنت أبي بكر- رضي الله تعالى عنهما- قالت: أَفْطَرْنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ غَيْمٍ ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ.
وعرفنا أسماء وعرفنا الترجمة، وعرفنا ما قيل حولها، ترجمة الإمام البخاري على الحديث، قوله: بابٌ إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس.
المُطابقة بين الحديث والترجمة، عرفنا أنها حرفية. وعرفنا ما في كلام ابن حجر في تقدير الحكم، ماذا؟
المقدم: جواب الشرط في الباب، وتقديره في إيراد الصحابي- أظن- أو التابعي.
ابن حجر في قول هشام: بُدٌّ من قضاء، قال: هو استفهامٌ إنكاري محذوف الأداة. والمعنى: لا بد من قضاءٍ ووقع في رواية أبي ذرٍّ: لا بد من القضاء. وعرفنا استدراك العيني عليه، وأنهما في النهاية يتفقان. والذي يظهر أن هذا الاستدراك إنما هو لذات الاستدراك، وإلا فالمعنى واحد. يعني سواءً كان محذوف الأداة، كما قال ابن حجر. أو لا بد من تقدير الأداة، النهاية واحدة. إذًا هي غير موجودة وهي في الاعتبار، فهو استفهام على كل حال.
يقول الحافظ ابن حجر- رحمه الله تعالى-: بابٌ إذا أفطر في رمضان، أي: ظانًّا غروب الشمس، ثمَّ طلعت الشمس، أي: هل يجب عليه قضاء ذلك اليوم أو لا؟ وهي مسألةٌ خلافية، والمراد بالطلوع: الظهور، طلعت الشمس يعني ظهرت. وكأنه راعى لفظ الخبر في ذلك، خبر أفطرنا على عهد النبي- صلى الله عليه وسلم- يوم غيمٍ ثمَّ طلعت الشمس. والترجمة: بابٌ إذا أفطر في رمضان ثمَّ طلعت الشمس، يعني راعى لفظ الخبر في ذلك، وأيضًا وهذه دقيقة جدًّا. وأيضًا فإنه يُشْعِرُ بأن قرص الشمس كله ظهر مرتفعًا، ولو عبَّر بـ"ظهرت" لم يُفِد ذلك.
المقدم: طلعت أقوى.
أقوى.
يعني كأنها قطعية في المراد، وظهرت من الظهور، والظاهر ليس بخطأ. مع أنهما في مثل هذا الأسلوب واحد، ما يظهر اختلاف.
يعني كأن الطلوع بحيث تراها العين، فهي قطعية، مُدركة بالمشاهدة.
المقدم: والظهور كذلك، والظهور ما تراه العين؟
لا، أصل الظهور من لفظه، وهو الظاهر. الظاهر ليس قطعيًّا، بخلاف المرئي المُشاهد قطعيًّا. لكن هذا من حيث التحليل اللفظي.
لكن الظاهر إذا استعمل موضع القطعي، فظهرت وطلعت بمعنى واحد؛ لأنه يقول: وأيضًا فإنه يُشعِر بأن قرص الشمس كله ظهر مرتفعًا، ولو عُبِّر بظهرت لم يُفِد ذلك.
وعندي أيضًا إنه لو قيل العكس.
المقدم: لو قال: ظهرت الشمس.
نعم، لكان أقوى في الارتفاع؛ لأن الظهور بمعنى الارتفاع. ظهر الجمل، ظهر الفرس، هو مُرتفع بالنسبة له.
المقدم: والطلوع نفس الشيء. الطلوع ما يكون للارتفاع؟ الطلوع- في الغالب- هو شيء من الارتفاع.
لا، يكفي فيه أدنى ما يُطلَق عليه الطلوع، بخلاف الظهور.
الظهور هو الغلبة والارتفاع.
على كل حال، مثل هذه الدقائق قد لا يستفيد منها المُستمع؛ لأن السياق هو الذي يُحدد.
على عهد النبي- صلى الله عليه وسلم-، أي: في زمنه وأيام حياته.
