شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (291)
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة في برنامجكم "شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح".
مع بداية هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلاً ومرحبًا بكم فضيلة الدكتور.
حياكم الله، وبارك فيكم، وفي الإخوة المستمعين.
المقدم: حديثنا مستمر عن حديث ابن عمر –رضي الله عنهما- الحديث مائة وتسعة عشر في المختصر، مائة وخمسة وأربعين في الأصل، لمن أراد المتابعة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
في آخر الحلقة السابقة ذكرنا أن الشرّاح استشكلوا كلام ابن عمر في قوله لواسع الراوي عنه: «لعلك من الذين يصلون على أوراكهم أو يسجدون على أوراكهم» تفسير مالك: «يصلون على أوراكهم» أي: من يلصق بطنه بوركيه إذا سجد، ولا شك أن هذا خلاف السنة؛ لأن السنة التجافي.
استُشكل هذا في إرداف البخاري هذا الكلام لحديث ابن عمر ومقالة ابن عمر هذا الكلام الذي فيه شيء من الشدة على مثل هذا الراوي، فقيل: يحتمل أن يكون أراد بذلك أن الذي خاطبه لا يعرف السنة، إذ لو كان عارفًا بها لعرف الفرق بين الفضاء وغيره، أو الفرق بين استقبال القبلة وبيت المقدس، وإنما كنى عمن لا يعرف السنة بالذي يصلي على وركيه؛ لأن الذي يفعل ذلك لا يكون إلا جاهلًا بالسنة، وهذا الجواب للكرماني.
قال ابن حجر: ولا يخفى ما فيه من التكلف.
وليس في السياق أن واسعًا سأل ابن عمر عن المسألة الأولى حتى ينسبه إلى عدم معرفتها، ثم الحصر الأخير مردود؛ لأنه قد يسجد على وركيه من يكون عارفًا بسنن الخلاء.
والذي يظهر في المناسبة ما دل عليه سياق مسلم، ففي أوله عنده عن واسعٍ قال: "كنت أصلي في المسجد، فإذا عبد الله بن عمر جالس، فلما قضيت صلاتي انصرفت إليه من شقي، فقال عبد الله: يقول ناسٌ.. فذكر حديثه في استقبال القبلة" فذكر الحديث.
فكأن ابن عمر رأى منه –يعني: من واسع- في حال سجوده شيئًا لم يتحققه، فسأله عنه بالعبارة المذكورة، لعلك من الذين يسجدون على أوراكهم، وما يدري لعله عذر مثلًا حمله على هذا، "فكأن ابن عمر رأى منه في حال سجوده شيئًا لم يتحققْه، فسأله بالعبارة المذكورة، وكأنه بدأ بالقصة الأولى؛ لأنها من روايته المرفوعة المحققة عنده، فقدمها على ذلك الأمر المظنون، ولا يبعد أن يكون قريب العهد بقول من نقل عنهم ما نقل، أو نقل عنهم ابن عمر ما نقل، فأحب أن يعرف الحكم لهذا التابعي لينقله عنه، على أنه لا يمتنع إبداء مناسبة بين هاتين المسألتين بخصوصهما، وأن لإحداهما بالأخرى تعلقًا بأن يقال: لعل الذي كان يسجد وهو لاصق بطنه بوركيه.. -انظر الآن المناسبة الدقيقة بين المسألة وبين استقبال القبلة بالبول والغائط- على أنه لا يمتنع إبداء مناسبة بين هاتين المسألتين إلصاق البطن على الفخذ وبين استقبال القبلة بالبول والغائط، بأن يقال: لعل الذي يسجد وهو لاصق بطنه بوركيه كأنه يظن امتناع استقبال القبلة بفرجه في كل حالة كما قدمنا في الكلام على مثار النهي، حتى وهو في الصلاة، لكن إذا تلافى هذا في السجود فكيف يتلافاه في القيام مثلًا.
وأحوال الصلاة أربعة: قيامٌ، وركوعٌ، وسجودٌ، وقعود؛ وانضمام الفرج فيما بين الوركين ممكن إلا إذا جافى في السجود، فرأى أن في الإلصاق ضمًّا للفرج ابتداعًا وتنطعًا، والسنة بخلاف ذلك، والتستر بالثياب كافٍ في ذلك، كما أن الجدار كافٍ في كونه حائلاً بين العورة والقبلة، إن قلنا: إن مثار النهي الاستقبال بالعورة فلما حدَّث ابن عمر التابعي بالحكم الأول أشار له إلى الحكم الثاني منبهًا له على ما ظنه منه في تلك الصلاة التي رآه صلاها، هذه مناسبة بديعة ودقيقة.
