شرح كتاب الأربعين النووية (04) - حديث: ((بُني الإسلام على خمس))
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح كتاب الأربعين النووية (4)
حديث: ((بُني الإسلام على خمس))
الشيخ / عبد الكريم الخضير
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
قال الإمام النووي -رحمه الله تعالى-: عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا لله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة, وحج البيت، وصوم رمضان)). رواه البخاري ومسلم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد:
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في الحديث الثالث، "عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((بني الإسلام على خمس)). كما قلنا في الحديث السابق قوله: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" يعني أنه تلقاه عنه بدون واسطة، وابن عمر صحابي مدرك للنبي -عليه الصلاة والسلام- تابع مؤتسي مقتدي، يحرص على الاتباع وإن كان في بعض ما أداه إليه اجتهاده لا يوافق عليه. وعلى كل حال هو من مشاهير الصحابة، ومن المكثرين لرواية الحديث، وهو أحد العبادلة، من الصحابة الذين تأخروا حتى احتاج الناس إلى علمهم، وهم عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، عبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير. أما ابن مسعود فليس منهم وإن كان من الجلالة والمكانة العظيمة البينة الواضحة في الدين، خاصة في القرآن وما يتعلق به, وفي الأحكام في الحلال والحرام هو إمام، لكن مع ذلك تقدمت وفاته، فتوفي قبلهم بنحو من أربعين سنة. فاحتاج الناس إلى علم الذين تأخروا، وهذا سبب من أسباب انتشر علمهم, أما من مات قديماً فهذا مع توافر الكبار قد لا تحصل له المنزلة التي تحصل لمن تأخر بعده.
"يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((بني الإسلام على خمس))"، بني من البناء وهو وضع الشيء على مثله حتى يرتفع، والإسلام المراد به ما تقدم في الحديث السابق: "الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك" وهذه أركانه.
"على خمس"، يعني على خمس دعائم، في بعض الروايات: "على خمسة" يعني أركان. وركن الشيء جانبه الأقوى، الذي هو جزء منه داخل في ماهيته.
"((شهادةِ أن لا إله إلا الله))" بالجر بدل من خمس والبدل له حكم المبدل، أو بيان، وعلى كل حال هو تابع لما قبله ((على خمسٍ شهادة أن لا إله إلا الله)). لكن لو قال: "بني الإسلام على خمس أحدها: شهادة أن لا إله إلا الله..."، لجاز الجر لكن الرفع أفصح, كما في قول الله -تعالى-: {ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا} [(76) سورة النحل]. "((شهادةِ أن لا إلا الله، وأن محمداً رسول الله))" وهذه كلمة التوحيد لا يصح الإسلام بدونها. قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)) فلابد من النطق بها، ولا بد من معرفة معناها، والعمل بمقتضاها. فالنطق لا بد منه لأنه -عليه الصلاة والسلام- قال: ((حتى يقولوا: لا إله إلا ا لله))، ولا يكفي في الإسلام أن يُقرّ به الشخص في قلبه ويعتنقه باطناً ولا يعلن الشهادة، وإن قال بعضهم: بأن هذا كاف إلا أن المعاملة في الدنيا مبنية على النطق على جميع الأقوال, فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((كيف تصنع بلا إله إلا الله؟)).
ويقول قائل: إن له زميلاً نصرانياً أعجب بالإسلام، ووقر الإيمان في قلبه، وعزم على الدخول فيه، فذهبنا إلى الشيخ ليلقنه الشهادة، فقال الشيخ: "باقي على آذان الظهر ربع ساعة، الآن أتجهز لصلاة الظهر وبعد الصلاة تأتون لألقنه الشهادة". فهذا لا شك أنه حرم نفسه وحرم هذا المسكين. ثم يقول: خرجنا من عند الشيخ فإذا هناك تبادل إطلاق نار فقتل النصراني ولم ينطق بالشهادة.
هذا جاء راغبا في الإسلام, لكن حال دون نطقه بالشهادة ما حال، فهذا حكمه في الظاهر أنه لم يسلم، وأما في الباطن فالله -جل وعلا- يتولاه، لكن الحرمان من خلال هذا العمل الذي عمله الشيخ فتلقين الشهادة وتعليمه الوضوء والخروج به معه إلى الصلاة يكلف شيئاً قليلا. وهو يقول: "باقي على الآذان ربع ساعة والآن أتجهز للصلاة"؟! يعني ما المانع أن تلقنه الشهادة وتعلمه الوضوء، وتذهب به إلى المسجد، وتكون سبباً في إنقاذه؟ لكن هذا الحاصل، فكان الجواب أنه من حيث المعاملة في الدنيا ما دخل في الإسلام؛ لأنه لم يقل: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله" التي هي الغاية في قوله: ((حتى يقولوا: لا إله إلا الله)) إنما وصل إلى هذه الغاية.
((شهادة أن لا إله إلا الله)) تنفي جميع ما يعبد من دون الله -جل وعلا-، وتثبت العبادة لله وحده، وكان العرب حتى المشرك منهم يعرف معنى لا إله إلا الله، ويعرف ما يفيده النفي والإثبات، ولذلك لما طلبها النبي -عليه الصلاة والسلام- منهم استنكروا, وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [(5) سورة ص]. ومع الأسف أن كثيرا من فئام المسلمين يقولون: "لا إله إلا لله" وهم لا يعرفون معناها، ولا يعملون بمقتضاها، بل يأتون بما يناقضها فتجد من يطوف على القبر وهو يقول: "لا إله إلا الله"، وتجد من يذبح لغير الله -جل وعلا- ويقول: "لا إله إلا الله"، وتجد من يستعين بغير الله - جل وعلا- وهو يقول: "لا إله إلا الله"، يأتي بالنواقض وهو لا يعرف أنها نواقض، يطوف على قبر ولي أو من تدعى له الولاية أو يطلب منه الحوائج، ومع ذلك يقول: "لا إله إلا الله"، فتبًّا لمن كان أبو جهل وأبو لهب أعرف منه بمعنى لا إله إلا الله التي هي رأس المال، كلمة التوحيد، كلمة الإخلاص المنجية من عذاب. يقول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: ((من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة)). وعلى كل مسلم لا سيما طلاب العلم أن يهتموا بمعرفة هذه الكلمة وجميع ما يتعلق بها.
