شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (121)
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.
مع بداية حلقتنا هذه يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلاً ومرحبًا بكم.
حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.
قال المصنف -رحمه الله-: عن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: «قعد -عليه السلام- على بعيره وأمسك إنسان بخطامه أو بزمامه ثم قال: أي يوم هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى. قال: فأي شهر هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال أليس بذي الحجة؟ قلنا: بلى. قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه».
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
راوي الحديث أبو بكرة نفيع بن الحارث الثقفي سبق التعريف به.
وهذا الحديث ترجم عليه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بقوله: باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «رب مبلغ أوعى من سامع»، حديث الترجمة «رب مبلغ أوعى من سامع» الذي علقه البخاري هنا أورده، أو أورد في الباب معناه، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه، هذا معنى «رب مبلغ أوعى من سامع».
وأما لفظه «رب مبلغ أوعى من سامع»، فهو موصول عند الإمام البخاري، كما سيأتي في باب الخطبة بمنى من كتاب الحج، إن شاء الله تعالى.
يقول العيني: وجه المناسبة بين البابين يعني هذا الباب باب قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «رب مبلغ أوعى من سامع»، والباب الذي قبله، باب من قعد حيث ينتهي به المجلس، ومن رأى فرجة من حلقة فجلس فيها، يقول: من حيث أن المذكور في هذا الباب حال المبلَّغ بفتح اللام، ومن جملة المذكور في الباب السابق الجالس في الحلقة، وهو أيضًا من جملة المبلَّغين؛ لأن حلقة النبي -عليه الصلاة والسلام- كانت مشتملة على العلوم والأمر بتعلمها،.. من جملة المبلغين؛ لأن حلقة النبي -عليه الصلاة والسلام- كانت مشتملة على العلوم والأمر بتبليغها والتبليغ للغائبين، يعني رابط من وجه ولو كان فيه بعد، لكن هو يقول: المبلغ ربط بينهما، «رب مبلغ أوعى من سامع» هذا الذي جلس في الحلقة هل هو مبلَّغ أو مبلِّغ؟
المقدم: مبلِّغ.
ينبغي أن يكون مبلِّغًا؛ لأنه شاهد ربط بينه وبين المبلَّغ، هنا يقول من حيث إن المذكور في هذا الباب حال المبلَّغ بفتح اللام ومن جملة المذكور في الباب السابق الجالس في الحلقة، لكن هل الجالس مبلَّغ؟ هو مبلَّغ من وجه، النبي-عليه الصلاة والسلام- بلغه، لكنه بالنسبة لما عندنا في هذا الحديث.
المقدم: مبلغ.
شاهد فهو مبلِّغ للمبلَّغ، وقال الشيخ قطب الدين: والمراد به قطب الدين الحلبي شارح الصحيح: أراد البخاري بهذا التبويب الاستدلال على جواز الحمل على من ليس بفقيه من الشيوخ الذين لا علم عندهم ولا فقه، إذا ضبط ما يحدِّث به، الشيخ قطب الدين الحلبي فيما ينقل عنه العيني يقول: أراد البخاري بهذا التبويب الاستدلال على جواز الحمل على من ليس بفقيه من الشيوخ الذين لا علم عندهم ولا فقه إذا ضبط ما يحدِّث به، كيف؟
يعني إذا ضبط من ليس بفقيه، عامي حفظ وضبط وأتقن ما سمعه يحفظ عنه؛ لأن العبرة بالحفظ والضبط والإتقان، فإذا وجد الحفظ والضبط والإتقان مع الثقة ثقة هذا الراوي يحمل عنه، وليس الفقه من شرط قبول الرواية، ليس الفقه من شرط قبول الرواية، وإن اشترطها بعضهم، لكنه قول مرجوح، لا يشترط في قبول الرواية فقه الراوي.
قلت- أي العيني-: هذا بيان وجه وضع هذا الباب، وليس فيه تعرض إلى وجه المناسبة بين هذا الباب وبين الباب الذي قبله، ولم أرَ أحدًا من الشراح تعرض لهذا الذي ذكرناه، وسبق مرارًا ذكرنا أن العيني يعنى بالربط بين الباب والذي قبله هذا ما يُعنى به العيني، والذي يُعنى به الحافظ ابن حجر، الربط بين الخبر والترجمة.
قوله: قعد -عليه السلام- بمعنى جلس، قعد بمعنى جلس، وفرق بعضهم بينهما، بأن القعود من قيام دون الجلوس، القيام دون الجلوس، وبعضهم عكس، وعلى كل حال من يقول بالترادف فهما مترادفان، والذي ينفي الترادف في ألفاظ اللغة قد يلتمس مثل هذه الأشياء.