وأما قول واسع: "لا أدري" فدالٌّ على أنه لا شعور عنده بشيء مما ظنه به، يعني: الإنسان إذا اتُّهم بكلامٍ لا يخطر على باله، قال: لا أدري؛ ولهذا لم يغلظ ابن عمر له في الزجر، والله أعلم.
«إن ناسًا» قال ابن حجر يشير بذلك إلى من كان يقول بعموم النهي كما سبق، وهو مروي عن أبي أيوب وأبي هريرة ومعقل الأسدي وغيرهم، والقائل: ابن عمر –رضي الله عنهما-: «إن ناسًا» وفي شرح الكرماني ما يدل على أنه واسع بن حبان، ونقل عن ابن بطال: أما قول ابن عمر «إن ناسًا يقولون: إذا قعدت لحاجتك فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس» قال الكرماني: فجعل "إن ناسًا" مقولًا لابن عمر لا لواسع، والسياق لا يساعده، كذا قال الكرماني.
يعني: "إن ناسًا قالوا" هذا يقول من كلام واسع وليس من كلام ابن عمر، بينما ابن بطال يقول: "أما قول ابن عمر إن ناسًا يقولون: إذا قعدت لحاجتك فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس" فجعل "إن ناسًا" مقولًا لابن عمر لا لواسع، يقول الكرماني: "والسياق لا يساعده".
يقول العيني: قلت: الصواب مع ابن بطال على ما لا يخفى، وقال الخطابي: قد يتوهم السامع من قول ابن عمر: «إن ناسًا يقولون» إلى آخره، فهذا أيضًا يؤيد تفسير ابن بطال، وأن القائل هو ابن عمر، فافهم.
وقال ابن حجر: من زعم أن الضمير يعود على واسع فهو وهم منه، يريد الكرماني، وليس قوله فقال ابن عمر جوابًا لواسع، بل الفاء في قوله فقال سببية؛ لأن ابن عمر أورد القول أولًا منكرًا له، ثم بيَّن سبب إنكاره بما رواه عن النبي –صلى الله عليه وسلم- وكان يمكنه أن يقول: فلقد رأيت، ولكن الراوي عنه وهو واسع، أراد التأكيد بإعادة قوله: قال عبد الله بن عمر.
ما الذي دعا إلى هذا الكلام كله؟ ما الذي أوقع الكرماني في هذا الوهم؟ وأن القائل هو واسع وليس ابن عمر؟
انظر في الحديث، قال: عن ابن عمر –رضي الله عنهما- قال: "إن ناسًا" هذا واضح في نسبة أو إسناد القول إلى ابن عمر، لكن ما الذي جعل الكرماني يقول: إن القائل "أن ناسًا" هو واسع وليس ابن عمر؟
المقدم: كلام ابن عمر له: "لعلك من الذين".
وفيه قال ابن عمر.
المقدم: في اللفظ الآخر عن ابن عمر أنه كان يقول: «إن ناسًا يقولون».
الآن لو كان معك الصحيح الأصل: عن عمه واسع بن حبان عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول: «إن ناسًا يقولون» هذا واضح إسناده لابن عمر، إذا قعدت على حاجتك فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس، فقال عبد الله بن عمر: "لقد ارتقيت" فجعل الضمير أنه كان يقول لواسع، هذا الكرماني، جعل السياق على هذا.
المقدم: لأنه جاء بقوله: فقال عبد الله بن عمر.
فقال عبد الله بن عمر: لقد ارتقيت، هذا الذي أوقع الكرماني في هذا الوهم.
المقدم: هذه مائة وخمسة وأربعون يا شيخ في الأصل؟
نعم مائة وخمسة وأربعون؛ ولذلك استصحاب الأصل.
المقدم: يفيد كثيرًا.
يحل كثيرًا من الإشكالات.
