شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (123)
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا بكم إلى حلقة جديدة في برنامجكم شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، مع مطلع حلقتنا يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلًا ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.
حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.
المقدم: قال المصنف -رحمه الله:- عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهية السآمة علينا».
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، راوي الحديث عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي، صحابي جليل تقدم التعريف به.
وهذا الحديث ترجم عليه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بقوله: باب ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا، وقبل هذا الباب ترجمة في غاية الأهمية، لكن المختصر لم يذكرها؛ لعدم اشتماله على حديث مسند من مقاصد الكتاب، يقول الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: باب العلم قبل القول والعمل الترجمة السابقة لقول الله تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]، فبدأ بالعلم ثم أتبعه بالعمل، فبدأ بالعلم، وأن العلماء هم ورثة الأنبياء، ورثوا العلم من أخذه أخذ بحظ وافر، «ومن سلك طريقًا يطلب به علمًا سهَّل الله له طريقًا إلى الجنة» وقال جل ذكره: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] وقال: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] يعني بيَّن وذكر أهم صفات أهل العلم، وهى الخشية لله -جل وعلا-. ومن صفاتهم عقل الأمثال، وتقدم أن من صفاتهم قيام الليل.
ثم قال الإمام -رحمه الله تعالى-: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10] وقال: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ» K «وإنما العلم بالتعلم»، لابد من التعلم؛ لتحصيل العلم، وليس العلم يُؤخذ بالوراثة دون تعب ولا كد ولا تحصيل، ولا يؤخذ ولا يشترى بالدراهم والدنانير، وإنما العلم بالتعلم، وقال أبو ذر -رضي الله عنه-: «لَوْ وَضَعْتُمْ الصَّمْصَامَةَ عَلَى هَذِهِ وَأَشَارَ إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ ظَنَنْتُ أَنِّي أُنْفِذُ كَلِمَةً سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَبْلَ أَنْ تُجِيزُوا عَلَيَّ لَأَنْفَذْتُهَا»؛ لأنه مأخوذ على أهل العلم أن يبلغوا، وتقدم قوله -عليه الصلاة والسلام-: «وليبلغ الشاهد منكم الغائب».
وقال ابن عباس: "كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ حلماء فقهاء"، ويقال: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، هذا هو الرباني الذي يربى الناس بصغار العلم قبل كباره، يعني الذي يسلك المنهج الموصل إلى المقصد، فالذي يبدأ بالصغار، بصغار الطلاب بالكتب الكبيرة لا يفلح لا هو ولا الطلاب، لا يفلح في تعليمهم، ولن يفلح في تعلمهم، لكن الذي يربي الطلاب بالتدريج بالصغار، صغار العلم، بالمتون الصغيرة، بالمسائل السهلة، ثم يتدرج بهم إلى ما فوقها كالجادة المعروفة عند أهل العلم هذا يفلح غالبًا، وهذا هو الرباني، ويقال: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، انتهى كلامه-رحمه الله- في الترجمة التي قبل الترجمة التي معنا، نقلتها لأهمية ما فيها، ومن أقوال أهل العلم في الرباني أنه الذي يتعلم ويعمل ويعلم، يتعلم ثم بعد التعلم يعمل، ليكون عمله على بصيرة، ثم بعد ذلك يزكي هذا العلم بتعليمه وإيصاله للناس.
المقدم: والترجمة السابقة لم يسق فيها حديثًا.
لم يسق فيها حديثًا مرفوعًا مسندًا، والمختصر لا يلتفت إلى مثلها.
الأخ الحاضر:.......
المقدم: يسأل عن أثر ابن عباس يقول: هو حكماء أم حلماء.
ابن عباس يقول: "كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ حلماء فقهاء".
المقدم: في نسخ الإخوة حكماء.
الأخ الحاضر:.......
وهو أولى، لكن النسخة التي معي حلماء، لكن الحكمة أقرب.
الأخ الحاضر:.......