«على بعيره» البعير؛ الجمل البازل، وقيل: الجذع، وقد يكون للأنثى، وحكي عن بعض العرب شربت من لبن بعيري، وصرعتني بعيري، وفي الجامع: البعير بمنزلة الإنسان يجمع المذكر والمؤنث، الجامع لمن؟ الجامع في اللغة مر بنا مرارًا.
المقدم: القزاز.
نعم القزاز، في الجامع البعير بمنزلة الإنسان يجمع المذكر والمؤنث من الناس، فإذا رأيت جملاً على البعد قلت: هذا بعير، فإذا اشتبه قلت: جمل أو ناقة، ويجمع على أبعرة، وأباعر، وأباعير، وبعر، وبعران، وفي العباب يقال للجمل: بعير، وللناقة بعير، والعباب لمن؟
المقدم: للصاغاني.
صحيح، للصاغاني صحيح مر بنا مرارًا، وبنو تميم يقولون: بِعير وشِعير بكسر الباء والشين، والفتح هو الصحيح، وبنو تميم يقولون: بِعير وشِعير، ولهم من العرب الموجودين وراثة. وقرأ الأعمش {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نِسْتَعِينُ}[الفاتحة:5].
المقدم: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بِعِيرٍ}[يوسف:72].
هذا عند بني تميم، وإنما قعد النبي -عليه الصلاة والسلام- على البعير؛ لحاجته إلى إسماع الناس، والنهي عن اتخاذ ظهورها منابر، أو مجالس محمول على أنه إذا لم تدعُ الحاجة إليه. وأمسك إنسان بخِطامه بكسر الخاء، وأمسك به ومسك به ومسّك به، بمعنى قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ}[الأعراف:170].
أي يتمسكون به، والخطام: الزمام الذي يشد به. البُره بضم الباء وفتح الراء حلقةٌ من صفر تجعل في لحم أنف البعير، وقال الأصمعي: تجعل في إحدى جانبي المنخرين، وشك الراوي في اللفظ الذي سمعه بخطامه أو قال: بزمامه، وهذا من دقته وتحريه وإلا فهما بمعنىً واحد، والإنسان الممسك..
المقدم: الراوي بعد أبي بكرة الذي شك، الراوي الذي بعد أبي بكرة.
نعم دونه على ما سيأتي، والإنسان الممسك قال ابن حجر: سماه بعض الشراح بلالاً، واستند إلى ما رواه النسائي من طريق أم الحصين، قالت: حججت فرأيت بلالاً يقود بخطام راحلة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد وقع في السنن من حديث عمرو بن خارجة قال، كنت آخذًا بزمام ناقة النبي -صلى الله عليه وسلم- انتهى.
وذكر بعض الخطبة فهو أولى، يقول ابن حجر: أولى أن يفسر به المبهم من بلال؛ لأن أم الحصين قالت: حججت فرأيت بلالًا يقود بخطام راحلة النبي -عليه الصلاة والسلام-، وهذا يقول: كنت آخذًا بزمام ناقة النبي –عليه الصلاة والسلام-، وذكر بعض الخطبة التي معنا فهو أولى أن يفسر به المبهم من بلال، كذا قال ابن حجر، يقول أيضًا: لكن الصواب أنه هنا أبو بكرة، فقد ثبت ذلك في رواية الإسماعيلي من طريق ابن المبارك عن ابن عون ولفظه: «خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على راحلته يوم النحر، وأمسكت» إما قال: «بخطامها» وإما قال: «بزمامها»، واستفدنا من هذا أن الشك ممن دون أبي بكرة لا منه، والفائدة من إمساك الخطام إمساك خطام البعير وزمامه صون البعير عن الاضطراب؛ حتى لا يشوش على راكبه؛ لأنه احتاج إليه في تبليغ هذه الخطبة -عليه الصلاة والسلام-.
ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أي يوم هذا؟» برفع أي، والجملة مقول القول، وسقط من رواية المستملي والحمَّوي السؤال والجواب الذي قبله، فصار هكذا «أي يوم هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس بذي الحجة؟»، «أي يوم هذا؟ فقال: أليس بذي الحجة» يعني سقط.
المقدم: السؤال والجواب.
