التعليق على تفسير القرطبي - سورة يوسف (07)
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:
"قوله -تعالى-: {وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 23] وهي امرأة العزيز، طلبت منه أن يواقعها. وأصل المراودة الإرادة والطلب برفق ولين. والرود والرياد طلب الكلأ، وقيل: هي من رويد، يقال: فلان يمشي رويدًا، أي برفق، فالمراودة الرفق في الطلب، يقال في الرجل: راودها عن نفسها، وفي المرأة راودته عن نفسه. والرود التأني، يقال: أرودني: أمهلني".
المراودة هنا مفاعلة، والأصل في المفاعلة أنها من طرفين، المفاعلة تكون من طرفين، فهل المراودة هنا على بابها، يعني أنها حصلت من الطرفين؟
طالب: ..........
نعم؟
طالب: ..........
كيف؟
طالب: ..........
كيف؟
طالب: ..........
الطلب هنا من طرف واحد أو من طرفين؟
طالب: طرف واحد.
وإذا قلنا: إنه طلب الفاحشة من طرف، وطلب الترك من طرف، تصير مراودة برفق، هي تراوده على الفاحشة، وهو يراودها في الخلاص والفكاك والنجاة من هذه الفاحشة، هي برفق، وهو برفق أيضًا، لماذا؟
لأنها محتاجة إلى ما عنده مما تطلب، وهو أيضًا محتاج إلى الخلاص والفرار والنجاة منها، والمحتاج لا بد أن يتبع الأسلوب اللين، المحتاج إلى الآخر لا بد أن يعامله معاملة برفق؛ لكي يحصل على ما عنده، فإذا قلنا: إن المراد بالمراودة هنا الطلب من الطرفين، لا شك أنها مفاعلة مطالبة، كل يطلب من الثاني، هي تطلب منه الفاحشة، وهو يطلب منها الإعفاء منها، والخلاص منها، والفكاك منها، لما رأى المراودة من قبله والمطالبة برفق ما نفعت، انصرف وتركها، ثم جذبته وقدت قميصه.
على أن المراودة قد تأتي من طرف واحد، مسافرة، سافر شخص واحد، مطارقة، طارق زيد النعل، يطرقه بنفسه وحده.
"{وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ} [يوسف: 23] غلق للكثير، ولا يقال: غلَق الباب، وأغلق يقع للكثير والقليل، كما قال الفرزدق".
ولا يقال: غَلَقَ الباب -بالتخفيف يعني-، غلق الباب، غلّق وأغلق ولا يقال: غلَق.
"كما قال الفرزدق في أبي عمرو بن العلاء:
ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها |
| حتى أتيت أبا عمرو بن عمار |
يقال: إنها كانت سبعة أبواب غلقتها ثم دعته إلى نفسها. {وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] أي هلم وأقبل وتعال، ولا مصدر له ولا تصريف.
قال النحاس: فيها سبع قراءات، فمن أجل ما فيها وأصحه إسنادًا ما رواه الأعمش عن أبي وائل قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقرأ {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] قال فقلت: إن قومًا يقرؤونها (وهِيتَ لَكَ) [يوسف: 23]، فقال: إنما أقرأ كما علمت. قال أبو جعفر: وبعضهم يقول عن عبد الله بن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا يبعد ذلك؛ لأن قوله: إنما أقرأ كما علمت يدل على أنه مرفوع، وهذه القراءة بفتح التاء والهاء هي الصحيحة من قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وعكرمة، وبها قرأ أبو عمرو بن العلاء وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي.
قال عبد الله بن مسعود: لا تقطعوا في القرآن، فإنما هو مثل قول أحدكم: هلم وتعال. وقرأ ابن أبي إسحاق النحوي: (قَالَتْ هَيتِ لَكَ) [يوسف: 23]، بفتح الهاء وكسر التاء، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وابن كثير: (هَيتُ لَكَ) [يوسف: 23] بفتح الهاء وضم التاء، قال طرفة:
ليس قومي بالأبعدين إذا ما |
| قال داع من العشيرة هيت |
فهذه ثلاث قراءات الهاء فيهن مفتوحة".
النقل عن ابن مسعود: لا تقطعوا في القرآن، يعني لا تجزم بوجه واحد، وإنما الأمر فيه سعة؛ لأن القرآن أُنزل على سبعة أحرف، هلم وتعال وأقبل، فمن قال: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23]، (وهَيتُ لَكَ) [يوسف: 23] (هَيتَ لَكَ) [يوسف: 23]، إلى آخر ذلك من القراءات، لا يقطع بقطع شيء منها، والأمر فيه سعة، وهذا لما كانت الأحرف السبعة معمولًا بها، أما لما اتفق الصحابة على إلغائها، والاقتصار على حرف واحد، وأجمعوا على ذلك، والأمة معصومة من أن تهمل شيئًا من دينها، فما أجمعت عليه ليست الأمة بحاجة إليه، فإنه حينئذٍ يقطع بالخطأ، ويقطع بترك الوجه الثاني الذي أجمع الصحابة على تركه.
طالب: ..........