((شهادةِ إن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)) لا يكفي أن يقول: "لا إله إلا الله", ولا يكفي أن يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله" بل لا بد من الشهادة لمحمد -عليه الصلاة والسلام- بالرسالة؛ لأن النصارى لا سيما من لا تحريف عنده يقول: "لا إله إلا الله"، أما أهل التحريف من اليهود والنصارى فهؤلاء يعبدون مع الله غيره. فلا بد من الاعتراف برسالة محمد-صلى الله عليه وسلم- إلى الناس أجمعين، فالذي لا يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله هذا لم يدخل في الإسلام، والدين عند الله الإسلام؛ ولذا أهل الكتاب من اليهود والنصارى كفار بالإجماع، حتى قال أهل العلم: من شك في كفرهم كفر إجماعاً. لماذا؟ لأنهم لا يعترفون برسالة محمد -عليه الصلاة والسلام-، وقد يعترف منهم من يعترف بها إلا أنه يزعم أنها خاصة بالعرب، وليست للناس أجمعين، فهذا أيضاً لا يجدي شيئاً، والنبي - عليه الصلاة والسلام- يقول: ((لو كان موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي))، وقال- عليه الصلاة والسلام- ((والذي نفسي بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا دخل النار)). فلا بد من الإتيان بالشهادتين ولو عمل جميع الأركان، وجميع الواجبات، وترك جميع المحرمات ولم يعترف، أو لم يشهد بالشهادتين، أو أتى بما يناقض هاتين الشهادتين لا ينفعه ذلك, كما قال الله -تعالى-: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [(65) سورة الزمر], وقال -تعالى-: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ} [(54) سورة التوبة], فالكافر عمله حابط, قال الله -تعالى-: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [(23) سورة الفرقان]. الذي لا يقر بالشهادتين هذا لم يدخل في الإسلام أصلاً، ولذلك لم يختلف في الشهادتين كما اختلف في بعض الأركان، فالشهادتان لا خلاف بين أهل العلم في أن من لم ينطق بهما، أو نطق بهما وأتى بما يناقضهما أنه ليس بمسلم. وأما بقية الأركان العملية فهي أركان، ومقتضى الركن أنه الجانب الأقوى في الماهية، أنه لا يصح إلا بتوافر جميع أركانه. فإذا قلنا: أركان الصلاة الأربعة عشر فبتَرْكِ مصلٍ ركناً من أركانها عمداً لا تصح صلاته، وإذا تركه سهوًا بطلت الركعة التي تركه منها إلا إن أمكنه تدارك هذا الركن؛ لأن أهل العلم يقولون: من شك في ترك ركن فكتركه. وكذلك الحج فأركانه الأربعة: الإحرام، والوقوف، والطواف، والسعي لو ترك واحداً منها ما صح حجه، إلا إذا كان لا نهاية لوقته ثم أتى به. فالصلاة, والحج لا يصحان بدون أركانهما، بل جميع الأعمال لا تصح من دون توافر أركانها.
هذه الأركان الخمسة, فالركن الأول لا خلاف في كون تاركه كافرا غير مسلم، وأما الركن الثاني الذي عبر عنه بـ((وإقام الصلاة)) فنقل اتفاق السلف على كفر تاركها، وكانوا لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة، وقال النبي -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر))، وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((بين المسلم والشرك والكفر أو الشرك ترك الصلاة)). فالقول بكفره كفراً أكبر مخرجاً عن الملة قول معروف عند أهل العلم، ومنقول عن سلف هذه الأمة، وخالف فيه من خالف بالنسبة لمن تركها تكاسلاً وكسلاً. أما من تركها جحوداً فهذا محل اتفاق، أما من تركها تهاوناً أو كسلاً فالنصوص الصحيحة الصريحة تدل على أنه يكفر، وهو المفتى به الآن وهو المنقول عن سلف الأمة, قال عبد الله بن شقيق -رحمه الله-: "كانوا -يعني من تقدم من صدر هذه الأمة من الصحابة وكبار التابعين- لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة"، وخالف في هذا من خالف، وبسْطُ الأدلة من الطرفين ليس هذا محله.
أما الأركان العملية الباقية فمن أهل العلم من يرى أن لا يكفر تاركها، ولا شك أن الخلاف فيها أقوى من الخلاف في الصلاة، الخلاف فيها أقوى من الخلاف في الصلاة، وعلى كل حال قول في مذهب مالك، ورواية عن أحمد أن من ترك ركناً من هذه الأركان كفر ولو اعترف بوجوبه، فتارك الزكاة يكفر، تارك الصيام يكفر، تارك الحج يكفر، لكن أكثر أهل العلم على أنه لا يكفر يعني من ترك أحد الأركان الثلاثة مع اعترافه بوجوبه.
وإقام الصلاة هو أداؤها على وجه الاستقامة؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((إقام الصلاة))، وقد قال -عز وجل-: {وأقيموا الصلاة} [البقرة: ٤٣] يعني على وجه الإقامة والاعتدال التام، على الوجه المشروع, وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). لكن هل الركن هو إقام الصلاة بهذا المفهوم، أو الركن هو الإتيان بالصلاة المجزئة؟
الثاني؛ لأن من أخل بصلاته بما لا يبطلها فصلاته صحيحة مسقطه للطلب, فضلاً عن كونه يكفر، وما نقول: أنه لم يقمها وإنه مثل من ترك الصلاة. لكن إذا أخل بركن من أركانها فيتجه إليه قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((صلِّ فإنك لم تصلِّ)) وهذه الصلاة وجودها مثل عدمها. والمطلوب الإتيان بالصلاة على الوجه المشروع اتباعا لقوله -عليه الصلاة والسلام-: (( صلوا كما رأيتموني أصلي)). فالإتيان بها مع شروطها, وأركانها, وواجباتها, وسننها هذا الأصل، لكن إذا أخل بشيء من السنن، أو بشيء من الواجبات من غير قصد، وجبره بسجود فمثل هذا صلاته صحيحة. والتأكيد على إقام الصلاة بهذا اللفظ: {وأقيموا الصلاة}[البقرة: ٤٣] لا شك أنه من باب الاهتمام بشأن الصلاة، والعناية بها، وأدائها على الوجه الأكمل.
"((وإيتاء الزكاة))" يعني إعطاء الزكاة لمستحقها من الأصناف الثمانية المذكورين في قول الله -تعالى-: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم} [التوبة: ٦٠].
الفقراء، والمساكين، والعاملين عليها إلخ.
الفقراء معروفون الذين لا يجدون شيئاً، والمساكين من لا يجد ما يكفيه وإنما يجد بعض الكفاية، والعامل عليها المولى من قبل الإمام، أو ولي الأمر. فالعامل عليها لا بد أن يكون مولى من قبل ولي الأمر وإلا لضاعت المسألة، لو ترك المجال كان كل واحد يجمع زكواته ويأخذ نصيبه، أو يكلف من قبله من لم يوكل له هذا الأمر ويعطى نصيبه من الزكاة باعتباره عاملاً عليها وهذا ليس بصحيح, هذه فوضى. وسمعنا من بعض الناس أنهم يكلفون بعض الأشخاص يعني إما إمام مسجد أو رئيس مركز أو شيء من هذا، يقول للشباب عنده: "أجمعوا الزكوات للمشروع الفلاني"، ثم بعد ذلك يعطيهم نصيب العمل, وهذا ليس بصحيح. إنما العمالة موكولة بتصرف ولي الأمر هو الذي يرسل العمال دون غيره، وهذه التصرفات لا شك أنها فوضى. فما الحد، وما النسبة التي يأخذها هذا المكلف، ومن خَوَّلَ, من كلفه؟! لابد أن يكون موكلا من قبل الإمام.
{في سبيل الله}، توسع بعض أهل العلم في مفهوم سبيل الله ويجعله شاملا لكل شيء فيه قربة، من تعليم، وتحفيظ، ومصالح عامة، وبناء مساجد، وأربطة وغير ذلك، لكن جماهير أهل العلم على أن قوله -تعالى-: {في سبيل الله} خاص بالجهاد.
منهم أيضاً الغارمون لمصلحتهم إما لمصلحته أو لمصلحة غيره، لكن إذا كان لمصلحته لا بد أن يكون فقيراً، أما لمصلحة غيره -للإصلاح مثلاً- فإن هذا يأخذ بقدر ما غرم ولو كان غنياً.
المؤلف على الدين يعطى منها، وربط تقدير هذه المصالح بولاة الأمر ومن ينيبونهم أمر لا بد منه؛ لأن الأصل أن الزكاة إنما تدفع لولي الأمر لقول الله -تعالى-: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [(103) سورة التوبة]. نعم للإنسان أن يتصدق من ماله بما شاء، يخرج من الزكاة ما شاء إلى مصرف لا خلاف فيه، أما المصارف التي فيها خلاف فهذه ليست للناس, كمن يقول: "أنا والله يترجى، قال لي الشيخ فلان أن تحفيظ القرآن تصرف له زكاة أذهب وأعطيه". لا بد من فتوى بهذا الأمر؛ لأن الاجتهادات لا تنتهي وهذا ركن من أركان الإسلام.