جواب السؤال الأول وسؤال الجواب الثاني، قال ابن حجر: وكذا في رواية الأصيلي، وتوجيهه ظاهر، وهو من إطلاق الكل على البعض، «أي يوم هذا؟» هذا اليوم هو يوم النحر، ويوم النحر من ذي الحجة، إذًا هذا اليوم من ذي الحجة، وقد يقال إنه أريد باليوم الوقت أي وقت هذا؟ يعني الوقت أن اسمه ذي الحجة، ولكن الثابت، يقول ابن حجر: ولكن الثابت في الروايات عند مسلم وغيره ما ثبت أن الكشميهني وكريمة بالسؤال عن الشهر والجواب الذي قبله، والسؤال عن الثلاثة الاثنان اليوم والشهر مع البلد ثابت عند المؤلف في الأضاحي والحج، وهو أيضًا عند مسلم، السؤال على الثلاثة أي يوم هذا؟ أي شهر هذا؟ أي بلد هذا؟ لكن هنا كم ذكر من الأسئلة؟ هنا سؤالين.
فسكتنا معطوف على قال «حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه قال: أليس هو يوم النحر؟». قلنا: وفي رواية أبي الوقت «فقلنا: بلى» حرف يختص بالنفي ويفيد إبطاله، وهو هنا مقول القول أقيم مقام الجملة التي هي مقول القول، بلى: حرف يختص بالنفي، ويفيد إبطاله يصح أن يقوم مقامه نعم أو أجل؟
المقدم: في النفي؟
في النفي {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف:172]
المقدم: {قَالُوا بَلَى}.
لكن لو قالوا: نعم؟
المقدم: كان نفيًا.
نعم، فلابد منها بعد النفي.
المقدم: فيما ذكرت في الرواية يا شيخ قال: «أليس هو يومُ النحر؟» «أليس هو يوم النحر؟» برفع يوم في الرواية التي ذكرتها، التي لدينا قال: أليس يومَ النحر، بنصب يوم؟
نعم هو خبر ليس صحيح، قال -عليه الصلاة والسلام-: «فأي شهر هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال: -عليه الصلاة والسلام- أليس بذي الحجة؟» هذه الأسئلة لو ألقيت على مبتدئي الطلاب لبادروا بالإجابة، لكن هذا من تمام الأدب. من تمام وكمال أدبهم -رضوان الله عليهم-؛ لأنهم ظنوا أن النبي-عليه الصلاة والسلام- سيسميه دون اسمه وإلا من يخفى عليه أن هذا يوم النحر، وهذا شهر ذي الحجة، وهذا البلد مكة؟ من يخفى عليه منهم؟ لكنهم تأدبوا أن يتقدموا بين يديه –عليه الصلاة والسلام- بالجواب.
«أليس ذي الحجة» بكسر الحاء كما في الصحاح، وقال الزركشي: وهو المشهور، وأباه قوم يعني كسر الحاء، وقال القزاز: الأشهر فيه الفتح، القزاز له كتاب اسمه؟
المقدم: ذكرناه قبل قليل.
الجامع، الأشهر فيه الفتح، قلت: هو عكس القعدة، الشهر الذي قبله ذي القَعدة، والذي يليه ذو الحِجة، قلنا: بلى. أي هو شهر ذو الحجة، قال القرطبي: سؤاله -صلى الله عليه وسلم- عن الثلاثة، وسكوته بعد كل سؤال منها كان لاستحضار فهومهم، يعني بإمكانه -عليه الصلاة والسلام- أن يقول: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم.
المقدم: بدون سؤال.
بدون سؤال ولا جواب، لكن السؤال يشحذ الهمم، وينبه الغافل، يقول القرطبي: سؤاله -عليه الصلاة والسلام- عن الثلاثة وسكوته بعد كل سؤال منها كان لاستحضار فهومهم، وليقبلوا عليه بكليتهم، وليستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه، ولذلك قال بعد هذا: «فإن دماءكم» إلى آخره مبالغة في بيان تحريم هذه الأشياء، مبالغة في بيان تحريم هذه الأشياء؛ لأنه يمكن لو أنه قالها ابتداءً ما وقعت موقعها في أذهان السامعين، قال– عليه الصلاة والسلام-: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا»، هذه الدماء والأموال والأعراض من الضرورات، من الضرورات الخمسة التي جاءت الشرائع بحفظها، بقي من الضرورات بعد الدماء والأموال والأعراض الأديان.
المقدم: العقول.