ماذا؟
فيه شيء؟
طالب: ..........
نعم.
"وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع: (وَقَالَتْ هِيتَ لَكَ) [يوسف: 23] بكسر الهاء وفتح التاء. وقرأ يحيى بن وثاب: (وَقَالَتْ هِيتُ لَكَ) [يوسف: 23] بكسر الهاء وبعدها ياء ساكنة والتاء مضمومة. وروي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وابن عباس ومجاهد وعكرمة: {وَقَالَتْ هِئتُ لَكَ} [يوسف: 23] بكسر الهاء وبعدها همزة ساكنة والتاء مضمومة. وعن ابن عامر وأهل الشام: (وَقَالَتْ هِئتَ لَكَ) [يوسف: 23] بكسر الهاء وبالهمزة وبفتح التاء. قال أبو جعفر: (هِئتَ لَكَ) [يوسف: 23] بفتح التاء لالتقاء الساكنين؛ لأنه صوت نحو: مه وصه، يجب ألا يعرب، والفتح خفيف؛ لأن قبل التاء ياء مثل: أين وكيف، ومن كسر التاء فإنما كسرها؛ لأن الأصل الكسر؛ لأن الساكن إذا حرك حرك إلى الكسر".
أقمِ، {أَقِمِ الصَّلاةَ} [الإسراء: 78]، {يَرْفَعِ اللَّهُ} [المجادلة: 11]، الساكن إذا حُرك يحرك إلى الكسر، هذا الأصل، لماذا لا يحرك بغير الكسر؟ {يَرْفَعِ اللَّهُ} [المجادلة: 11]، ما قيل: يرفعُ اللهُ، ويرفعَ اللهُ؟
طالب: ..........
الكسر أخف؟ لا، ما هو بأخف، أخف الحركات الفتح؛ كما هو معروف.
طالب: ..........
هو يحرك لالتقاء الساكنين، لكن لماذا حُرك بالكسر: أقمِ، {أَقِمِ الصَّلاةَ} [الإسراء: 78]، {يَرْفَعِ اللَّهُ} [المجادلة: 11]؟
طالب: ..........
ما هو بأصل، الأصل في التحريك الكسر، لكن لماذا كان الأصل؟
طالب: ..........
أو نصب تظن أنها رفعة إعراب أو نصبة إعراب؛ لأننا لو رفعناه ألغينا إعراب الكلمة، هي محلها السكون، فلو رفعناه ألغينا إعراب الكلمة، ولو نصبنا لقلنا: إنها منصوبة بمقدر، وأين المقدر؟ وحينئذ يحصل اللبس، أما إذا كسرنا فإنه لا يحصل يلبس، نتساءل كيف كُسر، والكسر من علامات الأسماء؟ لو كان مرفوعًا رُفع، لو كان منصوبًا نُصب إعرابًا، حقه الجزم لكن حُرك لالتقاء الساكنين، ولا يُحرك بمثل إعرابه؛ لئلا يحصل اللبس.
"ومن ضم فلأن فيه معنى الغاية، أي قالت: دعائي لك، فلما حذفت الإضافة بني على الضم، مثل حيث وبعد. وقراءة أهل المدينة فيها قولان: أحدهما: أن يكون الفتح لالتقاء الساكنين كما مر. والآخر: أن يكون فعلًا من هاء يهيئ مثل جاء يجئ، فيكون المعنى في (هِئتَ) [يوسف: 23] أي حسنت هيئتك، ويكون {لَكَ} [يوسف: 23] من كلام آخر، كما تقول: لك أعني. ومن همز وضم التاء فهو فعل بمعنى تهيأت لك، وكذلك من قرأ (هِيتُ لَكَ) [يوسف: 23]".
يكون (هِيتُ) هي (هِئتُ) إلا أنها سُكنت، خففت، أقول: خففت وسحلت.
"وأنكر أبو عمرو هذه القراءة، قال أبو عبيدة- معمر بن المثنى-: سئل أبو عمرو عن قراءة من قرأ بكسر الهاء وضم التاء مهموزًا، فقال أبو عمرو: باطل، جعلها من تهيأت! اذهب فاستعرض العرب حتى تنتهي إلى اليمن، هل تعرف أحدًا يقول هذا؟!
وقال الكسائي أيضًا: لم تحك (هِئتُ) [يوسف: 23] عن العرب. قال عكرمة: (هِئتُ لَكَ) [يوسف: 23] أي تهيأت لك وتزينت وتحسنت، وهي قراءة غير مرضية؛ لأنها لم تسمع في العربية. قال النحاس: وهي جيدة عند البصريين؛ لأنه يقال: هاء الرجل يهاء ويهيئ هيأة، فهاء يهيئ مثل جاء يجئ، وهِئت مثل جئت. وكسر الهاء في (هِيْتَ) [يوسف: 23] لغة لقوم يؤثرون كسر الهاء على فتحها. قال الزجاج: أجود القراءات {هَيْتَ} [يوسف: 23] بفتح الهاء والتاء، قال طرفة:
ليس قومي بالأبعدين إذا ما |
| قال داعٍ من العشيرة هيت |
بفتح الهاء والتاء.