والثاني يقول: "والله أنا وجدت فلانا أذى الناس ولا يكف لسانه إلا أن أعطيه من الزكاة". فمن يقدر هذه الأمور ومن يقررها؟ الأمر موكول لولاة الأمر ومن يولونهم على ذلك، وتقرير المصالح في هذه المسائل لأهل العلم الذين يدركون ما قاله أهل العلم في تفسير هذه الآية، وما جاء عنه -عليه الصلاة والسلام-.
((وحج البيت، وصوم رمضان)) هذه هي الرواية المتفق عليها في الصحيحين وغيرهما.
حيث الركن الأول: الشهادتان.
الثاني: إقام الصلاة.
الثالث: إيتاء الزكاة.
الرابع: حج البيت.
والخامس: صوم رمضان.
فهذا هو المتفق عليه في الصحيحين من حديث ابن عمر -رضي الله عنه-، وجاء من حديثه في صحيح مسلم تقديم الصوم على الحج. الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بنى ترتيب كتابه على هذه الرواية على تقديم الحج على الصيام، وفي صحيح مسلم قال: ((وصوم رمضان، والحج)) -فقدم الصوم-, فقال رجل لابن عمر: "الحج وصوم رمضان"، قال: "لا، صوم رمضان والحج".
الآن روايته المتفق عليها وهي المرجحة عند التعارض, فهذا هو الأصل أن يرجح المتفق عليه على ما في أحد الصحيحين.
والعلماء يختلفون في هذا الذي استدركه ابن عمر على هذا المعترض، هل الاعتراض صحيح أو غير صحيح؟ بل هو صحيح ومقتضى الرد أن تقديم الحج على الصوم ليس بصحيح مع أنه في الصحيحين عن ابن عمر نفسه. لو كان من رواية غيره قلنا: "إن ابن عمر ما بلغته هذه الرواية أو لا يرى هذا التقديم"، لكن كلاهما من روايته في الصحيحين يقول في الأولى: ((حج البيت وصوم رمضان))، وفي صحيح مسلم يقول: ((صوم رمضان والحج)) ثم يستدرك عليه فيقول: "لا، صوم رمضان والحج". فمن أهل العلم من يرى أن ابن عمر نسي الرواية الثانية, ومنهم من يقول: إن ابن عمر أراد أن يؤدب هذا المعترض؛ لأنه تكلم بشيء لا علم له به، فمن يعترض على العالم لا سيما إذا كان الأسلوب غير مناسب -مثلما هنا: لا يا ابن عمر الحج وصوم رمضان- فهذا يؤدب, ولذا أراد ابن عمر -رضي الله عنهما- أن يؤدبه بقوله: "لا، صوم رمضان والحج".
طيب موقف ابن عمر أثبت ونقل عنه في الصحيحين تقديم الحج، ورد هذا الاعتراض يثبت تقديم الصيام؟! إنما جاز هذا من باب التأديب، والواو لا تقتضي ترتيباً سواء قدم هذا أو ذاك فقد أراد أن يؤدبه؛ لئلا يعترض، ولا يتكلم بحضرة الكبار الذين ضبطوا علم ابن عمر وهو متقن. فالعالم إذا كان ضابطاً لمسألته، باحثاً لها، واعترض عليه من بعض طلاب العلم، وأرد أن يؤدبه بمثل هذا فله ذلك, لا سيما إذا رأى، أو لمس من حال هذا الطالب أنه كثير الاعتراض لذات الاعتراض.
أما المناقشة مع أهل العلم من قبل الطلاب والعكس هذا أمر لا بد منه، بهذا تحيا الدروس، وليس العلم مجرد تلقين، الشيخ يحدث والطالب يستمع، ولا أخذ ولا رد ولا استشكال ولا مناقشة ولا، لكن إذا عرف من هذا الطالب بعينه أنه صاحب عناد، أو صاحب ترفع، أو إظهار ما عنده من علم مثل هذا يؤدب بمثل هذا الأسلوب.
ذكرنا أن الإمام البخاري بنى ترتيب كتابه على حديث الباب في تقديم الحج على الصيام، وعامة أهل العلم قدموا الصيام على الحج، ولكل وجه. وجاء من التشديد في ترك الصيام ما جاء، وجاء أيضا من التشديد في ترك الحج ما جاء، فمن كثرت عنده وعظمت عنده أحاديث التشديد في الصيام أكثر من أحاديث التشديد في الحج قدم الصيام، ولا شك أن للأولية دخل في الأولوية، إذا قدم الشيء في الذكر لا شك أنه من حيث الأولوية والأرجحية له نصيب من ذلك، والبداءة بما بدأ الله به معروفة، فالتقديم وإن كان العطف بالواو له شأنه.
((حج البيت)) ركن من أركان الإسلام، يقال فيه مثل ما قيل في إيتاء الزكاة أن عامة وجمهور أهل العلم على أن تارك الحج مع الاعتراف بوجوبه لا يكفر، وقال بعضهم بكفره، والرواية التي سقناها عند الحنابلة، والقول عند المالكية يشمل الحج ويشمل الصيام.
جاء أخبار تعظم من شأن الحج، وأن عمر كتب إلى الأمصار أن ينظروا إلى من كان عنده جدة وسعة فلم يحج أن يضربوا عليهم الجزية وما هم بمسلمين. ويروى ذلك مرفوعاً لكنه ضعيف: ((من شاء فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً)). وعلى كل حال الأركان شأنها عظيم سواء المتفق عليها أو المختلف فيها فشأنها عظيم وخطر ومزلة قدم، فعلى الإنسان أن يحرص. وهذه الأركان قد اهتم الإسلام بشأنها، والعناية بها، وإبراء الذمة من تبعتها، ومع ذلك تجد التساهل فيها لا سيما في الحج. وأما مسالة الزكاة فكثير من أهل المال والثراء أصيبوا بالشح والجشع ولم يخرجوا زكاة أموالهم على الوجه المطلوب بدقة، فتجد الواحد يخرج حتى يظن أن ذمته برئت، لا بد من الحساب الدقيق. أعطاك الله الكثير ورضي منك بالقليل، وأثابك عليه، اثنين ونصف بالمائة، فتجد الإنسان يدفع اثنين ونصف بالمائة السعي وهو يضحك، فإذا جاءت الزكاة تصعبها وقد يتحايل عليها -نسأل الله العافية-.
بعض طلاب العلم في الكليات الشرعية، تجده إذا قيل له: لماذا لا تحج؟ ألا تستطيع؟ قال: والله أستطيع، لكن تسليم البحث بعد الحج مباشرة ما عندي وقت. هذا عذر في ترك ركن من أركان الإسلام؟ يعني حتى على قول من يقول: إنه فرض على التراخي إبراء الذمة من هذا الركن العظيم مطلوب، ما تدري ما يعرض لك. تتعذر: والله تسليم البحث، بقي عليه قليل، فهو في أول الدراسة بعد الحج. هذا ليس بعذر.
وسمع من يقول: "والله السنة هذه ربيع والقادمة سأحج -إن شاء الله-". هذا أسوأ. هل هذه أعذار يؤجل من أجلها ركن من أركان الإسلام؟! نسأل الله العافية. فلا بد من الاهتمام؛ لأن الإسلام بني على هذه الأركان، فماذا عن بناء انهدم منه ركن أو أكثر من ركن؟ لا شك أنه يسقط.