حلماء، على كل حال هي أكثر من رواية هي مروية بهذا وهذا، لكن كأن الأنسب حكماء والحلم مطلوب من العالم والمتعلم، فإذا لم يوجد الحلم لدى العالم لم يصبر على طلابه، وإذا لم يوجد الحلم لدى المتعلم لم يصبر على ما يبدو من شيخه أحيانًا؛ لأن الشيخ بشر لا يفترض فيه أنه معصوم، إنما يغضب مثل ما يغضب الناس، فإذا لم يوجد الحلم من العالم والمتعلم إذا لم يوجد الصبر على هذه المهمة العظيمة فلن يفلح الطرفان. قال ابن حجر: ومناسبته لما قبله ظاهرة من جهة ما حكاه أخيرًا من تفسير الرباني «ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتخولهم بالموعظة كيلا ينفروا».
تفسير الرباني لابد أن يكون هذا الرباني ممن يتخول بالموعظة، لديه حكمة، ولديه علم، ولديه أيضًا حلم، وحكمته تجعله يتخولهم بالموعظة، فهذا هو الرابط بين هذه الترجمة والتي قبلها كمناسبة الذي قبله من تشديد أبى ذر في أمر التبليغ لما قبله من الأمر بالتبليغ، ماذا يقول أبو ذر؟ «لَوْ وَضَعْتُمْ الصَّمْصَامَةَ عَلَى هَذِهِ وَأَشَارَ إِلَى قَفَاهُ» هذا تشديد من أبى ذر في التبليغ، وفى الباب الذي قبله الأمر بالتبليغ، وغالب أبواب هذا الكتاب لمن أمعن النظر فيها والتأمل لا يخلو عن ذلك، يعني لا يخلو من مثل هذه الروابط.
وقال العيني: وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب الأول هو العلم، والمذكور في هذا الباب هو التخول بالعلم مطابقة الحديث لقوله في الترجمة: ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتخولهم بالموعظة، والعلم ظاهرة. «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتخولنا»، والترجمة «ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتخولهم».
وقوله: "كي لا ينفروا" في الترجمة؛ لأن النفرة نتيجة حتمية للسآمة؛ لأنه يتخولهم -عليه الصلاة والسلام-بالموعظة في الأيام؛ كراهة السآمة، والسآمة من لازمها النفرة، فالنفرة نتيجة حتمية للسآمة وغاية، فمن سأم نفر، وهكذا ومطابقتها لحديث أنس الآتي، حديث أنس الذي يليه وفيه قوله: «بشروا ولا تنفروا» "كي لا ينفروا" في الترجمة، وفى حديث أنس «ولا تنفروا» وهذه مطابقة، قال ابن حجر استعمل في الترجمة معنى الحديثين الذين ساقهما، وتضمن ذلك تفسير السآمة بالنفور، وهما متقاربان، وهما متقاربان، فيه تلازم بين السآمة والنفور مثل ما ذكرنا. قال الخطابي قوله: يتخولنا معناه يتعهدنا أي يراعي الأوقات في موعظته ويتحرى منها ما يكون مظنة القبول، ويفعله كل يوم؛ لئلا نسأم، كيف يفعله كل يوم؛ لئلا نسأم ومثله التخون؟
الأخ الحاضر:.......
هذا مأخوذ من الخطابي نفسه من نفس الكتاب، ولا يمنع أن يكون المراد يفعله كل يوم مدة يسيرة من ذلك اليوم على ما سيأتي في معنى التخون، ويحتمل أيضًا أنه لا يفعله كل يوم؛ لئلا نسأم، ودلالة الخبر خبر ابن مسعود على النفي عن فعل ذلك اليوم ظاهرة، لكن الذي في الخطابي يفعله كل يوم؛ لئلا نسأم، ومثله التخون، ولا يمنع أن تكون لا ساقطة في بعض النسخ، واعتمد على بعضها.
وعلى كل حال معنى التخول واضح؛ لأنه قد يكون التخول يوم في الأسبوع؛ لأنهم لا يحتملون أكثر من ذلك، وقد يكون التخول أيامًا من أيام الأسبوع، وقد يكون التخول ساعات من كل يوم، أو وقتًا من أوقات كل يوم؛ لأن كل الناس لهم ما يناسبهم، بعض الناس مستعد يعمل يومه كاملًا، ويتفرغ بقية الأيام، وبعض الناس ليس لديه من الصبر والجلد أن يمكث مدة طويلة، لكن عنده استعداد أن يستقبل هذا الأمر من كل يوم ساعة مثلًا بدلًا من أن يجمع عليه في يوم واحد، وينبغي للعالم كالطبيب أن يلاحظ ما عليه طلابه، ويلاحظ أيضًا ظروفهم وأحوالهم مثله التخون.