وقال الشاعر في علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-:
أبلغ أمير المؤمن |
| ين أخا العراق إذا أتيتا |
إن العراق وأهله |
| سلم إليك فهيت هيتا |
قال ابن عباس والحسن: (هِيْتَ) [يوسف: 23] كلمة بالسريانية تدعوه إلى نفسها.
وقال السدي: معناها بالقبطية هلم لك. قال أبو عبيد: كان الكسائي يقول: هي لغة لأهل حوران وقعت إلى أهل الحجاز معناه تعال، قال أبو عبيد: فسألت شيخًا عالمًا من حوران فذكر أنها لغتهم، وبه قال عكرمة.
وقال مجاهد وغيره: هي لغة عربية تدعوه بها إلى نفسها، وهي كلمة حث وإقبال على الأشياء، قال الجوهري: يقال هوت به وهيت به إذا صاح به ودعاه، قال:
قد رابني أن الكرى اسكتا |
| لو كان معنيا بها لهيتا |
أي صاح، وقال آخر:
يحدو بها كل فتى هيات |
| ....................................". |
{هَيتَ} [يوسف: 23] هل هي عربية، أو قبطية، أو سريانية، أو هي مما توافقت عليه اللغات؟ يعني توجد في هذه اللغات كلها؟
كلام الجوهري يدل على أنها عربية، وأن لها أصلًا في العربية، وأنها تتصرف كما تتصرف الكلمات العربية، وكلامهم يدل على أنها سريانية أو قبطية، أو أنها مجموعة في اللغات الثلاث، ولا يمتنع أن تتواطأ اللغات على النطق بكلمة تكون موجودة عند هؤلاء وعند هؤلاء، مع علمنا بالخلاف بين أهل العلم، هل يوجد في القرآن لفظ غير عربي؟
القرآن عربي، القرآن نزل بلغة العرب، والتراكيب غير العربية منتفية إجماعًا، يعني لا يوجد جمل أعجمية في القرآن، ويوجد فيه أعلام أعجمية اتفاقًا، وأما وجود الألفاظ غير الأعلام فهذا محل خلاف بين أهل العلم، فمنهم من يقول: أبدًا، لا يوجد كلمة غير عربية؛ لأن القرآن عربي، ووجود كلمات غير عربية تخرجه عن كونه كله عربيًّا، وأصحاب الرأي الآخر أنه لا يمتنع أن يسمى عربيًّا مع وجود ألفاظ يسيرة معدودة بغير العربية، والذين أثبتوا وجود بعض الألفاظ مثل: {هِيتَ لَكَ} [يوسف: 23]، و{مِشْكَاةٍ} [النور: 35]، و{نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} [المزمل: 6]، وغيرها من الكلمات التي قال أهل العلم: إنها بغير العربية، وقال بعضهم: لعل هذا مما توافقت فيه اللغات، نطق بها العرب كما نطق بها غيرهم، كما هنا، ولا يمتنع أن تتوافق اللغات على بعض الكلمات، ولذا تسمعون بعض الكلام غير العربي، أحيانًا لا سيما المشرقي، تأتي كلمات فيها شيء من القرب، العبرية والسريانية فيها شيء مما يتفق مع العربية، مع تغيير حرف إذا عُربت الكلمة، إما أن يعجم الحرف المهمل أو العكس.
"قوله -تعالى-: {قالَ مَعاذَ اللَّهِ} [يوسف: 23] أي أعوذ بالله وأستجير به مما دعوتني إليه، وهو مصدر، أي أعوذ بالله معاذًا، فيحذف المفعول، وينتصب المصدر بالفعل المحذوف، ويضاف المصدر إلى اسم الله كما يضاف المصدر إلى المفعول، كما تقول: مررت بزيد مرور عمرو، أي كمروري بعمرو.
{إِنَّهُ رَبِّي} [يوسف: 23] يعني زوجها، أي هو سيدي أكرمني فلا أخونه، قاله مجاهد وابن إسحاق والسدي.
وقال الزجاج: أي إن الله ربي تولاني بلطفه، فلا أرتكب ما حرمه.
{إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23]، وفي الخبر أنها قالت له: يا يوسف! ما أحسن صورة وجهك! قال: في الرحم صورني ربي، قالت: يا يوسف ما أحسن شعرك! قال: هو أول شيء يبلى مني في قبري، قالت: يا يوسف! ما أحسن عينيك؟ قال: بهما أنظر إلى ربي. قالت: يا يوسف! ارفع بصرك فانظر في وجهي، قال: إني أخاف العمى في آخرتي. قالت يا يوسف! أدنو منك وتتباعد مني؟! قال: أريد بذلك القرب من ربي. قالت: يا يوسف! القيطون فرشته لك فادخل معي، قال: القيطون لا يسترني من ربي. قالت: يا يوسف! فراش الحرير قد فرشته لك، قم فاقض حاجتي، قال: إذًا يذهب من الجنة نصيبي، إلى غير ذلك من كلامها وهو يراجعها، إلى أن همَّ بها.