قال ابن حجر: من زعم أن الضمير يعود على واسع فهو وهم منه وليس قوله، فقال ابن عمر جوابًا لواسع، بل الفاء في قوله فقال سببية؛ لأن ابن عمر أورد القول الأول منكرًا له، ثم بيّن سبب إنكاره بما رواه عن النبي –صلى الله عليه وسلم- وكان يمكنه أن يقول: فلقد رأيت، بدون أن يقول: فقال ابن عمر، إلى آخره، ولكن الراوي عنه وهو واسع أراد التأكيد بإعادة عبارة قوله: قال عبد الله بن عمر، قال ابن بطال: قوله: إن ناسًا يقولون كذا، فيه دليل على أن الصحابة كانوا يختلفون في معاني السنن، يعني: أفهامهم تتفاوت كمن جاء بعدهم، فيه دليل على أن الصحابة –رضوان الله عليهم- كانوا يختلفون في معاني السنن، وكان كل واحدٍ منهم يستعمل ما سمع على عمومه، فمن هاهنا وقع بينهم الاختلاف.
المقدم: في الأصل ما فيه إلا هذا الحديث؟
كيف؟
المقدم: في الباب نفسه.
ما فيه إلا هذا الحديث.
المقدم: كيف المختصر جاء بلفظين مختلفين يا شيخ؟
كيف؟
المقدم: في المختصر، لا فقد جاء بلفظ آخر لو تنظر –أحسن الله إليك- في الأصل المختصر في الأصل..
فيه أمور حذفها يقتضي الاختصار، بما لا يترتب على حذفه...
المقدم: فهو حذفها في..
حذفه صرف.
المقدم: جيد.
إذا قعدت، ذكر القعود لكونه الغالب، وإلا فحال القيام كذلك؛ لأنه ثبت «أن النبي –صلى الله عليه وسلم- بال قائمًا» في حديث حذيفة، على حاجتك كناية عن التبرز، «فلا تستقبل» أي: تتجه إلى جهة «القبلة» وهي الكعبة المشرفة، «ولا بيت المقدس»، قال الكرماني: فيه لغتان مشهورتان، فتح الميم وسكون القاف، مقْدس وكسر الدال المخففة، وضم الميم وفتح القاف والدال المشددة المقدَّس، والمشدد معناه المطهر، التقديس التطهير، والمشدد معناه المطهر والمخفف مقدِس، لا يخلو إما أن يكون مصدرًا أو مكانًا، ومعناه: بيت المكان الذي جُعل فيه الطهارة، مكان التقديس الذي هو الطهر، الذي جعل فيه الطهارة أو بيت مكان الطهارة، وتطهيره إخلاؤه من الأصنام وإبعاده منها أو من الذنوب، ثم إنه من باب إضافة الموصوف إلى صفته نحو مسجد الجامع.
فقال عبد الله بن عمر، كذا في الأصل مما لا يوجد في المختصر: «لقد ارتقيت» اللام واقعة في جواب قسم محذوف، وارتقيت معناه: صعدت، من رقيت في السلم بالكسر رقيًا ورُقيًّا إذا صعدت، وهذه هي اللغة الفصيحة المشهورة.
وحكا صاحب المطالع لغتين أخريين إحداهما فتح القاف بغير همز والأخرى فتحها مع الهمز.
المقدم: فتح القاف؟
فتح القاف بغير همز.
المقدم: رَقيت، أقصد ارتقاء.
رقأت ورقيت، الفصيحة المشهورة رقيت، وفيه لغتان أخريان إحداهم فتح القاف بغير همز، رقَيت، والأخرى فتحها مع الهمز رقأت، فيه إشكال؟
المقدم: يختلط مع الرقية، رقى.
لكنها لغة، ما قال هي الصحيحة الفصيحة المشهورة، لا، لكنه نُطق بها، في المصباح المنير: رقيت في السلم أو غيره، أرقي من باب تعب رُقيًّا على فعول، ورقيًا مثل فلس، أيضًا وارتقيت وترقيت مثله ورقيت السطح والجبل علوته يتعدى بنفسه، والمرقى والمرتقى موضع الرقي والمرقاة مثله، ويجوز فيها فتح الميم، المرقاة، يجوز فيها فتح الميم مرقاة، على أنه موضع الارتقاء، ويجوز الكسر تشبيهًا باسم الآلة: مرقاة، كالمِطهرة والمِسقاة، وأنكر أبو عبيدٍ الكسر، وقال: ليس في كلام العرب، يُقال: مَرقاة، ولا يقال: مِرقاة.