الأخ الحاضر: المقصود بالطلاب أو عامة الناس؟
كلهم، الناس والطلاب والذين يريدون أن يفهموا طلاب، ويأتي ما في هذا هل صنيع كثير من الأئمة من إجراء الدروس في اليوم الواحد مرات، والنووي -رحمه الله تعالى- له في كل يوم اثنا عشر درسًا، وكثير من الشيوخ إلى وقتنا هذا ممن له عدد أوقات الصلوات من الدروس بعد كل فرض من فروض الصلوات الخمس عنده درس، هل نقول: إن هذا مخالف للسنة؟
المقدم: لا هذا حسب الحال.
ومثله التخون يقول: تخولت الرجل وتخونته، والخائل القيم والوكيل المتعهد بالمال ونحوه، وفى التنقيح للزركشي: يتخولنا بخاء معجمة أي يتعهدنا، وقيل: الصواب بالحاء المهملة أي يطلبون الحال التي ينشطون فيها للموعظة فيعظهم فيها، وكان الأصمعي يرويه: يتخوننا بالنون قال العسكري: والرواية باللام يتخولنا أكثر من النون، والمعنى متقارب، وقال ابن السكِّيت: معنى قوله: «يتخولنا بالموعظة» أي يصلحنا ويقوم علينا بها.
وفي فتح الباري: قيل إن أبا عمرو بن العلاء سمع الأعمش يحدث هذا الحديث فقال: «يتخولنا» باللام، فرده عليه بالنون؛ فلم يرجع لأجل الرواية، وكلا اللفظين جائز، يتخولنا، ويتخوننا كلاهما جائز، لكن كون الأعمش لم يرجع؛ لأنه على جادة، لأنه على رواية صحيحة ثابتة، وهى مؤيدة برواية منصور، كما سيأتي، فهي أرجح من الأخرى، لكن لو كان الأعمش أخطأ في رواية هذا الخبر فرد عليه ولم يقع له ذلك رد عليه الصواب فأصر، عند أهل العلم إذا اخطأ الراوي فرد عليه فأصر على الخطأ من غير بيان لما يعتمد عليه فإنه يجرح بذلك، وحكى أبو عبيد الهروي في الغريبين عن أبي عمرو الشيباني أنه كان يقول: الصواب "يتحولنا" بالحاء المهملة أي: يتطلب أحوالنا التي ننشط فيها للموعظة.
قلت: (القائل ابن حجر) والصواب من حيث الرواية الأولى: «يتخولنا» فقد رواه منصور عن أبي وائل كرواية الأعمش، وهو في الباب الآتي، وإذا ثبتت الرواية وصح المعنى بطل الاعتراض، لا مجال للاعتراض مع صحة المعني وثبوت الرواية. و«الموعظة» من الوعظ، وهي كما في مفردات الراغب زجر مقترن بتخويف، وقال الخليل: هو التذكير بالخير، الموعظة التذكير بالخير فيما يرق له القلب والعظة والموعظة الاسم قال تعالى: {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ } [سبأ:46]، {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ} [المجادلة:3]، {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [يونس:57]، {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ} [هود:120]، {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً} [الأعراف:145] {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} [النساء:63].
فالموعظة من الوعظ، وهو الزجر المقترن بالتخويف، هذه موعظة، وقد تكون الموعظة بالترغيب، لا يلزم أن تكون بالترهيب، إنما تكون بما يرق له القلب من ترغيب أو ترهيب في الأيام، فكان -صلى الله عليه وسلم- يراعي الأوقات في وعظنا، فلا يفعله كل يوم، «كراهة» بالنصب مفعول له أي لأجل الكراهة، «السآمة» أي الملالة من الموعظة علينا، وفى رواية الأصيلي وأبي ذر عن الحموي: كراهية بزيادة المثناة التحتية، وهما لغتان، كراهة، وكراهية، والجار والمجرور يعني علينا متعلق بالسآمة على تضمين السآمة معني المشقة أي كراهية المشقة علينا، أو بتقدير الصفة أي كراهة السآمة الطارئة علينا أو الحال كراهة السآمة حال كونها طارئة علينا، أو بمحذوف أي كراهة السآمة؛ شفقة علينا، قاله القسطلاني.