وقد ذكر بعضهم ما زال النساء يملن إلى يوسف ميل شهوة حتى نبَّأه الله، فألقى عليه هيبة النبوة، فشغلت هيبته كل من رآه عن حسنه".
الهم، {هَمَّتْ بِهِ} [يوسف: 24] واضح، {هَمَّتْ بِهِ} [يوسف: 24] همّ المرأة ظاهر، لكن همّ يوسف -عليه السلام- مع قوله تعالى: {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24]، هل وقع منه الهم بالمعصية؟
وهل يجوز مثل هذا على الأنبياء -على القول بأنه نبي في ذاك الوقت؟
والهم مرتبة من مراتب القصد قبلها: الهاجس، ثم الخاطر، ثم حديث النفس، ثم الهم، ثم العزم على الفعل، والهم لا شك أنه فوق حديث النفس، والمعفو عنه -كما في الحديث- حديث النفس، فهل يهمّ مثل يوسف بمثل هذا؟ الله -سبحانه وتعالى- أثبت الهم، فما معنى الهم هنا؟
النبي -عليه الصلاة والسلام- همّ بتحريق المتخلفين عن الصلاة، ولا يهم النبي إلا بما يجوز له فعله، لا يهم إلا بما يجوز له فعله، وإلا خلا الدليل عن الدلالة على وجوب الجماعة، وهنا ما المراد بالهم؟
المفسرون تباينت أقوالهم تبعًا لعصمته، وإثبات الهم له هنا، فما معنى الهم؟ ولذا يقول: اختلف العلماء في همه، منهم من بالغ في عصمته إلى حد جعله أنه لم يخطر له الفعل على بال، ولا خاطر ولا هاجس، ومنهم من جعله يفعل ما يقرب من الوقوع في الفاحشة على ما سيأتي، وكل هذا مذكور في كتب التفسير.
"واختلف العلماء في همه. ولا خلاف أن همها كان المعصية، وأما يوسف فهم بها، {لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24]، ولكن لما رأى البرهان ما همّ، وهذا لوجوب العصمة للأنبياء".
كيف همّ بها، الله -سبحانه وتعالى- يقول: {هَمَّ بِهَا} [يوسف: 24]، ولكن لما رأى البرهان ما هم، هم بها، لكن لما رأى البرهان ما هم، يعني نقول: إنه هم بالهم، لكن لما رأى البرهان ما هم؟ أو أن هذا الهم معلق على عدم البرهان، فلما وُجد البرهان امتنع الهم؟
لولا حرف إيش؟
طالب: ..........
حرف إيش؟
طالب: ..........
امتناع لإيش؟ لوجود، حرف امتناع لوجود، يعني نقول: {لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24]، امتنع الهم لوجود البرهان، امتنع الهم لوجود البرهان؛ لأنه لما رأى البرهان ما همّ، إذًا؛ ما معنى قوله: {هَمَّ بِهَا} [يوسف: 24]؟
طالب: ..........
كيف؟
طالب: ..........
{هَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24].
طالب: ..........
يعني ما باشر الهم، الهم على الفعل ما باشره، إنما قد يكون الهم، الهم المثبت غير الهم المنفي، فالهم المنفي {لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24]، الهم بالفعل، والهم المثبت {هَمَّ بِهَا} [يوسف: 24]، الحامل على الهم الثاني، فعندنا في الآية إثبات للهم {هَمَّ بِهَا} [يوسف: 24]، وعندنا من خلال التركيب الثاني {لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] نفي لذلك الهم، امتناع للهم، فكيف يجتمع قوله: {هَمَّ بِهَا} [يوسف: 24] مع امتناع الهم لوجود البرهان؟ إذًا عندنا أكثر من هم، هم حاصل وواقع، وهم منفي لوجود البرهان.
"قال الله -تعالى-: {كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] فإذًا في الكلام تقديم وتأخير، أي لولا أن رأى برهان ربه هم بها. قال أبو حاتم: كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة فلما أتيت على قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها} [يوسف: 24] الآية، قال أبو عبيدة: هذا على التقديم والتأخير، كأنه أراد ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها.
وقال أحمد بن يحيى: أي همت زليخاء بالمعصية، وكانت مصرة، وهم يوسف ولم يواقع ما هم به، فبين الهمتين فرق، ذكر هذين القولين الهروي في كتابه.
قال جميل:
هممت بهم من بثينة لو بدا |
| شفيت غليلات الهوى من فؤاديا |
وقال آخر:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني |
| تركت على عثمان تبكي حلائله |
فهذا كله حديث نفس من غير عزم.
وقيل: هم بها تمنى زوجيتها".
قال أبو حاتم، من أبو حاتم؟
طالب: ..........
صحيح، أبو حاتم السجستاني، كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة، ما اسمه؟
طالب: ..........
لا، معمر بن المثنى، مر قريبًا، وقال أحمد بن يحيى، من؟
طالب: ثعلب.
ثعلب نعم.
طالب: ..........
ثعلب، ثعلب، إمام من أئمة العربية، إمام ثقة.