والعقول، فجاءت الشرائع السماوية بحفظ هذه الضرورات، فلا يجوز لأحد كائنًا من كان أن يستبيحها بأي عذر كان، لا يجوز لأحد أن يستبيح دم مسلم بأي عذر كان، كما أنه لا يجوز له أن يستبيح ماله أو عرضه، يستطيل بعرضه، أو يسطو على عقله، أو يطعمه ما يؤثر على عقله، أو يسقيه كذلك، وكذلك الأعراض يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث؛ رجل زنى بعد إحصان، أو ارتد بعد إسلام، أو قتل نفسًا بغير حق فيقتل به» الحديث صحيح، وفي معناه أحاديث كثيرة، وكذلك الأموال لا يحل لأحد أن يعتدي عليها مثلها الأعراض، وعلى الإنسان أن يدافع عن نفسه وعرضه وماله، فإن قتل فهو شهيد، كما في الحديث: «من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد»، الحديث مخرج في المسند عن سعيد بن زيد، والحديث صحيح له ما يشهد دونه، فهذه الأمور عظائم، على المسلم أن يحتاط منها أشد الاحتياط، وقد جاء في أمر الأعراض وهي إذا نظرنا إليها الأعراض والأموال من أخف ما ذكر، من أعظمها الأديان، ثم الدماء، ثم يلي ذلك ماذا؟ العقول والدماء والأموال.
المقصود أن هذه الأمور العظيمة لا يجوز لإنسان بأي تأويل كان أن يعتدي عليها، والدفاع عن النفس جاءت به الشرائع، ودفع الصائل مطلوب، وهذا حين ماذا؟ يتبين الأمر، أما في حال الفتن، نسأل الله السلامة منها، فجاء الترغيب في كون الإنسان يترك الأمر لله كما فعل عثمان -رضي الله عنه-، وعلى كل حال ما ذكره النبي -عليه الصلاة والسلام- في هذه الخطبة العظيمة أمر عظيم «لا يزال المسلم في فسحة من دينه حتى يصب دمًا حرامًا»، وجاء في آية النساء التشديد وتهويل أمر القتل، لا سيما القتل العمد، {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا}[النساء:93].
وقد قرن القتل بالشرك {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ}[الفرقان:68]، هذه من عظائم الأمور، نسأل الله العافية.
قال ابن حجر: ومناط التشبيه وقبله الزركشي في التنقيح يقول: ومناط التشبيه في قوله: «كحرمة يومكم» وما بعده ظهوره عند السامعين؛ لأنه قد يقول قائل: إن تحريم البلد أسهل من تعظيم القتل، فكيف يشبه الأعظم بالأقل؟ يقول: مناط التشبيه في قوله: «كحرمة يومكم هذا» وما بعده ظهوره عند السامعين تحريم البلد، تحريم اليوم، تحريم الشهر، معروف عند العرب، لكنهم يسفكون الدماء، ينتهكون الأعراض، ينتهبون الأموال... هذا أمر مستباح عندهم في جاهليتهم بخلاف حرمة اليوم والشهر والبلد.
يقول: ومناط التشبيه في قوله: كحرمة يومكم هذا وما بعده، ظهوره عند السامعين؛ لأن تحريم البلد والشهر واليوم كان ثابتًا في نفوسهم، مقررًا عندهم، بخلاف الأنفس والأموال والأعراض، فكانوا في الجاهلية يستبيحونها، فطرأ الشرع عليهم؛ لأن تحريم دم المسلم وماله وعرضه أعظم من تحريم البلد والشهر واليوم، فلا يرد كون المشبه به أخفض رتبة من المشبه؛ لأن الخطاب إنما وقع بالنسبة لما اعتاده المخاطبون قبل تقرير الشرع، هذا كلام ذكره ابن حجر، وقبله الزركشي، لكن العيني تعقبه بقوله: لا نسلم أن الشارع قال: حرمة هذه الأشياء أعظم من حرمة تلك الأشياء، حتى يرد السؤال بكون المشبه به أخفض رتبة من المشبه، وإنما الشارع شبه حرمة تلك بحرمة هذه؛ لما ذكرنا من وجه التشبيه من غير تعرض إلى ذلك البلد الحرام، حرام صيده، وحرام لا يختلى خلاه، ولا تلتقط.
لكن هل هذه الأمور مثل قتل المسلم، أو دم المسلم، أو عرض المسلم، أو مال المسلم؟ إذًا كلام العيني لا يسلم لا يسلَّم، وقع في بعض الروايات عند المصنف وغيره أنهم أجابوه عن كل سؤال بقولهم: الله ورسوله أعلم، وذلك من حسن أدبهم؛ لأنهم علموا أنه لا يخفى عليهم ما يعرفونه من الجواب يقينًا، لا يمكن أن يسال النبي -عليه الصلاة والسلام- عن اليوم وهو يوم النحر، ولا يمكن أن يسأل عن الشهر، ولا عن البلد، ولا يمكن أن يسأل عن هذا إلا شخص أصابه شيء من الاختلاط، فهم يجزمون بأن النبي –عليه الصلاة والسلام- يعرف أجوبة هذه الأسئلة التي عندهم فهم وكلوا العلم إليه، إلى الله وإلى رسوله فقالوا: الله ورسوله أعلم، وذلك من حسن أدبهم؛ لأنهم علموا أنه لا يخفى عليه ما يعرفونه من الجواب، ففيه إشارة إلى تفويض الأمور الكلية إلى الشارع، ويستفاد منه الحجة لمثبت الحقائق الشرعية.