يومًا نُسب على الظرف على ظهر بيتٍ لنا، وفي رواية يزيد بن هارون الآتية: على ظهر بيتنا، وفي رواية عبيد الله بن عمر: «على ظهر بيت حفصة»، أي: أخته، كما صرح به في رواية مسلم، ولابن خزيمة: «دخلت على حفصة بنت عمر، فصعدت ظهر البيت»، قال ابن حجر: وطريق الجمع أن يقال: إضافته البيت إليه على سبيل المجاز؛ لكونها أختها فله منه سبب، يعني: بأدنى سبب إضافة شيء إلى النفس، فله منه سبب، وحيث أضافه إلى حفصة كان باعتبار أنه البيت الذي أسكنها النبي –صلى الله عليه وسلم- فيه واستمر في يدها إلى أن ماتت فورث عنها، وسيأتي انتزاع المصنف ذلك من هذا الحديث في كتاب الخمس إن شاء الله تعالى، وحيث أضافه إلى نفسه كأنه باعتبار ما آل إليه الحال؛ لأنه ورث حفصة دون إخوته؛ لكونها كانت شقيقته، ولم تترك من يحجبه عن الاستيعاب.
«فرأيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم-» في شرح "ابن بطال" قال: ابن القصَّار: إن قيل: كيف جاز لابن عمر أن ينظر إلى مقعد النبي –صلى الله عليه وسلم-؟ أن ينظر إلى محل قضاء الحاجة.
فالجواب: أنه يجوز أن تكون كانت منه التفاتة فرآه ولم يكن قاصدًا لذلك، فنقل ما رآه، وقَصْد بذلك أنه لا يجوز.
فالجواب: أنه يجوز أن تكون منه كانت التفاتة فرآه ولم يكن قاصدًا لذلك، فنقل ما رآه، وقَصْد ذلك لا يجوز، كما لا يتعمد الشهود النظر إلى الزنا، ثم قد يجوز أن تقع أبصارهم عليه، ويجوز أن يتحملوا الشهادة بعد ذلك، وقد يجوز أن يكون ابن عمر قصد لذلك ورأى رأسه دون ما عدا ذلك من بدنه ثم تأمل قعوده فعرف كيف هو جالس؛ ليستفيد فعله، فنقل ما شاهد. يعني: قصد النظر إلى الوجه، ومعلوم أن باقي البدن يتبع الوجه، والنظر إلى الوجه لا إشكال فيه.
وقال ابن حجر: ولم يقصد ابن عمر الإشراف على النبي –عليه الصلاة والسلام- في تلك الحالة، وإنما صعد السطح لضرورة له، كما في الرواية الآتية، فحانت منه التفاتة، كما في رواية للبيهقي من طريق نافع عن ابن عمر.
نعم لما اتفقت له رؤيته في تلك الحالة عن غير قصدٍ أحب ألا يخلي ذلك من فائدة، فحفظ هذا الحكم الشرعي، وكأنه إنما رآه من جهة ظهره، حتى ساغ له تأمل الكيفية المذكورة من غير محظور، حيث.. يقول: وكأنه إنما رآه من جهة ظهره حتى ساغ له تأمل الكيفية المذكورة من غير محظور. الآن مرة يقول من جهة الوجه، ومرة من جهة الظهر، كل هذا مجرد التماس، سواء هذا أو ذاك، إنما لم يقصد النظر إلى العورة.
المقدم: لكن الأكيد أنه دقق؛ لأنه رأى اللبنتين.
كيف؟
المقدم: يعني اللبنتين مادام رآهما هما أصغر من حجمه –عليه الصلاة والسلام- ويجلس عليهما أكيد أنه دقق يعني.
على كل حال هو يدقق في محل الحكم لما يفيد الحكم الشرعي.
ودل ذلك على شدة حرص الصحابي على تتبع أحوال النبي –صلى الله عليه وسلم- ليتبعها، وكذلك كان –رضي الله تعالى عنه- «على لبنتين» تقدم ضبط هذه الكلمة، قال ابن حجر: ولابن خزيمة: «فأشرفت على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهو على خلائه»، وفي رواية له: «فرأيته يقضي حاجته محجوبًا عليه بلبن» يعني: كالحائط.