وفي شرح الكرماني: السآمة قيل: الملالة بناءً ومعنى، السآمة مثل الملالة بناءً ومعنى، يقول: فإن قلت: يقال سئمت من الشيء مستعملًا بـ(من) يعني معدًى بـ(من)، فأين صلته؟ قلت: محذوف تقديره من الموعظة، يعني السآمة علينا من الموعظة، فإن قلت: هل يصح أن يكون المراد من السآمة سآمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من القول؟ يقول: قلت: لا ويدل عليه السياق، السياق ظاهر؛ لأن السآمة عليهم لا منه -عليه الصلاة والسلام-، لكن لا يبعد أن يكون من الشيوخ من ينبغي للطلاب أن يتخولوه؛ لئلا يسأم؛ لأن مثل ما ذكرنا الشيخ شأنه شأن غيره، يمل ويسأم، فإذا كان الطلاب هذا وراء الثاني، هذا يقرأ وهذا يسأل يستغرقون معه الأوقات الطويلة، لابد أن يسأم، فلابد من تخوله؛ امتثالًا لفعله -عليه الصلاة والسلام-، فالمسألة مطلوبة من الطرفين، الشيخ يتخول الطلاب، وينظر في وجوههم وفى أحوالهم وفى ظروفهم؛ لئلا يملوا، ويؤدي ذلك إلى الترك، وأيضًا الطلاب عليهم ألا يملوا الشيخ ويسئموه، فلا يطيلوا عليه والله المستعان.
وقال الكرماني: فإن قلت: قوله كان لثبوت خبرها ماضيًا ويتخولنا إما حال، أو استقبال فما وجه الجمع بينهما؟ «كان يتخولنا» كان ماضٍ خبر ماضٍ، ويتخولنا إما حال وإما استقبال؛ لأنها مضارع، يقول الكرماني: فإن قلت: قوله كان لثبوت خبرها ماضيًا ويتخولنا إما حال، أو استقبال فما وجه الجمع بينهما؟ قلت: كان قد يراد به الاستمرار، وكذا الفعل المضارع، واجتماعهما يفيد شمول الأزمنة، الماضي يؤخذ من كان، والحال والاستقبال يؤخذ من المضارع، فاجتماع كان مع المضارع يفيد شمول الأزمنة الثلاثة، بخلاف الماضي ما لو كان الماضي وحده أو المضارع وحده. يقول الأصوليون: قولهم كان حاتم يكرم الضيف هل معنى هذا أنه يكرم في الحال والمستقبل؟ لا إنما يفيد تكرار الفعل في الأزمان، يعني في أزمان وجوده في الأيام التي خلت ومضت، وفي اليوم الحالي وفي المستقبل.
قال ابن بطال: في حديث عبد الله ما كان عليه الصحابة من الاقتداء بالنبي-صلى الله عليه وسلم-، والمحافظة على استعمال سننه على حسب معاينتهم لها منه، وتجنب مخالفته لعلمهم بما في موافقته من عظيم الأجر وما في مخالفته من شديد الوعيد والزجر.