((وصوم رمضان))، صوم رمضان ركن مجمع عليه، فالمسلمون في الجملة يهتمون به، ويعتنون به، ويصومون لكن قد يستصحب الإنسان الغفلة في أول تكليفه فلا يصوم ويؤجل الصيام، أو يأتي بمبطل لصيام. وقد تصل المرأة إلى حد التكليف ثم لا تصوم، أو تصوم ولا تقضي، فهو أمر مشترك بين الناس. وهذا يجب التنبيه عليه في كل مناسبة؛ لأن كثيرا من الشباب، -وحتى يوجد من الجنس الثاني- يستعملون ما يبطل الصوم، ويوجب الغسل ومع ذلك لا يعرفون أنه يوجب للغسل، أو مبطل للصيام.
يعني بعض الشباب يستعمل مثلاً في نهار رمضان العادة السرية: الاستمناء، ثم بعد ذلك لا يعرف أن هذا موجب للغسل، ولا يعرف أنه مبطل للصيام فينبغي أن ينبه. تكثر الأسئلة حينما يعرف الناس هذا الحكم ثم بعد ذلك يسألون: "والله في أول الأمر"، "والله ها كنت أستعمل، ولا أغتسل، ولا أصوم"، يتم صومه على هذه الحالة. لا شك أن هذا مبطل للصيام من جهة، وموجب للغسل من جهة، وهو مبطل للصلاة أيضا مع أنه أمر محرم يعني -في الصيام وغير الصيام محرم-، الاستمناء محرم لكنه إذا حصل فآثاره أنه موجب للغسل، ومبطل للصيام.
حديث: ((الأعمال بخواتيمها))
الشيخ / عبد الكريم الخضير
وعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: حدثنا رسول الله-صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق والصدوق: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويأمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)) رواه البخاري ومسلم.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في الحديث الرابع: "عن أبي عبد الرحمن" وجرى على عادته في ذكر الكنية والكنى مما ينبغي أن يهتم به طالب العلم؛ لأنه يأتي في بعض الأسانيد الكنية مقتصر عليه -عن أبي عبد الرحمن مثلاً-، فإذا عرفت أن كنية ابن مسعود هذه، أو كنية ابن عمر، أو كنية ابن عباس، أو كنية فلان أو علان سهل عليك تمييز المهمل. والعلماء ألفوا في الكنى كتباً كثيرة, فلابن عبد البر كتاب: "الاستغناء في معرفة المشهورين بالكنى" في ثلاث مجلدات، هناك كتب أخرى: "الكنى والأسماء" للدولابي وغيرهما. المقصود أن هذا محل عناية عند أهل العلم، وعلى طالب العلم أن يعنى به ويهتم به؛ لأن هذه الكنى قد تأتي من غير ذكر للاسم. فإذا جاء الخبر عن أبي عبد الرحمن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنت إذا كنت تعرف مَنْ مِن الصحابة يكنى بأبي عبد الرحمن ضاق الأمر عليك جداً، يعني تبحث هل هو من حديث ابن عمر أو حديث ابن مسعود؟ وقد تأتي هذه الكنية في أثناء الإسناد، في الطبقة الثانية، أو الثالثة، أو الرابعة، فإذا عرفت من يكنى بهذه الكنية لا شك أنه يسهل عليك الأمر؛ لأن البحث يكون متردداً بين أشخاص معدودين.
ومن الرواة من اشتهر بكنيته حتى ضاع اسمه، كالخلاف في اسم أبي هريرة قد اختلف في اسمه على أكثر من ثلاثين قولاً!! سبب ذلك شهرته بالكنية، وقد تكون الشهرة بالاسم حتى تضيع الكنية، فقتادة -مثلاً- اختلف في كنيته لكن المرجح أنه كنيته أبو الخطاب.
من الرواة من ضاع اسمه، ولا يعرف لشهرته بالكنية حتى قال بعض المترجمين: "إن اسمه كنيته", فأبو عبيده بن عبد الله بن مسعود، اسمه كنيته على ما قالوه، ويختلفون عادة بما قيل في اسمه.
فمعرفة الكنى من الأهمية بمكان لطالب العلم، وأهل العلم إذا ترجموا ذكروا الخلاف في الكنية، وإذا كان من المشهورين بالكنى ذكروا الخلاف في الاسم، ما تركوا شيئاً، وألفوا كتباً خاصة في الكنى، وفي الألقاب.
"عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود" بن غافل الهذلي -ابن أم عبد-، توفي في خلافة عثمان سنة اثنتين وثلاثين، وهو من كبار الصحابة -من جلتهم-، وجاء فيه: ((من أراد أن يقرأ أو من أحب أن يقرأ القرآن غضاً طرياً كما أنزل, فليقرأ بقراءة ابن أم عبد)). ووجد من بعض الظلمة من كان يضرب من يقرأ بقراءة ابن أم عبد، وقال كلاماً قبيحاً: "وددت أن أحك قراءة ابن مسعود ولو بضلع خنزير"، فهذه محادة -نسأل الله العفو والعافية-، ومجاوزة في الظلم والطغيان. النبي -عليه الصلاة والسلام- يحث ويثني على قراءة ابن مسعود، وهذا يقول ما يقول؟! قراءاته التي جعلها أهل العلم من باب التفسير، ليست من باب القراءة هذه يعمل بها على الخلاف بين أهل العلم، هل تعامل معاملة القراءة، أو معاملة الخبر فيحتج بها وإن لم تثبت قراءة، أو يقال إنها قراءة لكن ليست بمتواترة فيحكم عليها بالشذوذ، ولا يعمل بها مطلقاً؟ المقصود أن الكلام في هذه المسألة معروف.
وابن مسعود من الدين بمكان، وجاء في فضائله, ومناقبه ما جاء، وهو أيضاً محل عناية عند الخلفاء بدءًا بأبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان. وفي الصحيح أن عثمان قال لابن مسعود -رضي الله عنهما-: ((يا أبا عبد الرحمن، ألا نزوجك فتاتي تعيد لك ما مضى من شبابك، -وهذا العرض, وكان عمره سبعين- فقال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج")). وفي هذا العرض منقبة للطرفين، منقبة للعارض، ومنقبة للمعروض عليه، العارض ما يتردد في كون هذا كبير سن إنما اشتراه واشترى دينه، اشترى الإرث الذي في صدره، والمعروض عليه ما قال فرصة أن عمره سبعين سنة لو يخطب من الناس كلهم ما زوجوه فهذه فرصة العمر، فالطرفين كلاهما يدرك حقائق الأمور -والله المستعان-.
يقول ابن مسعود: "حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، وحدثنا بالجمع, يقولها: من يروي بطريق السماع من لفظ الشيخ مع غيره، ولو كان منفرداً لقال: حدثني، أو سمعت, وإذا شك هل معه غيره، أو ليس معه غيره, فمنهم من يقول: حدثني؛ لأنه هو المتيقن ومن عداه مشكوك فيه، ومنهم من يقول: حدثنا؛ لأن حدثني أقوى عند أهل العلم من حدثنا؛ لأن حدثني تدل على أنه مقصود بالتحديث والكلام موجه إليه. وعلى كل حال هذا بصدد صحابي -رضوان الله عليه- لا يفرق بين أن يقول: "حدثني، أو حدثنا، أو سمعت", فليس هناك فرق.
"حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق" في جميع ما يأتي به، سواء كان فيما ينقله عن الله -جل وعلا- من القرآن، أو ما ينطق به على أنه سنة من كلامه -عليه الصلاة والسلام-، وأصله من الله -جل وعلا- فالسنة وحي, قال الله -تعالى-: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [(3-4) سورة النجم]. وأبو بكر لقب بالصديق؛ لأنه صدق النبي -عليه الصلاة والسلام- في أمر لم يشهده -يعني مبالغة في التصديق-.
"الصادق المصدوق" الذي صدقه الله -جل وعلا-، وصدقه من سمعه من أهل الإيمان.