وللحكيم الترمذي بسندٍ صحيح: «فرأيته في كنيف» وهو بفتح الكاف وكسر النون بعدها ياء تحتانية ثم فاء، وانتفى بهذا إيراد من قال ممن يرى الجواز مطلقًا -يعني استدل بهذا الحديث على الجواز مطلقًا- أي: جواز الاستقبال واستدبارها، يحتمل أن يكون رآه في الفضاء، وكونه رآه على لبنتين لا يدل على البناء؛ لاحتمال أن يكون جلس عليهما ليرتفع بهما عن الأرض. ويرد هذا الاحتمال أيضًا أن ابن عمر كان يرى المنع من الاستقبال في الفضاء إلا بساتر، كما رواه أبو داود والحاكم بسندٍ لا بأس به، يعني: لو لم يكن في الباب «على لبنتين» هذا يدل على البناء؟ لا يدل على البناء، لكنه في بيت وارتقى وما رآه إلا بعد أن ارتقى، هذا يدل على أنه في البناء مقطوع به هذا.
قلت: ويمنع كونه في الفضاء السياق، إذ الفضاء لا يحتاج إلى صعودٍ إلى سطح، لا يحتاج إلى صعود، لو كان في فضاء لرآه من غير صعود.
في تاج العروس مادة "كنَفَ" والكنيف أيضًا الساتر، قال لبيد:
حريمًا حين لم يمنع حريمًا سيوفهم ولا الحجف الكنيف..
والكنيف أيضًا الترس لستره ويوصف به فيقال: تُرس كنيف، كما هو في قول لبيد: ومنه سُمي المرحاض كنيفًا، وهو الذي تقضى فيه حاجة الإنسان، كأنه كُنِف في أستر النواحي، ومن المجاز كُنيف.
المقدم: أو كُنَيِّف؟
لا، كُنَيْف، لقب عبد الله بن مسعود.
المقدم: كُنَيْف مُلئ علمًا.
لقبه عمر –رضي الله تعالى عنه- فقال: "كُنَيْف مُلئ علمًا" وهذا هو المشهور عند المحدثين، خلافًا لما في الفتاوى الظاهرية أنه لقبه إياه النبي –عليه الصلاة والسلام-، أي: أنه وعاء للعلم، تشبيهًا له بوعاء الراعي الذي يضع فيه كل ما يحتاج إليه من الآلات، فكذلك قلب ابن مسعود قد جُمع فيه كل ما يحتاج إليه الناس من العلوم.
المقدم: لقبه من الأساس الكنيف أو لقبه إياه عمر؟
لقبه إياه عمر، وتصغيرها على جهة المدح له، وهو تصغير تعظيم للكنف، كقول الحباب بن المنذر: "أَنا جُذَيْلُها المُحَكَّك وعُذَيْقُها المُرَجَّب" يعظم نفسه بهذا التصغير، لا يحقر نفسه.
قلت: ولا يجوز تشديد كنيف فيكون كُنيِّف لأنه حينئذٍ يصوغ..، الذي في الخبر كُنيْف، لا يجوز التشديد فتقول: كُنيِّف، نعم؛ لأنه حينئذٍ يكون تصغيرًا للكنيف الذي هو محل قضاء الحاجة.
«مستقبلًا بيت المقدس» تقدم ضبطه، قال الخطابي في أعلام الحديث: أي مستقبلًا لبيت المقدس وهو بالمدينة مستدبرًا للكعبة.
قال العيني: احتج به مالك والشافعي وإسحاق وآخرون فيما ذهبوا إليه من جواز استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة في البنيان، وأنه مخصص لعموم النهي، ومنهم من رأى هذا الحديث ناسخًا لحديث أبي أيوب، واعتقد الإباحة مطلقًا، وقاس الاستقبال على الاستدبار، وترك حكم تخصيصه بالبنيان، ورأى أنه وصفٌ ملغى لاعتبار، ومنهم من رأى العمل بحديث أبي أيوب وما في معناه، واعتقد هذا خاصًّا بالنبي –صلى الله عليه وسلم-. وتقدم ما في هذا كله.