يقول ابن حجر: ويستفاد من حديث استحباب ترك المداومة في الجد في العمل الصالح؛ خشية الملال، وإنما كانت المواظبة مطلوبة، لكنها على قسمين: استحباب ترك المداومة في الجد في العمل، لا بد من الترويح عن النفس، ولذا كان النبي يتخولهم، وكان أيضًا يمزح -عليه الصلاة والسلام- خشية المِلال؛ لأن قصر النفس على الجد باستمرار لا شك أنه طريق إلى الترك كما تقدم في الحديث: «اكْلَفُوا من العمَل ما تطيقون، فَإِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا» المواظبة لا شك أنها مطلوبة، لماذا؟ «أَحَبَّ العمل عِنْدَ اللَّهِ أَدْوَمُهَ» المداومة ما داوم عليه صاحبه، وكان عمره -عليه الصلاة والسلام- ديمة، المواظبة مطلوبة، وترك المداومة أيضًا خشية الملالة مطلوبة، فلابد من التوازن، لا يداوم على عمل يؤديه فيه مداومته إلى الانقطاع، ولا يكون عمله أيضًا منقطع باستمرار بحيث يكون ممن يعمل الأعمال الكثيرة في اليوم الواحد ثم ينقطع بعدها مدة؛ لأن الانقطاع مشعر بالانصراف عن الطاعة، لكنها على قسمين إما كل يوم مع عدم التكلف، يعني ساعة من كل يوم، وإما يومًا بعد يوم فيكون يوم الترك لأجل الراحة؛ ليقبل على الثاني بنشاط، وحينئذٍ تضاعف المدة، وإما يوم في الجمعة، يوم في الأسبوع، ويختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، والضابط الحاجة مع مراعاة وجود النشاط.
ويحتمل عمل ابن مسعود مع استدلاله بفعل النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يكون اقتدى بفعل النبي-عليه الصلاة والسلام- حتى في اليوم الذي عينه، ويأتي في الموضع الذي يليه أن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- كان يذكر الناس في كل يوم خميس، هذا احتمال أنه اقتدى بالنبي -عليه الصلاة والسلام- حتى في اليوم الذي عينه، ويحتمل أن يكون اقتدى بمجرد التخول والتخلل بين العمل والترك، يعمل ويترك الذي عبر عنه بالتخول، والثاني أظهر. يقول ابن حجر: والثاني أظهر لعله استظهر الثاني؛ لعدم ذكر الوقت بالتحديد مرفوعًا للنبي -عليه الصلاة والسلام-، لم يرفع للنبي -عليه الصلاة والسلام- أنه كان يتخولهم في يوم الخميس مثلًا فيكون ابن مسعود اقتدى به في اليوم نفسه.
يقول ابن حجر: أخذ بعض العلماء من حديث الباب كراهة تشبيه غير الرواتب بالرواتب بالمواظبة عليها في وقت معين دائمًا، وجاء عن مالك ما يشبه ذلك، لا شك أن التخول مطلوب، وتشبيه غير الفرائض بالفرائض عند أهل العلم مرغوب عنه، كما أن تشبيه غير الرواتب بالرواتب والاستمرار عليها أيضًا غير مرغوب، لكن المحفوظ عن السلف والأئمة الملازمة ملازمة الأعمال مع تطويل الأوقات، فتجدهم يسهرون الليل كله، وتجدهم يعكفون على العلم تحصيلًا وتأليفًا وتدريسًا، من العلماء من كان كل وقته مشغول بالعلم، فلماذا لا يقال مثل هذا عليه أن يتخول نفسه لئلا يمل، وعليه أن يتخول طلابه لئلا يملوا؟ لا شك أنه إذا وجدت الرغبة، وتجاوز الإنسان مرحلة المجاهدة للنفس، ووصل إلى مرحلة التلذذ بالعبادة، والعلم من أعظم أبواب العبادة، لا شك أنه حينئذٍ لن يتطرق إليه السآمة ولا الملل، لكن يبقى أن عليه أنه حتى ولو وصل هذه المرحلة ألا يشق على طلابه، وحينئذ ينصرف إلى عبادات أخرى غير التعليم، يتخولهم بالتعليم والموعظة، وينفع طلاب العلم، وينفع عامة الناس، وأيضًا ينصرف إلى أمور أخرى كالتأليف وغيره.
المقدم: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، لعلنا نستكمل ما تبقى في هذا الحديث في حلقة قادمة بإذن الله، أيها الإخوة والأخوات، بهذا نصل وإياكم إلى ختام حلقتنا من برنامجكم شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، شكرًا لطيب متابعتكم، شكرًا لإخواننا الذين تابعوا هذه الحلقة في مجلس العلم هذا، نلقاكم بإذن الله في حلقة قادمة لاستكمال ما جاء في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-، نلقاكم على خير، وأنتم بخير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.