تقول: أفطرنا، يعني قول الصحابي: فعلنا، إن أضافه إلى عهد النبي- عليه الصلاة والسلام- فهو مرفوع قطعًا. لكن لو قالت: أفطرنا يوم غيمٍ ثمَّ طلعت الشمس.
المقدم: بدون نسبة إلى العهد، عهد النبي- صلى الله عليه وسلم-.
نعم، فعلنا، كنا نفعل، هذا ليس بمرفوع حقيقةً، وإن كان الجمهور على أنه مرفوع حُكمًا.
وعلى كل حال، مثل هذا لو قالت: أفطرنا يوم غيمٍ ثمَّ طلعت الشمس، بدون على عهد النبي- عليه الصلاة والسلام- يعني أسماء عُمِّرت طويلاً بعد عهد النبي- عليه الصلاة والسلام-.
المقدم: ممكن يُعتبَر بعد عهد النبي- صلى الله عليه وسلم-.
نعم، ماتت سنة ثلاث أو أربعٍ وسبعين، يعني بعد وفاته- عليه الصلاة والسلام- بقدر عُمره- عليه الصلاة والسلام- كاملاً.
فقولها: أفطرنا، يحتمل أن يكون بعده- عليه الصلاة والسلام- فالتنصيص يُزيل مثل هذا الاحتمال.
يوم غيمٍ كذا للأكثر فيه بنصب يوم على الظرفية، وفي رواية أبي داود وابن خزيمة في يومِ غيم. و(في) معروف أنها للظرفية، وهي تصريح بما هو مجرد توضيح.
يوم غيمٍ أحيانًا (يوم) وهو في الأصل ظرف، وأصل استعماله منصوب على الظرفية. ويُستعمل أيضًا بحسب العوامل الداخلة عليه، "جاء يوم السبت": فاعل، "إن يومَ السبت يومٌ شاق على الصبيان" مثلاً: اسم إن، "يومُ السبتِ يومٌ شاقٌّ": مبتدأ، فهو تبع العوامل. وأحيانًا يُبنى ويلزم البناء على الفتح، وفي حالة ما إذا أُضيف إلى جملةٍ صدرها مبنى: «رجع من ذنوبه كيومَ ولدته أمه» ف(يوم) الأصل فيها أنه مجرور بالكاف، لكن لما أضيف إلى جملة صدرها مبني، بُنيَ على الفتح.
لكن لو أضيف إلى جملةٍ صدرها مُعرَّب، {قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ} [سورة المائدة 119] يُعرَّب إذا أُضيفَ إلى جملة صدرُها مُعرَّب.
وهنا منصوب على الظرفية.
"قيل لهشام"، وفي رواية أبي داود: قال أبو أسامة: قلتُ لهشام. وكذا أخرجه ابن أبي شيبة في مُصنفه وأحمد في مُسنده عن أبي أسامة.
وقال معمَر: سمعتُ هشامًا يقول: لا أدري أقضوا أم لا. قال ابن حجر: هذا التعليق وصله عبد بن حُميد، قال: أخبرنا معمَر، قال: سمعت هشام بن عروة، فذكر الحديث. وفي آخره، فقال إنسانٌ لهشام: أقضوا أم لا؟ فقال: لا أدري.
وظاهر هذه الرواية تعارض التي قبلها.
المقدم: هنا قال: بُد من قضاء، وصرَّح بالقضاء.
لكنه هنا قال: لا أدري.
يقول ابن حجر: لكن يُجمعُ- يعني بين اللفظين المُتعارضين- بأن جزمه بالقضاء، محمولٌ على أنه استند فيه إلى دليلٍ آخر.
وأما حديث أسماء، فلا يُحفَظ فيه إثبات القضاء ولا نفيه؛ لأن حديث أسماء فيه، تقول: أَفْطَرْنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ غَيْمٍ ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ. ما فيه ما يدلُّ على أنهم أمروا بالقضاء، ما فيه بيان الحكم.
المقدم: في كل المرفوع، يا شيخ.
في كله، نعم.
يقول: لكن يُجمَع بأن جزمه بالقضاء محمولٌ على أنه استند فيه إلى دليلٍ آخر، وأما حديث أسماء فلا يُحفَظ فيه إثبات القضاء ولا نفيه.