يقول: هذا كله حديث نفس من غير عزم، هذا كله حديث نفس من غير عزم، يعني مرحلة أولى أو مرتبة أولى تتقدم الهم، والهم يتقدم العزم، فكونه يخطر على باله أو يلوح في خياله هاجس، ثم خاطر، ثم حديث نفس، ثم بعد ذلك الهم، وبعده العزم، ومتى يؤاخذ؟ حديث النفس معفو عنه، وما قبله من الهاجس والخاطر من باب أولى، والخلاف فيما بعد حديث النفس، «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها»، إذًا ما بعد حديث النفس يؤاخذ به، الهم يؤاخذ عليه، العزم من باب أولى، ومنهم من يقول: إذا لم يتكلم ولا يعمل ما في نفسه، فلا يؤاخذ عليه، ولو وصل إلى درجة الهم.
"وقيل: همّ بها أي بضربها ودفعها عن نفسه، والبرهان كفه عن الضرب، إذ لو ضربها لأوهم أنه قصدها بالحرام فامتنعت فضربها.
وقيل: إن هم يوسف كان معصية، وأنه جلس منها مجلس الرجل من امرأته".
قد يقول قائل: لماذا ما أنكر باليد؟ ما أنكر عليها باليد، تزاول المعصية الآن، لماذا لم ينكر عليها باليد؟
قال: إنه لو ضربها لاتُّهم، اتُّهم أنه أرادها على نفسها، فلما رفضت ضربها.
"وإلى هذا القول ذهب معظم المفسرين وعامتهم".
قيل: إن هم يوسف كان معصية، حصل منه فعل، لكن دون الفاحشة، دون الفاحشة، وترك الفاحشة؛ لأنه رأى برهان ربه، فيكون الهم ومعه ما يذكر من أفعال كله حصل، وتابع للهم، والذي منعه من مباشرة الفاحشة أنه رأى برهان ربه، هذا قول كثير من المفسرين.
"فيما ذكر القشيري أبو نصر، وابن الأنباري والنحاس والماوردي وغيرهم. قال ابن عباس: حل الهميان وجلس منها مجلس الخاتن، وعنه: استلقت على قفاها وقعد بين رجليها ينزع ثيابه.
وقال سعيد بن جبير: أطلق تكة سراويله.
وقال مجاهد: حل السراويل حتى بلغ الأليتين، وجلس منها مجلس الرجل من امرأته. قال ابن عباس: ولما قال: {ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [يوسف: 52] قال له جبريل: ولا حين هممت بها يا يوسف؟! فقال عند ذلك: {وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف: 53]. قالوا: والانكفاف في مثل هذه الحالة دال على الإخلاص، وأعظم للثواب".
يعني بعد مباشرة المقدمات، الانكفاف في مثل هذه الحالة يدل على إيمان عظيم، بعد أن تمكن من المعصية وباشر أسبابها ومقدماتها يدل على إيمان عظيم وإخلاص، لكن كل هذا ليس فيه، أو لا يدل عليه أي دليل، إنما يُنقل من كتب أهل الكتاب، ولا يوجد ما يدل عليه، وشيخ الإسلام- رحمه الله تعالى- يرى أن قوله: {وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف: 53]، من قول المرأة، وأثبت ذلك بالأدلة الكثيرة، وليس من قول يوسف -عليه السلام-.
"قلت: وهذا كان سبب ثناء الله تعالى على ذي الكفل حسب ما يأتي بيانه في (ص) إن شاء الله تعالى".
ذو الكفل كما جاء في الحديث عند الترمذي وغيره أنه كان رجلًا من بني إسرائيل دعته امرأة محتاجة تطلب منه مبلغًا من المال؛ لتمكنه من نفسها، فلما كاد أن يباشر العمل، وعظته، فقال لها: أنا أكرهتك؟ فقالت: لا، يعني جاءت بطوعها واختيارها، ما حصل منه إكراه، وذكر في وصفه أنه لم تكن هناك معصية إلا زاولها، لكنه بعد هذه لما وعظته ترك، وترك المال لها، وتاب وأناب، ولذا أثنى الله عليه -سبحانه وتعالى- في سورة (ص)، وعلى كل حال الخبر قابل للنظر، يعني خبر الترمذي قابل للنظر.
"وجواب {لولا} على هذا محذوف، أي لولا أن برهان ربه لأمضى ما هم به، ومثله {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 5] وجوابه لم تتنافسوا.
قال ابن عطية: روي هذا القول عن ابن عباس وجماعة من السلف، وقالوا: الحكمة في ذلك أن يكون مثلًا للمذنبين؛ ليروا أن توبتهم ترجع إلى عفو الله -تعالى- كما رجعت ممن هو خير منهم، ولم يوبقه القرب من الذنب، وهذا كله على أن همّ يوسف بلغ فيما روت هذه الفرقة إلى أن جلس بين رجلي زليخاء، وأخذ في حل ثيابه وتكته ونحو ذلك، وهي استلقت له، حكاه الطبري.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: وابن عباس ومن دونه لا يختلفون في أنه همّ بها، وهُمْ أعلم بالله وبتأويل كتابه، وأشد تعظيمًا للأنبياء من أن يتكلموا فيهم بغير علم.