الصحابي حينما يقول: "حدثنا رسول الله وهو الصادق المصدوق" ما الفائدة من قوله: "وهو الصادق المصدوق"؟
الفائدة تأكيد الخبر، وهذا الخبر وإن تضمن ما تضمن مما يخفى على البشر إلا أنه -عليه الصلاة والسلام- صادق فيه، وفي وقتهم لا يوجد أجهزة تكشف ما في البطن، لا يتلقى مثل هذا إلا من الوحي، ما يمكن يتنبأ أحد ويقول: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً...)) إلى آخره. فهو صادق مصدوق فيما أدركناه، وفيما لم ندركه هو صادق على كل حال، ومصدق في جميع أحواله -عليه الصلاة والسلام-.
((إن أحدكم)) يعني من بني آدم, سواء ذكر أو أنثى، مسلم أو كافر ((يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة))، من ماء الرجل وماء المرأة يجتمع نطفة، مدة أربعين يوماً، ((ثم يكون علقة مثل ذلك))، العلقة: مثل الحشرة الصغيرة التي توجد في الماء أحياناً. ((ثم يكون مضغة مثل ذلك)) بقدر ما يمضغه الإنسان من الطعام أربعون، ثم أربعون، ثم أربعون، المجموع مائة وعشرون يوماً، مائة وعشرون يوماً، بعد المائة والعشرين يوماً -أربعة أشهر-، ((يرسل إليه الملك)) يعني بعد تمام أربعة أشهر يرسل إليه الملك، وقبل الأربعة أشهر هو في عالم الغيب لم يطلع عليه أحد، وهو المراد من قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((خمس لا يعلمهن إلا الله)) ثم ذكر آية لقمان: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [(34) سورة لقمان]. الأسلوب الآية ليست فيها حصر بمعنى أن غيره لا يعلم، وإن كان اقترانها مع بقية الأمور يدل على أنه لا يعلمه إلا الله، لكن الحصر في الحديث: ((خمس لا يعلمهن إلا الله)).
قد يقول قائل: "الآن الأطباء بأجهزتهم يعرفون، يعرفون ما في الأرحام".
نقول: أولاً: معرفة الأطباء ليست دقيقة وليست محققة، فكثير ما يقولون: "ذكر" ثم يظهر أنثى والعكس.
ثانيا: أنه بعد اطلاع الملك عليه، وإرسال الملك إليه خرج عن دائرة الغيب، لا مانع أن يطلع عليه الأطباء، أما في مرحلة الغيب التي هي الأربعة أشهر هذه لا يمكن أن يطلع عليه. والإخبار عن الحمل في هذه المرحلة لا شك أنه ضرب من ادعاء علم الغيب، ومحاولة لكشف ما ستر عن المخلوق.
((ينفخ فيه الروح)) إذا تم أربعة أشهر. ولذلك جعلت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشر ليالي. وزِيدَ العشر؛ لأن نفخ الروح ينتج عنه الحركة، قد تكون الحركة ضعيفة في أول يوم وثاني يوم ولا يحس بها، لكن إذا تمت العشر الليالي لا بد أن يحس بها، وحينئذ نعرف أن هناك حمل، وإذا لم يوجد حمل في هذه المدة فهذه دلالة على براءة الرحم.
أربعة أشهر وعشر إذا نفخ فيه الروح ترتبت عليه أحكامه، فإذا سقط بعد نفخ الروح فإنه حينئذ يغسل، يكفن، يصلى عليه، ويدفن، وقبل ذلك لا تترتب عليه أحكام، أحكام الأم تبدأ من التخليق إذا تبين فيه خلق الإنسان، مخلّقة وغير مخلّقة.
((ويأمر بأربع كلمات: بكتب رزقه)) رزقه المكتوب له، المقدر له من ولادته إلى وفاته، وهو رزق سواء كان من طريق حلال، أو من طريق حرام هو رزق، خلافاً للمعتزلة الذين يقولون: إن كسب الحرام ليس برزق، على هذا لو أن السُّراق سرقوا طفلاً، وأعاشوه من السرقات إلى أن مات، هذا ما استوفى من رزقه شيء عند المعتزلة؛ لأن رزق الحرام ليس برزق، وعند أهل السنة هو رزق سواء كان حلالاً أو حراماً هذا المكتوب له، والآثار المترتبة على الحلال والحرام هذه أمور أخرى.
((بكتب رزقه)) الآن رزقه مكتوب، وعليه أن يبذل السبب لأجل تحصيل هذا الرزق، قد يقول قائل: ما دام الرزق مكتوبا لماذا أتعب؟ الرسول -عليه الصلاة والسلام- قال: ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له))، وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((ولو توكلتم على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خماصاً، وتروح بطاناً)), ولم يقل: "كما يرزق الطير تجلس في عشها، ويأتيها رزقها لا تبذل السبب"، فالمخلوق المسلم مطالب ببذل السبب، والسماء لا تمطر ذهباً، ولا فضة، وليس في هذا معارضة للكتاب -لكتابة الزرق-، أنت مكتوب عليك أن تسعى، ومكتوب لك أن ترزق، رزقك محدود لن يفوتك شيء منه، لن تموت حتى تستكمل هذا الرزق، لكن مع ذلك ابذل السبب.
((بكتب رزقه وأجله))، أجل محدد لا يزيد ولا ينقص, قال الله -تعالى-: {إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [(61) سورة النحل]، فلان رزقه كذا، وأجله كذا ستون, سبعون سنة، خمسون, ثلاثون, مائة مكتوب مفروغ منه.
قد يقول قائل: ما دام أجلي مكتوبا، لن أموت قبل يومي -كما يقول الناس-. صحيح لن يموت قبل يومه فلماذا لا يغامر، ويلقي بنفسه إلى مواضع الهلكة ما دام الأجل مكتوبا، كان لمائة سنة ما هو بميت قبل مائة سنة، ولو دخل تحت سيارة. ألا يمكن أن يقال مثل هذا، في الزرق، فيقال: ما دام الرزق محددًا والله أنا أجلس بالفراش إلى أن يجيها المكتوب. نقول هذا ليس بصحيح، أنت مأمور بالسعي، مأمور بالسبب والسماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، والمسبب مرتب على السبب، وأيضاً الأجل مكتوب وحرام عليك أن تلقي بنفسك إلى التهلكة؛ لأن نفسك لا تملكها أنت، فعليك أن تبذل أسباب الوقاية، وتدفع أسباب التلف؛ لأن هذه النفس أن مؤتمن عليها، ولن يتغير عما في علم الله شيء سواء فعلت أو لم تفعل, لكنك أنت مأمور أمر تكليف أن تبذل السبب، وإن كان السبب في أصله حكم وضعي، أمرك به تكليف ووقوعه منك حكم وضعي ولا نخلط بين الأمور.
ما دام مكتوب له ستون أو سبعون سنة ماذا عن قوله -عليه الصلاة والسلام- ((من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره -أو في أجله-، فليصل رحمه))؟ قد يقول: ما الداعي إلى هذه الصلة، وأنا مكتوب لي ستين سنة، أو سبعين, لا تزيد ولا تنقص, كما قال -تعالى-: {فإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [(61) سورة النحل], هي أنفاس محدودة لا تزيد ولا تنقص. وبعض العامة قيل له: "هي أنفاس محدودة"، قال: "سهل, مكان ما أتنفس نفس متتابعة أكتم يعني -لا أسرع بالنفس-؛ لئلا تنتهي هذه الأنفاس"، فقال له أحد الحاضرين: "اذهب إلى العناية المركزة، تشوف الذين يكملون الأنفاس بسرعة". سواء تنفست تنفساً طبيعيًّا، أو أسرعت، أو كتمت لا تزيد ولا تنقص؛ لأن بعض الناس يتصور هذه الأمور بمقدوره أن يتصرف فيها، وليس كذلك فلا يستطيع أن يتصرف. وما يلاحظ في مواضع العناية المركزة، والإنعاش أن أناسا يتنفسون بسرعة؛ لإكمال هذه الأنفاس، فالإنسان إذا كتم على حد زعمه أنه بدل ما ينفس في الدقيقة عشرة أنفاس، جعله ينفس خمسة كي تطول مدته، لا، لا، ما باليد أدنى شيء.