المقدم: قبل هذا إذا أذنت فضيلة الدكتور، كيف نجمع بين قوله: فسكتنا، واللفظ الآخر أنهم أجابوا: الله ورسوله أعلم.
قالوا: الله ورسوله أعلم لا ينافي قولهم سكتنا، سكتنا عن الجواب بقولنا يوم النحر مثلاً، سكتنا عن الجواب بقولنا: شهر ذي الحجة، سكتنا عن الجواب بقولنا مكة، هم سكتوا عن الجواب، لكن كونهم ردوا العلم إلى عالمه، إلى الله –جل وعلا- وإلى رسوله –عليه الصلاة والسلام-؛ لأن هذه الأمور لا شك أن النبي –عليه الصلاة والسلام- يريد أن يرتب عليها أمرًا شرعيًّا، والأمور الشرعية مردها إلى الله، وإلى المبلغ عنه –عليه الصلاة والسلام-. ويستفاد منه الحجة لمثبتي الحقائق الشرعية، يعني حقيقة اليوم يوم النحر حقيقة شرعية، وهي أيضًا عرفية، وكذلك الشهر، وكذلك البلد، فإضافة إلى كونها حقائق عرفية، وحقائق لغوية هي أيضًا حقائق شرعية، قد يكون الجواب عن سؤالٍ الجواب بحقيقة شرعية، ويصرف لمراد آخر لحقيقة شرعية أخرى، يعني كما سأل النبي –عليه الصلاة والسلام- عن المفلس قالوا: «المفلس من لا درهم له ولا متاع» قال: لا، هذه إضافة إلى كونها حقيقة عرفية هي أيضًا حقيقة شرعية في باب من أبواب الدين، في باب الحجر والتفليس، «المفلس من لا درهم له ولا متاع» جوابهم صحيح، لكنه يريد أن يقرر حقيقة أخرى هي أهم من هذه الحقيقة، وينبغي أن يعنى بها أكثر.
الأخ الحاضر: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، عندي سؤالان الأول: هل يشرع مثل هذا الأسلوب في خطبة الجمعة؟ ثم نصيحتكم، أحسن الله إليكم، لمن يتوسع في التكفير، فيتأول بناءً على هذا إهدار الدم، إهدار دم المسلم، فما توجيهكم؟ وهل صح أن إصابة دم المسلم أعظم من هدم الكعبة؟
أما بالنسبة للشق الأول من السؤال.
المقدم: الأول يقول: استخدامها في خطبة الجمعة يا شيخ الأسئلة هذه؟
لا مانع أن يوجد شيء من ذلك في خطبة الجمعة، على ألا يغير الأسلوب والنمط الذي يشترطه أهل العلم للخطبة، يعني لا تنقلب الخطبة كلها أسئلة وأجوبة، لكن لا مانع أن يوجد سؤال ينبه الغافل، سؤال كذا لا بأس، إن شاء الله تعالى، وهذا لا يغير من نمط الخطبة العام.
أما بالنسبة للتوسع في التكفير، فالتكفير أمر خطير، أمر خطير، التكفير، إذا كان «لعن المسلم كقتله» فكيف الحكم عليه بالكفر؟ وإذا لم يصادف هذا التكفير محله حار على صاحبه، نسأل الله السلامة والعافية، فبعض الناس قد يسارع في التكفير لأمر وعاه، فإن كان من أهل النظر والاجتهاد يحتمل كلامه الإصابة والخطأ، لكن الإشكال إن كان ليس من أهل النظر والاجتهاد، على أنه ولو كان من أهل النظر والاجتهاد لا يجوز له أن يرتب الأحكام اللازمة للتكفير إلا بواسطة ولي أمر ينفذ الحدود هذه؛ لأن من حكم بكفره وحكم بردته يحتاج إلى حد شرعي، وتنفيذ الحدود إنما هو لولي الأمر، للسلطان، والله المستعان.
المقدم: أحسن الله إليكم، لعلنا نستكمل ما تبقى مما يستفاد من هذا الحديث بإذن الله في حلقة قادمة، وأنتم على خير.
أيها الإخوة والأخوات، بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة، شكرًا لطيب متابعتكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.