وقال الحسن: إن الله -عز وجل- لم يذكر معاصي الأنبياء ليعيرهم بها، ولكنه ذكرها؛ لكيلا تيأسوا من التوبة. قال الغزنوي: مع أن لزلة الأنبياء حِكمًا: زيادة الوجل، وشدة الحياء بالخجل، والتخلي عن عجب العمل، والتلذذ بنعمة العفو بعد الأمل، وكونهم أئمة رجاء أهل الزلل".
هذه المعاصي التي وقعت من بعض الأنبياء؛ لئلا يستحسر الناس وييأسوا، كما أن النبي -عليه الصلاة والسلام- يحصل منه السهو، يحصل منه السهو والنسيان، وهو إنما ينسى ليسن، وكم في نومه -عليه الصلاة والسلام- عن صلاة الصبح من الحكم، وكم فيها من بعث الأمل في قلوب الناس الذين عندهم حرص على العبادة، حرص على أداء ما افترض الله عليهم، كم يقع في نفس أحدهم لو فاتته الصلاة، بل خرج وقتها لو لم يحصل هذا من النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن الناس يتفاوتون، يتفاوتون، بعض الناس تقع منه الغفلة، يقع منه التفريط، وكأن شيئًا لم يكن، وبعض الناس يقع منه شيء من ذلك من غير إرادة، ويحصل معه من الخوف والوجل ما يحصل.
فمثل هذه الأشياء إنما هي لتسلية الناس، هؤلاء أنبياء معصومون، ومع ذلك وقعت منهم هذه الأشياء، فإذا وقعت من المسلم وتاب، وأناب، وراجع دينه ، فالأمل مفتوح أمامه.
"قال القشيري أبو نصر: وقال قوم: جرى من يوسف همّ، وكان ذلك الهم حركة طبع من غير تصميم للعقد على الفعل، وما كان من هذا القبيل لا يؤخذ به العبد، وقد يخطر بقلب المرء وهو صائم شرب الماء البارد، وتناول الطعام اللذيذ، فإذا لم يأكل ولم يشرب، ولم يصمم عزمه على الأكل والشرب لا يؤاخذ بما هجس في النفس، والبرهان صرفه عن هذا الهم حتى لم يصر عزمًا مصمَّمًا.
قلت: هذا قول حسن، وممن قال به الحسن".
يقول: الصائم إذا رأى الطعام، رأى الماء البارد اشتاقت نفسه، وتاقت إلى الشرب والأكل، لكن هذا لا يؤثر عليه، لا يؤثر عليه، فكون الإنسان يرى امرأة جميلة يتمنى ويشتهي أن تكون زوجة له أو أن يرزق مثلها، هذا لا يؤثر عليه.
"قال ابن عطية: الذي أقول به في هذه الآية: إن كون يوسف نبيًّا في وقت هذه النازلة لم يصح، ولا تظاهرت به رواية، وإذا كان كذلك فهو مؤمن قد أوتي حكمًا وعلمًا، ويجوز عليه الهم الذي هو إرادة الشيء دون مواقعته، وأن يستصحب الخاطر الرديء على ما في ذلك من الخطيئة، وإن فرضناه نبيًّا في ذلك الوقت فلا يجوز عليه عندي إلا الهم الذي هو خاطر، ولا يصح عليه شيء مما ذكر من حل تكته ونحوه؛ لأن العصمة مع النبوة. وما روي من أنه قيل له: تكون في ديوان الأنبياء وتفعل فعل السفهاء. فإنما معناه العدة بالنبوة فيما بعد.
قلت: ما ذكره من هذا التفصيل صحيح، لكن قوله -تعالى-: {وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ} [يوسف: 15] يدل".
يعني وهو في الجب على ما تقدم من أنه نبئ وهو صغير.
"على أنه كان نبيًّا على ما ذكرناه، وهو قول جماعة من العلماء، وإذا كان نبيًّا فلم يبق إلا أن يكون الهم الذي هم به ما يخطر في النفس ولا يثبت في الصدر، وهو الذي رفع الله فيه المؤاخذة عن الخلق، إذ لا قدرة للمكلف على دفعه، ويكون قوله: {وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف: 53]- إن كان من قول يوسف- أي من هذا الهم، أو يكون ذلك منه على طريق التواضع والاعتراف، لمخالفة النفس لما زكي به قبل وبرئ، وقد أخبر الله -تعالى- عن حال يوسف من حين بلوغه فقال: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً} [يوسف: 22] على ما تقدم بيانه، وخبر الله -تعالى- صدق، ووصفه صحيح، وكلامه حق، فقد عمل يوسف بما علمه الله من تحريم الزنى ومقدماته، وخيانة السيد والجار والأجنبي في أهله، فما تعرض لامرأة العزيز، ولا أجاب إلى المراودة، بل أدبر عنها وفر منها، حكمة خص بها، وعملًا بمقتضى ما علمه الله.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «قالت الملائكة: رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به، فقال: ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جراي».