((وأجله)) إذا وصل رحمه زاد الأجل, فقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره أو في أجله فليصل رحمه))، يقول: عمري مكتوب وأنا في بطن أمي، فكيف يزاد فيه إن وصلت؟ ولذا يختلف أهل العلم في المراد بزيادة الأجل وتأخيره، فمنهم من يرى أنها زيادة حقيقة يعني -يكتب له أجل من خلال ما يطلع عليه الملك-، يقال: اكتب له ستين سنة، وفي علم الله -جل وعلا- أنه يصل رحمه ويزاد من أجل ذلك عشر سنوات، فالذي في علم الله -جل وعلا- لا يتغير، إنما يتغير ما في علم الملك وهذا ليس
فيه إشكال لقول الله -تعالى-: {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ} [(39) سورة الرعد]. ومنهم من يقول: إن الزيادة ليست في عدد السنين، ولا في عدد الأيام، ولا في عدد الأنفاس فهذه لا تتغير، لكنها البركة، فهي الزيادة المعنوية ليست الحسية فيكون عمر فلان من الناس أربعون سنة ويصل رحمه، وشخص عاق وقاطع ويعيش مائة سنة، هل في هذا خلف مع هذه الأخبار؟ لا، لكن انظر إلى ذي الأربعين السنة ماذا يصنع بها؟ وانظر إلى ذي المائة سنة ما أثرها على صاحبها؟ تجده يعيش مائة سنة كأنه دخل من باب وخرج من باب لا يذكر بشيء البتة، فضلاً عن كونه يذكر بما يذم به. ويعيش عمر بن عبد العزيز أربعين سنة وذِكْرُه طيب إلى قيام الساعة، ويعيش كثير من علماء المسلمين الأربعين بل الثلاثين والخمسين وتجد أثره وذكره والنفع المتعدي إلى آخر سنة، فالأمة بكاملها تنتفع من علمه ويتخرجون على كتبه وهو ما عاش إلا ثلاثين سنة، أو أربعين سنة، لا شك أن هذه الزيادة المعنوية أنفع للواصل من الزيادة الحسية؛ لأن العمر هو عبارة عن هذه الأيام، فماذا عما يوضع في هذه الأيام، -التي هي في الحقيقة خزائن يودع فيها الإنسان ما شاء مما يسوء أو مما يسر-؟ نفترض أن شخصاً عاش مائة سنة، فتمر عليه السبت الأحد الاثنين، السبت الأحد الاثنين، صيف شتاء، صيف شتاء، ثم بعد ذلك انتهى لا شيء. فالعبرة بمن يستغل هذه الأيام, قال الله -تعالى-: {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ* ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [(205-206-207) سورة الشعراء] ما يفيد هذا، ما ينفع، لو عمروا عمر نوح ما يفيد، العبرة بما يودع في هذه الخزائن، فعلى الإنسان أن يستغل هذه الأوقات، وهذه الأنفاس، التي هي في الحقيقة عبارة عن عمره ونفسه، والله المستعان.
((وعمله)) يكتب عمله فقد يكون العمل الذي كتب صالحاً، وقد يكون سيئاً، قد يكون موصلاً إلى مرضات الله وجناته، قد يكون موصلاً إلى سخطه ونيرانه، وقد يعترض معترض ويقول: ما دام مكتوبا علي العمل وأنا في بطن أمي فكيف أؤاخذ عليه؟ -هذا هو قول القدرية النفاة-؛ لأنه إن آخذه وقد كتب عليه هذا ظالم، يكون ظالما له, قال الله -تعالى-: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [(46) سورة فصلت]، إذاً لا يؤاخذ عليه، نقول: يؤاخذ عليه؛ لأن الله -جل وعلا- ركب فيه حرية الاختيار، وهداه النجدين، ودله على ما ينفعه وما يضره، وبين له الطريق ومع ذلك اختار ما يضره، وترك ما ينفعه مع أنه لا يوجد ما يمنع من سلوك ما ينفعه؛ لأن هذه الكتابة أمور غيبية، أمور غيبية، أنت ما تدري ماذا كتب لك، لكن عليك أن تبذل ما تعرف وما تستطيع.
لماذا لم يقل المطيع مثل العاصي: "أنا مكتوب علي فلماذا أعمل؟". إلا أن هذا اختار ما ينفع وذاك اختار ما يضر، وفي النهاية تكون النتائج على ما كتبه الله -جل وعلا- وقدره، ولم يجبر المخلوق على فعل ما يضره. لو أن إنساناً أحضر سكيناً فقطع أصبعه قال: هذا مكتوب علي، وأنا مجبر على هذا، ولو يأتي أحد ليقطع أو ليجرح أصبعك لفررت منه، وبذلت جميع الأسباب ولم تقل: "والله هذا مكتوب علي". فهذه مثلها سواء بسواء، فابذل الأسباب، وسل ربك التثبيت، تُوَفَّق بإذن الله -جل وعلا-.
((وعمله وشقي أو سعيد)) النتيجة، يعني لو دخل مدرس على قاعة درس -في أي مرحلة من المراحل-، وقال: "أنا قررت أن الجهة اليمني ناجحون، واليسرى راسبون"، نقول: هذا مدرس ظالم وإلا غير ظالم؟
نعم ظالم بلا شك؛ لأنه لا يعرف العواقب، الله -جل وعلا- كتب هؤلاء لأهل الجنة وهؤلاء لأهل النار، هؤلاء سعداء وهؤلاء أشقياء، هل نقول: إنه مثل المدرس الظالم؟ لا، الله -جل وعلا- يعرف ما هم عاملون، العمل الذي يعملونه يعرفه، فالنتيجة معروفة سلفاً، ليس هو مثل المخلوق الذي لا يعرف ما في غد، فهذا شقي أو سعيد نتيجة العمل الذي يعمله، لكن باعتبار أن الله -جل وعلا- يعلم ما كان وما يكون، فإنه يعرف النتائج وشقي أو سعيد.
((فوالله الذي لا إله غيره)) يقسم النبي -عليه الصلاة والسلام- من غير استحلاف. يحلف على الأمور المهمة من غير استحلاف، وفي هذا جواز القسم بالله -جل وعلا- على الأمور المهمة؛ لئلا يجعل الله عرضة للأيمن فيقتصر على الأمور المهمة.
((إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة))، عاش من تكليفه إلى أن بلغ تسعين سنة وهو صوام, قوام، متصدق, محسن، يكف شره عن الناس, ويسدي خيره إليهم، مؤدي للفرائض مجتنب للمنهيات، تسعين سنة، أو مائة سنة ((حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع)) ما بقي إلا أن تقبض روحه فيسبق عليه الكتاب؛ لأنه كتب عليه "شقي" ((فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)) وهذا يشمل المخالفة الكبرى بالردة والشرك، وما دونها بالمعاصي والبدع. يعمل مائة سنة، تسعين سنة، كلها طاعات، ثم في النهاية يختم له بالشقاوة. وفي المقابل ((وإن أحدكم يعمل بعمل أهل النار)) سبعين، ثمانين، تسعين سنة سكير, عربيد, شرير, تارك للواجبات، مرتكب للمحرمات يعمل بعمل أهل النار طيلة عمره، هذه المدة الطويلة حتى ما يكون بينه وبين النار إلا قدر ذراع فيسبق عليه الكتاب؛ لأنه كتب عليه "سعيد", ((فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)).