حينما قال: لا أدري، بناءً على صريح الخبر، وأن ما فيه ما يدلُّ على الحكم، لا يُدرى.
وكونه أثبت القضاء من أدلةٍ أخرى، هذا جمع ابن حجر.
والعيني- رحمه الله- يقول: إن كان كلامه هذا من جهة الشارع صريحًا، فمُسلَّم.
إن كان كلامه- يعني كلام ابن حجر- من جهة الشارع صريحًا، فمُسلَّم. يعني لم يرد التصريح بأنه في هذه القصة أُمروا بالقضاء.
وإلا فهشام يقول: فأمروا بالقضاء، ويقول: لابد من القضاء، وقوله: فأمروا، يستندُ إلى أمر الشارع؛ لأن غير الشارع لا يستند إليه الأمر.
قلتُ: الخلافُ في قول الصحابي: أُمرنا معروف، فكيف بالتابعي؟
لكن في هذه القصة، يتعيَّن أن يكون الآمر هو النبي- صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه طرفٌ في القضية. يعني القضية بحضرته- عليه الصلاة والسلام- فلا يُمكن أن يقول التابعي ولا صحابي: أُمرنا أو أُمروا إلا والآمر هو الرسول- عليه الصلاة والسلام-؛ لأن الرسول- عليه الصلاة والسلام- طرف في القضية.
واختلف العلماء في هذه المسألة، وهي ما إذا أفطر في رمضان ثمَّ طلعت الشمس. يعني أفطر الصائم في رمضان ثمَّ طلعت الشمس، أفطر بسبب غيم، ظنًّا أن الشمس قد غربت. أو في مكانٍ لا تُرى فيه الشمس، وغرته الساعة مثلاً. أو سَمِع مؤذنًا أخطأ في أذانه، ثمَّ تبيَّن أنه أذَّن قبل الوقت.
إذا أفطر في رمضان ثمَّ طلعت الشمس، قال ابن بطَّال: جمهور العلماء يقولون بالقضاء في هذه المسألة، وقد رويَ ذلك عن عُمرَ بن الخطاب- رضي الله عنه- من رواية أهل الحجاز وأهل العراق عنه، وذكرهما، ذكر الروايتين. وهو مرويٌّ عن ابن عباس ومعاوية وهو قول عطاء ومُجاهد والزهري ومالك والثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وأبي ثور، كل هؤلاء يقولون: عليه القضاء.
وقال الحسن البصري: لا قضاء عليه كالناسي، وهو قول إسحاق وأهل الظاهر. ويُروى عن عُمَر أيضًا.
وحُجة من أوجب القضاء: إجماع العلماء على أنه لو غُمَّ هلال رمضان، فأفطروا، ثمَّ قامت البينة برؤية الهلال، أن عليهم القضاء بعد إتمام صيام يومهم، وحُجة من أوجب القضاء: إجماع العلماء على أنه لو غُمَّ هلال رمضان، فأفطروا، ثمَّ قامت البينة برؤية الهلال، أن عليهم القضاء بعد إتمام صيام يومهم.
لو غُمَّ عليهم، ما رأوا الهلال ثمَّ أصبحوا مُفطرين، يلزمهم الإمساك ثمَّ يقضون. لكن دعوى الإجماع فيها نظر، فمن أهل العلم من يرى أن الحكم إنما يلزمهم من بلوغ الخبر، وما قبل بلوغ الخبر، لا يلزمهم حكم، كالعمل بالناسخ.
العمل بالناسخ، لا يُعمَل به إلا إذا بلغ؛ ولذا لما بلغ الصحابة- رضوان الله عليهم- في قباء أن القبلة قد غُيِّرت من بيت المقدس إلى الكعبة، لما أخبرهم المُخبر، استداروا كما هم ولا استأنفوا الصلاة؛ لأنها غُيِّرت قبل شروعهم فيها. والناسخ إنما يلزم العمل به، من بلوغه.