وقال -عليه السلام- مخبرًا عن ربه: «إذا هم عبدي بسيئة فلم يعملها كتبت حسنة»، فإن كان ما يهم به العبد من السيئة يكتب له بتركها حسنة فلا ذنب، وفي الصحيح: «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم به»، وقد تقدم.
قال ابن العربي: كان بمدينة السلام إمام من أئمة الصوفية -وأي إمام- يعرف بابن عطاء! تكلم يومًا على يوسف وأخباره حتى ذكر تبرئته مما نسب إليه من مكروه، فقام رجل من آخر مجلسه وهو مشحون بالخليقة من كل طائفة فقال: يا شيخ! يا سيدنا! فإذًا يوسف هم وما تم؟ قال: نعم! لأن العناية من ثَم. فانظر إلى حلاوة العالم والمتعلم، وانظر إلى فطنة العامي في سؤاله، وجواب العالم في اختصاره واستيفائه، ولذلك قال علماء الصوفية: إن فائدة قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً} [يوسف: 22] إنما أعطاه ذلك إبان غلبة الشهوة؛ لتكون له سببًا للعصمة".
الآن، الذي تعرض له المعصية فيتركها أفضل ممن لم تخطر له المعصية على بال؟ أيهما أفضل؟
طالب: التي عرضت.
التي عرضت له المعصية، هو مأجور على تركها، لكن الذي لم تخطر له على بال يؤجر على إيش؟
هو إذا عمل أسباب الاتقاء، لكن المسألة مفترضة في شخصين، شخص عرضت له معصية من غير تعرض لها، وآخر مثله ما تعرض للمعاصي ولم تعرض له، لكن لم تخطر له على بال، فالذي عرضت له وعالج نفسه وجاهد نفسه في تركها لا شك أنه أفضل، ولذا جاء في حديث مسلم: «ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة»، يعني شخص ما عرضت له المعصية، ما خطرت له على بال، جالس في بيته، جالس في بيته، وشخص في السوق ذهب ليشتري حاجة، فعرضت له فتنة، والآخر في بيته ما عرض له شيء، ولا فكر بشيء، لا شك أن الذي ذهب إلى السوق وعرضت له هذه الفتنة، وجاهد نفسه على تركها أفضل، «وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جراي»، يعني من أجلي، نعم، إذا عرف واقع السوق وأنه معرض للفتن إذا خرج، لا ينبغي له أن يقدم على مواطن الفتن، لا ينبغي له أن يقدم على مواطن الفتن؛ لأنه ما الذي يدريه هل ينجو أو لا ينجو؟
قد ينجو مرة ويسقط مرات، إذا عرف أن السوق فيه فتن لا يعرض نفسه للفتن؛ لأنه قد يقع في شيء من هذه الفتن؛ لأنه ما وقع في المرة الأولى، ولا وقع في الثانية، في الثالثة، وأقل الأحوال أن يستمرئ المعاصي والنظر إليها، لكن إن كان مع غلبة ظنه أنه ينجو من هذه الفتن، وأنه ينكر ويغير ما ينظر إليه هذا هو المتعين بالنسبة له، والناس أجناس، أحد يقال له: لا تنزل إلى الأسواق، وأحد يؤمر بالنزول إلى الأسواق لتغيير المنكرات مع الأمن عليه من هذه الفتن.
ولذا، وهذه المسألة فرع عن المسألة الكبرى وهي المفاضلة بين الخلطة والعزلة، بعض الناس يؤمر أو يُنصح بالعزلة، العزلة أفضل لك، لماذا؟
لأنه يتأثر ولا يؤثر، وبعض الناس بالعكس، يقال: لا، لا تعتزل، بل خالط الناس، واصبر عليهم، واصبر على أذاهم، وانفعهم، ووجههم، لماذا؟ لأنه لا يتأثر، بل يؤثر، فما جاء من النصوص التي تمدح العزلة، والنصوص التي تمدح مخالطة الناس والصبر على أذاهم على هذا يُنزل، على هذا التفصيل ينزل.
طالب: ..........
فيه كتب، كتب عن العزلة للخطابي وغيره.
"قلت: وإذا تقررت عصمته وبراءته بثناء الله -تعالى- عليه فلا يصح ما قال مصعب بن عثمان: إن سليمان بن يسار كان من أحسن الناس وجهًا، فاشتاقته امرأة فسامته نفسها فامتنع عليها وذكّرها، فقالت: إن لم تفعل لأشهرنك، فخرج وتركها، فرأى في منامه يوسف الصديق -عليه السلام- جالسًا فقال: أنت يوسف؟ فقال: أنا يوسف الذي هممت، وأنت سليمان الذي لم تهم؟! فإن هذا يقتضي أن تكون درجة الولاية أرفع من درجة النبوة، وهو محال، ولو قدرنا يوسف غير نبي فدرجته الولاية، فيكون محفوظًا كهو، ولو غلقت على سليمان الأبواب، وروجع في المقال والخطاب، والكلام والجواب مع طول الصحبة لخيف عليه الفتنة، وعظيم المحنة، والله أعلم".