قد يقول أحد: هذا ليس فيه إنصاف، ولا عدل، ولذا جاءت الراويات الأخرى: ((وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس))، إذ كان عمله الظاهر عمل أهل الجنة وفي نفسه دخلية وطوية ينطوي عليها قلبه هذه تخونه في آخر الوقت، والعكس قد يعمل العمل الصالح وإن كان يسيراً في عينه أو في عين غيره ثم يدخل به الجنة، فامرأة باغية دخلت الجنة في كلب، وامرأة دخلت النار في هرة. أعمال يسيرة لكنها عند الله -جل وعلا- عظيمة؛ لأنه احتفى بها ما احتفى من تعظيم الله -جل وعلا-، أو الاستهانة بأمره، وأذى المخلوقات فمثل هذا سبب من أسباب دخول الجنة، وذلك سبب من أسباب دخول النار.
الحديث المقيد: ((وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس)) حديث ابن مسعود هذا مخيف, مخيف. الإنسان لا يأمن ولا يضمن ولو عاش طول عمره، ولو اتفقت ألسنة الناس على مدحه طيلة عمره فلان وفلان، فلان يفعل كذا، وفلان، فهذا حديث مخيف. كان السلف يخافون سوء العاقبة، ويلهجون بحسن الخاتمة، هل خفي عليهم حديث: ((فيما يبدو للناس))؟ ما خفي عليهم، فلم يقيدوا المطلق بالمقيد هنا؛ لأن الخوف من سواء العاقبة يجب أن يستصحبه كل أحد، واللهج بالدعاء بحسن الخاتمة ينبغي أن يكون ديدن كل مسلم. وكان سلف الأمة على وجل عظيم من سوء الخاتمة، ولم يقولوا: "والله الرسول يقول: فيما يبدو للناس، ونحن هذا ليس وصف لنا، نحن نعمل من قلب وإخلاص". لا, هذه تزكية للنفس، ما يدريك أن يزل بك قدمك في آخر لحظة، ما تدري بما يختم لك. فسلف هذه الأمة -فيما يؤثر عنهم من نصوص كثيرة- لم يقولوا بتقييد المطلق هنا، بل صاروا على وجل عظيم وخجل شديد من سوء العاقبة، وهكذا ينبغي أن يكون المسلم لا سيما من عنده شيء من العلم؛ لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، وكثيراً ما يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك))، فيسأل الله الثبات في كل لحظة من لحظاته، ويسأل الله -جل وعلا- أن يحسن له الخاتمة، وأن يستعمله فيما يرضيه، فلا يعتمد على مثل الرواية المقيدة، ويزكي نفسه يقول: "أنا أعمل مخلصًا، وظاهري مثل باطني", هذا الكلام ليس بصحيح؛ لأن هذا اغترار، وإعجاب بالنفس.
والعجب فاحذره إن العجب مجترف
|
|
أعمال صاحبه في سيله العرم
|
فالإنسان مع الإحسان, عليه أن يخاف, وهذه حال السلف. وابن أبي ملكية يقول: أدركت ثلاثين يعني -من الصحابة- كلهم يخاف النفاق على نفسه"، لم يقل أحد منهم: "أنا صحابي"، ما قال: "أنا صحبت النبي -صلى الله عليه وسلم- أنا مضمون". لا، حتى البدري منهم ما يقول هذا الكلام، فالسعيد من جمع بين حسن العمل وإساءة الظن بنفسه وإحسان الظن بربه {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [(60) سورة المؤمنون] خائفة، تقول عائشة: أهم الذين يزنون، أهم الذين يشربون، أهم الذين يسرقون، قال: ((لا، يا ابنة الصديق، هم الذين يصلون ويتصدقون ويصومون ويخافون ألا تقبل منهم عباداتهم)). فعلى الإنسان أن يكون خائفاً وجلاً؛ لأنه ما يدريه ما العاقبة، فالإنسان يطمئن, ويرتاح لهذا العمل، ثم يتحقق فيه يوم القيامة {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [(47) سورة الزمر]. واحد يُعَلِّم الناسَ الخير، وأنت تظنه أنه مع النبيين والصديقين، وفي النهاية يكون في نفسه "ليقال أنه عالم"، فيكون من أول من تُسعَّر بهم النار؛ لأن الميزان دقيق فهفوة يسيرة في القصد، في الإخلاص، يزل, وينتهي -والله المستعان-.
اللهم صلى على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
لعله يقصد طواف الإفاضة؛ لأنه قال: طواف الوداع، أو طواف الوادع كأنه يقصد طواف الإفاضة، أو طواف الوداع، على كل حال إذا كان الطواف طواف الإفاضة، الذي هو ركن من أركان الحج لا بد من إعادته، ولو مر عليك ستة أشهر.
لا شك أن لابن عباس منزلة عظيمة بين الصحابة في العلم والعمل، واستجاب الله -عز وجل- دعوة نبيه في تعليمه الكتاب: ((اللهم علمه الكتاب، وفقه في الدين))، ((اللهم علمه الحكمة)) دعوات استجيبت، وظهرت آثارها في حياة ابن عباس، التي طالت بعد النبي -عليه الصلاة والسلام- عاش بعده ما يقرب من ستين سنة يبلغ الدين، يبلغ ما سمعه من النبي -عليه الصلاة والسلام-، ويشرح للناس، ويفسر لهم كلام رب العالمين، ويفتيهم، ويبين لهم الحلال والحرام، فأثر الدعوة ظاهر، لكن قد يكون أعلم العبادلة من جهة، وغيره أعلم من جهة، وغيره أعلم من جهة، المقصود أن التفضيل لا من جهة لا يقتضي التفضيل المطلق، التفضيل من جهة لا يقتضى التفضيل المطلق، وعمر -رضي الله عنه- كان يدخل ابن عباس وهو صغير السن مع الأشياخ، مع الكبار من الصحابة، مع أهل بدر فوجد الصحابة في أنفسهم؛ لأن لهم أولاد، لهم أولاد في سن ابن عباس، لماذا لا يدخلهم معهم؟ فأراد أن يبين فضل ابن عباس فطرح سؤالاً عن معنى {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [(1) سورة النصر]، ففسرها كل واحد بما يظهر من معناها، فقال: ما تقول: يا ابن عباس، قال: هذا نعي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى نفسه، يعني إذا وجدت هذه الغاية فسبح أكثر من التسبيح والاستغفار؛ لأن المسألة قربت، والرحيل أزف، فهو نعي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال عمر: أنا والله ما أفهم إلا كما يفهم هذا -ابن عباس-.
عليه أن يعالج، أولاً يعالج نفسه بنفسه، تنشط، يستعمل ما يعينه من وضوء، ومن غسل لوجهه، يغسل النوم من وجهه، ويشرب من المنبهات ما يعينه على الاستيقاظ، المنبهات المباحة مثل: القهوة، والشاهي، وما أشبه ذلك إن لم يستطع يعرض نفسه على الأطباء.
أولاً: الشرب قائماً جاء النهي عنه والتشديد في أمره حتى جاء ((من شرب قائماً فليق))، ثم إن النبي -عليه الصلاة والسلام- شرب من زمزم وهو قائم، وشرب من شن معلق وهو قائم، فدل على أن النهي إما منسوخ كما يقول بعض أهل العلم، أو مصروفاً من التحريم إلى الكراهة، وحينئذ لو شرب قائماً أو أدى الركعتين ثم شرب أولى.
إن كان القصد تتمنى أن تسمع من العلم ما ينفعك فهو موجود -الدروس الصوتية موجودة، والصورة لا خير فيها.