الفرق بين الأصل والفرع: الفرع مسألتنا التي فيما إذا أفطر ثمَّ طلعت الشمس، والأصل فيما إذا غُمَّ هلال رمضان ولم يُرى إلا من الغد في أثناء النهار. الفرق بينهما: أن الأصل في دخول الشهر العدم، والأصل في مسألتنا بقاء النهار.
كما يُفرق بين من أكل ظانًّا عدم طلوع الفجر، وبين من أكل ظانًّا غروب الشمس، فهذا الأصل العدم، وهذا الأصل الصيام.
وقال المُهلَّب: ومن حُجتهم أيضًا قول الله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} [سورة البقرة 187] والذي يُفطر قبل غروب الشمس، ولو اعتقد غروبها، ولو ظنَّ غروبها، قد أفطر قبل الغاية إلى الليل. والله -جلَّ وعلا- يقول: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} [سورة البقرة 187] فالذي يأكل قبل غروب الشمس، ولو غلب على ظنه أن الشمس قد غربت أو جزم بذلك، ثمَّ تبيَّن الخطأ، هذا لم يتم الصيام إلى الليل.
ومن أفطر ثمَّ طلعت الشمس، فلم يُتم الصيام إلى الليل كما أمره الله، فعليه القضاء من أيامٍ أُخَر بنصِّ كتاب الله.
قال ابن القصَّار: يحتمل ما روي عن عُمر أنه قال: لا نقضي؛ لأنه عن عُمر في المسألة قولان، قال: لا نقضي، أن يكون ترك القضاء إذا لم يعلم. ووقع الفطر على الشك، وتكون الرواية عنه بثبوت القضاء، إذا وقع الفطر في النهار بغير شك. ما معنى هذا الكلام؟
المقدم: يحتاج إلى تركيز.
يحتاج إلى توضيح.
عُمَر قال: لا نقضي؛ أن يكون ترك القضاء إذا لم يعلم، ووقع الفطر على الشك. أكلوا، فقال بعض الناس- مثلاً-: أنا والله ساعتي باقي عشر دقائق، وقال الثاني: لا، أنا ساعتي خلاص على الغروب وتم. وقع شك، وما قُطِع في المسألة، انتهى. كمن حلف على طائر أو طلَّق زوجته، إن كان هذا الطائر غرابًا- مثلاً- فطار هذا الطائر ولم يصلوا إلى حقيقته، تطلُق أم لا تطلُق؟ ما تطلُق؛ لأنهم ما وقفوا على الحقيقة.
والآن في هذه المسألة، ما وقفوا على الحقيقة، فقال: لا نقضي.
وأمره بالقضاء، كما رواه عنه أهل الحجاز وأهل العراق، أمره بالقضاء أنه فيما إذا تؤكد أنهم أكلوا في النهار.
المقدم: يعني هذا الشك أنهم ما تأكدوا حتى بعد لما أفطروا.
يعني في عدم أمره بالقضاء، ما تبيَّن.
المقدم: يعني انتهى اليوم وما تبيَّن.
ما تبيَّن واستمروا على هذا.
المقدم: وليست القضية، يعني ليست ربط مَن ربط رأي عُمَر بالشك الحاصل بينهم في هذه اللحظة فقط؟
لا، ولم يصلوا إلى الحقيقة بعد. اعتبر أن المسألة غيم وما طلعت الشمس، غابت والغيم قائم. أو كسفت كسوفًا كليًّا.
المقدم: كيف يوردون هذا الرأي؟ من برر لعُمَر هذا، كيف يورده في هذا الحديث؟ قال: ثمَّ طلعت الشمس.
ما هم في هذه القصة.
المقدم: كيف يورد الحوار؟ يعني هو أورد الحُكمين هنا وأراد بيان أن رأي عُمَر ينطبق مع هذا الحديث فقط.
لا، هو أورد قول عُمَر الذي يوافق هذا الحديث، وأورد قوله الذي يُخالف. حمل المُخالف على صورة، وحمل الموافق على صورة.
المقدم: والموافق ثمَّ طلعت الشمس، هذا تبيَّن؟
ما فيه إشكال هذا.
يعني لو غابت الشمس كاسفة- مثلاً- يعني كسفت في أثناء العصر، ثمَّ غابت، بعض الناس قال..