ومنهم من جمع بينهما وأعملهما، ومنهم من توقف في المسألة، قلت: -العيني يقول-: دعوى النسخ غير ظاهرة؛ لأنه لا يصار إليه إلا عند تعذر الجمع وهو ممكن، فإن قلت: ورد عن عائشة– رضي الله عنها- حديث بُيِّن فيه وجه النسخ مطلقًا، رواه ابن ماجه بسندٍ صحيح عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد قال: حدثنا وكيع عن حماد بن سلمة عن خالد الحذَّاء عن خالد بن أبي الصلت عن عراك بن مالك عنها قالت: ذُكر عند النبي –صلى الله عليه وسلم- قومٌ يكرهون أن يستقبلوا القبلة بفروجهم، فقال: «أُراهم قد فعلوا، استقبلوا بمقعدتي القبلة» الآن العيني يقول بسندٍ صحيح.
قلت –العيني-: في علل الترمذي قال محمد، البخاري، هذا حديث فيه اضطراب، والصحيح عن عائشة قولها، وقال ابن حزمٍ: هذا حديث ساقط؛ لأن خالد بن أبي الصلت مجهول، لا يُدرى من هو، وأخطأ فيه عبد الرزاق، فرواه عن خالد الحذاء عن كثير بن أبي الصلت، وهذا أبطل وأبطل؛ لأن الحذّاء لم يدرك كثيرًا.
قوله: ابن أبي الصلت لا يُدرى من هو غير مُسلَّم؛ لأن ابن حبان ذكره في الثقات، ولأن بحشلًا- وهو صاحب تاريخ واسط- ذكر أنه كان عينًا لعمر بن عبد العزيز –رضي الله عنه- بواسط، عينًا لعمر بن عبد العزيز –رضي الله عنه- بواسط، ومعروف أن عمر بن عبد العزيز لا يولي إلا الثقات، ويوثقونه بتولية عمر بن عبد العزيز، وإن كان المسألة مسألة استرواح، بحيث إذا عورض بما هو أصرح منه يقدم عليه، لكن مثل هذا الذي لا يوجد فيه جرح ولا تعديل يُرجَّح بمثل تعيين عمر بن عبد العزيز.
وذكر من صلاحه ودينه، وقوله: كثير بن أبي الصلت ليس كذلك، وإنما المذكور عند البخاري بتاريخه وعند ابن أبي حاتم في كتابه الجرح والتعديل، كثير بن الصلت، وكذا ذكره ابن عمر العسكري وابن حبان وابن منده والبارودي وآخرون، ولعل ذلك يكون من خطأ عبد الرزاق فيه.
وقال الإمام أحمد: أحسن ما رُوي في الرخصة حديث عراك، وإن كان مرسلًا، فإن مخرجه حسن وفي المراسيل عنه هذا حديث مرسل، وأنكر أن يكون عراك سمع عائشة، وقال: من أين سمع عائشة؟ ما له ولعائشة؟ إنما يروي عن عروة، وهذا خطأ ممن روى هذا قبل حمَّاد بن سلمة عن خالد، فقال غير واحد عن خالد ليس فيه سمعت، وغير واحد أيضًا عن حماد وليس فيه سمعت، فالمرجح أنه مرسل.
المقدم: نعم لا يصح.
قلت: العين أبو عبد الله لم يجزم بعدم سماعه منها، وإنما ذكره استبعادًا، يقول: أين هو منها؟ ذكره استبعادًا، وأما روايته عن عروة عنها، فلا يدل على عدم سماعه منا لاسيما وقد جمعهما بلدٌ واحد وعصر واحد، فسماعه منه ممكن جائز، وقد صرّح بالكمال والتهذيب بسماعه منها، وقد وجدنا متابعًا لحماد على قوله عن عراك، سمعت عائشة –رضي الله عنها- وهو علي بن عاصم عند الدارقطني وصحيح ابن حبان، وهو منهما محمول على الاتصال حتى يقوم دليل واضح بعدم سماعه عنها، والله أعلم.
المقدم: جزاكم الله خيرًا وأحسن إليكم، نستكمل بإذن الله ما تبقى في حلقة قادمة وأنتم على خير، أيها الإخوة والأخوات، بهذا نصل إلى ختام حلقتنا في شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.
لنا بكم لقاء بإذن الله في حلقة قادمة وأنتم على خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.