نعم، عليها أن تمضي، لكن لا يلزمها أن يحج معها، إذا وجدت محرماً لغيره تمضي في فرضيتها، ولا تلتفت إلى نهيه.
على كل حال الأصل العلم، العلم، ثم عليه أن يبلغ ما تعلم، وعليه أن يأمر بما يعرفه من معروف، وينهى عما يعرفه من منكر، بالأساليب المجدية المحققة للمصلحة التي لا تترتب عليها المفسدة، وعليه أن يجمع ويضرب من أبواب الخير بسهم في كل مجال، عليه أن يتعلم، يحضر الدروس، ويقرأ في بيته، ويحضر للدروس، وعليه أن يؤدي الصلوات مع الجماعة، وعليه أن يأتي بالرواتب، وعليه أن يجعل له نصيب من قراءة القرآن والأذكار، ويصلي على الأموات، ويزور المرضى، ويزور القبور، ويعين الملهوف، ويصل الرحم عليه أن يضرب من هذه الأبواب بسهم وافر، والعمر يستوعب، العمر يستوعب، العمر فيه بركة لمن أراد أن يستغله.
أما بالنسبة لما يجب على طالب العلم حفظه، فعليه أن يعنى بحفظ كتاب الله -جل وعلا-، وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، وأيضاً ما يعينه على فهم الوحيين من الفنون المعروفة عند أهل العلم، التي فيها رتبة الكتب على طبقات المتعلمين المبتدئين المتوسطين المنتهين وهكذا، على الجادة المعروفة عند أهل العلم، ويأخذ العلم عن أهله الثقات؛ لأن هذا العلم دين فانظر عمن تأخذ دينك، ميمية الحكمي في الوصايا والآداب العلمية مطبوعة ضمن المجموع، في شيء اسمه: "المجموع" للشيخ حافظ الحكمي فيه مجموعة متون، فيه السبل السوية، وفيه الأسئلة والأجوبة في العقيدة، وفيه أيضاً القصيدة الميمية، وفيه أيضاً اللؤلؤ المكنون، وفيه نظم أصول الفقه مجموعة للشيخ حافظ، طبع أول ما طبع في حياة المؤلف على نفقة الملك سعود في مطابع الحكومة، ثم طبع مراراً.
هذا هو الأصل، الأصل السنة الكونية جرت بهذا أنها لا تمطر ذهباً ولا فضة، كون هذه السنة تخرق مثلاً لداود -عليه السلام- فيتنزل عليه جراد من ذهب هذا ما فيه إشكال، هذا خرق للسنة الإلهية، أما السنة الإلهية التي لا تتغير ولا تتبدل معروفة، السماء لا تمطر ذهباً ولا كلام صحيح، القدرة الإلهية صالحة لكل شيء، يعني الذي أوجد الأكل عند مريم، وأوجده أيضاً كرامة لبعض أوليائه ما في ما يمنع، لكن مع ذلك تبقى السنن الإلهية هي الأصل، والله ما تقول: أجلس في المحراب، من أجل أن يأتيك رزقك وأنت جالس، الله قادر على ذلك، نعم الله قادر على ذلك، لكن هل عاقل من يجلس في بيته، ويقول: إن الطعام بيجي؟ في النهاية يموت من الجوع، لا، لا، وإذا ادعى ذلك فهو اغترار وتزكية لنفسه أنه ممن يستحق هذه الكرامة، فالكلام من حيث هو في الجملة في السنة المطردة الإلهية كلام صحيح -السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة-.
من حيث إن قدرة الله -عز وجل- شاملة، ومشيئته نافذة، ولا يتعاظمه شيء أعطاه لعبده، وقد يرزق عبده من حيث لا يحتسب؟
كل هذا الكلام صحيح، لكن ما فيه معارضة ولا مناقضة للسنة الإلهية.
أولاً: آية سورة المؤمنون والمعارج فيها دلالة ظاهرة فيما استدل به أهل العلم على تحريم الاستمناء، وحديث: ((فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) أيضاً استدل به أهل العلم على التحريم، ويذكر عن بعض الصحابة، وبعض التابعين أنهم كانوا يأمرون به في المغازي، يعني خشية من الوقوع في المحرم؛ لأن المغازي التحام بين مسلمين وكفار وقد يتعرض الإنسان لفتنة فيحتاج إلى شيء من ذلك، ولا شك أن ارتكاب أخف الضررين هذا إن صح؛ لأنه نقل ولا أدري عن صحته، هذا نقل ولا أدري عن صحته، على كل حال إن صح فباب ارتكاب أخف الضررين أمر مقرر في الشرع، فلو أن شاباً أو شابة رأى ما يثير شهوته ولم يستطع التغافل عنها، مع أنه يحرم عليه أن يعرض نفسه لمثل هذه الفتن، ما استطاع أن يسكن هذه الشهوة إلا باستخراج المني بهذه الطريقة، فارتكاب أخف الضررين أمر مقرر شرعاً، ولا يعني أنه مباح، يعني إذا استعمله فمع التأثم، ويرجى أن يعفو الله عنه؛ لأنه دفع بذلك ما هو أعظم.
الصحابي يقول: كنا نعد الاجتماع وصنع الطعام، الاجتماع وصنع الطعام من النياحة، يعني إذا اجتمع الأمران فهو نياحة، فالعلة مركبة من أمرين لا تتحقق إلا باجتماعهما، ومن اجتمع من ذوي الميت من أجل بنية التخفيف على المعزي، يعني افترضنا في بلد كبير مثل الرياض، واحد من الأولاد بالشفاء، والثاني بالعلية، والثالث بالنظيم، والرابع بالدخل محدود، لا شك أنهم عليهم مشقة عظيمة من هذه المشاوير الطويلة، لو اجتمعوا في بيت أحدهم فمشايخنا يفتون بجوازه على ألا يصنع الطعام، كونهم يصنع لهم الطعام، كونهم يصنع لهم الطعام، لا يصنعون الطعام وإنما يصنع لهم، فالأصل في ذلك: «اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد جاءهم ما يشغلهم».
هم يدعون بالأسماء التي عُرفوا بها في الدنيا، والمسلم يدعى بأحب الأسماء إليه، يدعى بأحب الأسماء إليه، والأصل أن يدعى بما عرف به، واشتهر به، ويدعون أيضا بأئمتهم {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [(71) سورة الإسراء] من قال: إن الإمام جمع أم هذا ليس بصحيح إنما يدعون بالأئمة، وليس المراد بالأئمة الذين يدعى لهم العصمة، ويصرف لهم أنواع العبادة التي لا تصرف إلا لله -جل وعلا-، لا، إنما كل إنسان يتبع إمامه، يتبع إمامه، إن كان على حق أو على باطل.
من قال: إن الناس يدعون بأمهاتهم دون أبائهم استدل بالآية، والإمام معروف ليس المراد به الأم، يستدلون أو يوجهون هذا القول بإظهار تكريم عيسى بن مريم أنه يدعى بأمه، وأيضاً الستر على أولاد الزنا الذين ليس لهم أباء، وكل هذا في مقابل النصوص، ولا يقوى على معارضة النصوص، فالأصل أن يدعى الإنسان بأبيه {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [(5) سورة الأحزاب].
طيب التفضيل جاء في النص القطعي في القرآن {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [(253) سورة البقرة] ((أنا سيد ولد آدم))، هذا مو بتفضيل، هو أفضل الخلق أجمعين على الإطلاق وبالإجماع، لماذا نحمله على حقيقته؟ على كل حال هذا الكلام ليس بصحيح، التفضيل موجود ومنصوص عليه في النصوص القطعية، ولكن إذا تضمن التفضيل تنقص فإنه يكف عنه؛ لا تفضلوا بين الأنبياء.