المقدم: نصلي.
خلاص لا نصلي، غابت بمعنى أنها كسفت كسوفًا كليًّا فظن بعضهم أنها غربت، فأكل، ما تبيَّن انتهى، جاء وقت المغرب وجاء وقت العشاء، ما رأوا الشمس، أي استمر الكسوف. متى يصلون إلى الحقيقة؟ لن يصلوا.
ولذا يقول أهل العلم في باب الكسوف: وإن غابت الشمس كاسفةً أو طلعت والقمر خاسف، لم يصلوا. لماذا؟ هم يبررون يقولون: لأنه ذهب وقت الانتفاع بها. والمُبرر الحقيقي أنه لا يُعلم كسوفها من انجلائها، غابت أم كسفت، ما يُدرى.
قال ابن بطَّال: وقد ذكرنا في مسألة الذي يأكل وهو يشك في الفجر، من جعله بمنزلة من أكل وهو يشك في غروب الشمس. ومن فرَّق بين ذلك في باب قوله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ} [سورة البقرة 187] يعني الذي تقدَّم. وفرَّق ابن حبيب بين من أكل وهو يشكُّ في الفجر، وبين من أكل وهو يشك في غروب الشمس، وأوجب القضاء للشاك في غروب الشمس، واحتج بأن الأصل بقاء النهار فلا يأكل حتى يوقن، والأصل في الفجر بقاء الليل فلا يُمسِك عن الأكل حتى يوقن بالنهار. وبهذا قال المخالفون لمالك في هذا الباب.
هذه المسألة تقدَّم بحثها ومع ذلك بعض الناس يجلس في مكانٍ مُظلم، ويأكل ويقول: إلى الآن ما طلع الفجر.
المقدم: ما تبيَّن لي الخيط ...
ما تبيَّن له الفجر، لا يتبيَّن. فمثل هذا إذا فرَّط وما سأل، بعض الناس يستيقظ من نومه ثمَّ يأكل، وهو ما تأكد أن الفجر طلع أو ما يطلع، ثمَّ يقول: والله أنا أكلت ثمَّ سمعت الإقامة. معناه أنه أذَّن من ربع أو ثلث أو نصف ساعة أحيانًا. مثل هذا يؤمر بالقضاء.
أما إذا كان الشك، وارد على الناس كلهم، أما شك شخصٍ بعينه والناس كلهم يجزمون بأن الفجر قد طلع، يعني فرق بين شك مبني على ظن شخص، يعني انتبه من نومه بعد طلوع الفجر بساعة، في ليلةٍ مُظلمة وتناول الأكل وأكل بسرعة، فسمع الناس خرجوا من الصلاة، أو فتح النافذة أو خرج من الباب فإذا هو مُسفر جدًا، نقول: هذا فرَّط وعليه القضاء. بينما لو تردد الناس، هل طلع الفجر أو ما طلع، الأصل: بقاء الليل.
يقول ابن حجر: اختُلِفَ في هذه المسألة، فذهب الجمهور إلى إيجاب القضاء، وجاء ترك القضاء عن مُجاهد والحسن وبه قال إسحاق وأحمد في رواية واختاره ابن خزيمة، فقال: قول هشام: لابد من القضاء، لم يُسنده ولم يتبيَّن عندي أن عليه القضاء.
قال ابن حجر: ويُرجح الأول: أنه لو غُمَّ هلال رمضان، فأصبحوا مُفطرين، ثمَّ تبيَّن أن ذلك اليوم من رمضان، فالقضاء واجبٌ بالاتفاق، فكذلك هذا.
وتقدَّم ما في هذا الكلام من نظر.
وقال ابن التين: لم يوجب مالكٌ القضاء إذا كان في صوم نذر، وقال ابن المُنيِّر في ((الحاشية))- ابن المُنيِّر ناصر الدين له حاشية، وابن المُنيِّر ثانٍ نسيت لقبه له ((المناسبات))- في هذا الحديث أن المُكلفين إنما خوطبوا بالظاهر، فإذا اجتهدوا فاخطؤوا، فلا حرج عليهم في ذلك.
يعني من أين جاء؟
المقدم: التفريق.
الآن عندنا أمران: عندنا مسألة إثم؛ لأنهم أفطروا في نهار رمضان، ولا يجوز الفِطر في نهار رمضان، «مَنْ أفطَر يومًا من رمضان، لم يقضه صيام الدهر ولو صامه». وعندنا الإثم المُترتب وعندنا القضاء، الإثم ارتفع؛ لأنهم اخطؤوا، ليس عن عمدٍ ولا قصد. أما القضاء فأمره آخر، لا بد من القضاء.
فلا يدلُّ كلام ابن المُنيِّر أنه ليس عليهم قضاء.
في هذا الحديث أن المُكلفين إنما خوطبوا بالظاهر، فإذا اجتهدوا فاخطؤوا، فلا حرج عليهم في ذلك. هم اجتهدوا وأفطروا، فالإثم مُرتفع، والأجر ثابت، أجر الاجتهاد الأجر ثابت، «إذا اجتهد الحاكم فاخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران» لكن الأمر بالقضاء وعدم القضاء، فلا يؤخذ من هذا؛ لأن الخطأ مثل النسيان، يُنزِّل الموجود منزلة المعدوم، لكنه لا يُنزِّل المعدوم منزلة الموجود.
لو أخطأ إنسان وأبطل صلاته في آخرها، أبطلها، أخطأ إنسان في صلاته فأبطلها، ظن أنه.. أنها قد..، نقول ما عليك شيء؟
المقدم: لا، عليه القضاء.
يعني التنظير، تنظير هذه المسألة: أفطر قُبيل الغروب بساعة ثمَّ تبيَّن أن الشمس ما غربت، فأمسك فأتمَّ صومه.
التنظير في نهاية التشهُّد وقبل الصلاة على النبي- عليه الصلاة والسلام- ظن أن صلاته قد تمت، أو بقي عليه ركعة، فسلَّم. يلزمه الإتيان بالباقي في الصلاة. وفي الصيام يلزمه الإمساك بقية اليوم، لكن هل يُعيِّد الصلاة كما يلزمه أن يُعيِّد الصيام؟
انظر التنظير.
يقول: في هذا الحديث أن المُكلفين إنما خوطبوا بالظاهر، فإذا اجتهدوا فاخطؤوا، فلا حرج عليهم. يعني هذا الكلام يُفهَم منه أن الحرج بلا إشكال مُرتفع عنهم، لكن هل يُفهَم من هذا الكلام أنه لا قضاء عليهم أو عليهم القضاء؟
المقدم: من كلامه؟
من كلامه.
أما بالنسبة للحرج الذي ينشأ عنه الإثم فهو مُرتفع، لكن هل يلزمهم القضاء أو لا يلزمهم؟
هذا كلام مُحتمِل، كلامه محتمل، وتنظيره بالصلاة فيمن ظن أن صلاته قد تمت فجاء بما يُبطلها، ثمَّ تبيَّن له أنها لم تتم فأكملها، يؤمر بإعادتها أو لا يؤمر؟
نأتي إلى حديث ذي اليدين: سلَّم النبي- صلى الله عليه وسلم- من ركعتين وفعل مُبطلًا، قام واعتمد على خشبةٍ في المسجد وتكلَّم، كل هذا مما يُبطل الصلاة. ومع ذلك لما فعله ظانًّا أن العبادة قد انتهت، لم يؤثر فيها ولا أُمِر بالإعادة.
قد يُفرَّق بينهما من أن ركن الصيام الأقوى: الإمساك عن الأكل والشرب، ولو جيء بنظيره في الصلاة: لو أحدث، ظن أن صلاته قد تمت فأحدث. يُعِيد بلا شك؛ لأن الطهارة ركن أقوى في الصلاة. والأكل ركنٌّ أقوى في الصيام.
فمن هذه الحيثية يلزم الإعادة.
المقدم: أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم.
لعلنا- إن شاء الله- نستكمل ما تبقى من أحكام هذا الحديث في حلقةٍ قادمة وأنتم على خير.
أيها الإخوة والأخوات بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة في شرح كتاب الصوم في كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.
شكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.