شيخ الإسلام، شيخ الإسلام -رحمه الله- فند هذه القصة، فندها وضعفها.
طالب: ..........
مجموع الفتاوى، نعم.
"قوله -تعالى-: {لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24]، {أَنْ} [يوسف: 24] في موضع رفع أي لولا رؤية برهان ربه، والجواب محذوف لعلم السامع، أي لكان ما كان. وهذا البرهان غير مذكور في القرآن، فروي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن زليخاء قامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في زاوية البيت فسترته بثوب، فقال: ما تصنعين؟ قالت: أستحي من إلهي هذا أن يراني في هذه الصورة، فقال يوسف: أنا أولى أن أستحي من الله، وهذا أحسن ما قيل فيه؛ لأن فيه إقامة الدليل.
وقيل: رأى مكتوبًا في سقف البيت {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32].
وقال ابن عباس: بدت كف مكتوب عليها {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ} [الانفطار: 10]، وقال قوم: تذكر عهد الله وميثاقه.
وقيل: نودي يا يوسف! أنت مكتوب في ديوان الأنبياء وتعمل عمل السفهاء؟! وقيل: رأى صورة يعقوب على الجدران عاضًّا على أنملته يتوعده فسكن، وخرجت شهوته من أنامله، قاله قتادة ومجاهد والحسن والضحاك وأبو صالح وسعيد بن جبير.
وروى الأعمش عن مجاهد قال: حل سراويله فتمثل له يعقوب، وقال له: يا يوسف! فولى هاربًا.
وروى سفيان عن أبي حَصين عن سعيد بن جبير قال: مُثّل له يعقوب فضرب صدره فخرجت شهوته من أنامله، قال مجاهد: فولد لكل واحد من أولاد يعقوب اثنا عشر ذكرًا إلا يوسف لم يولد له إلا غلامان، ونقص بتلك الشهوة ولده، وقيل غير هذا.
وبالجملة: فذلك البرهان آية من آيات الله أراها الله يوسف حتى قوي إيمانه، وامتنع عن المعصية".
الآية تثبت أن هناك برهانًا ودليلًا صار سببًا للكف، لكنه من غير تبيين، ولعله مما لا حاجة إلى بيانه، وإلا لما فُرط فيه، وما ذكر كله مما لا تقوم به حجة.
"قوله -تعالى-: {كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ} [يوسف: 24] الكاف من {كَذلِكَ} [يوسف: 24] يجوز أن تكون رفعًا، بأن يكون خبر ابتداء محذوف، والتقدير: البراهين كذلك، ويكون نعتًا لمصدر محذوف، أي أريناه البراهين رؤية كذلك. والسوء الشهوة، والفحشاء المباشرة.
وقيل: السوء الثناء القبيح، والفحشاء الزنى.
وقيل: السوء خيانة صاحبه، والفحشاء ركوب الفاحشة.
وقيل: السوء عقوبة الملك العزيز. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر (المخلِصين) [يوسف: 24] بكسر اللام، وتأويلها الذين أخلصوا طاعة الله، وقرأ الباقون بفتح اللام، وتأويلها: الذين أخلصهم الله لرسالته، وقد كان يوسف -صلى الله عليه وسلم- بهاتين الصفتين؛ لأنه كان مخلِصًا في طاعة الله -تعالى-، مستخلَصًا لرسالة الله -تعالى-.
قوله -تعالى-: {وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} [يوسف: 25]. فيه مسألتان: الأولى: قوله -تعالى-: {وَاسْتَبَقَا الْبابَ} [يوسف: 25]، قال العلماء: وهذا من اختصار القرآن المعجز الذي يجتمع فيه المعاني، وذلك أنه لما رأى برهان ربه هرب منها فتعاديا، هي لترده إلى نفسها".
تعاديا من العدو، وليس من العداوة.
"هي لترده إلى نفسها، وهو ليهرب عنها، فأدركته قبل أن يخرج. {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} [يوسف: 25] أي من خلفه، قبضت في أعلى قميصه فتخرق القميص عند طوقه، ونزل التخريق إلى أسفل القميص.
والاستباق طلب السبق إلى الشيء، ومنه السباق. والقد القطع، وأكثر ما يستعمل فيما كان طولًا، قال النابغة:
تقدّ السلوقي المضاعف نسجه |
| وتوقد بالصفاح نار الحباحب |
والقط بالطاء يستعمل فيما كان عرضًا.
وقال المفضل بن حرب: قرأت في مصحف (فلما رأى قميصه عط من دبر) [يوسف: 25] أي شق. قال يعقوب: العط الشق في الجلد الصحيح والثوب الصحيح. وحذفت الألف من {اسْتَبَقَا} [يوسف: 25] في اللفظ؛ لسكونها، وسكون اللام بعدها، كما يقال: جاءني عبد الله في التثنية".
اثنين، اثنين، كلهم بهذا الاسم، {دَّعَوَا اللَّهَ} [الأعراف: 189].
"ومن العرب من يقول: جاءني عبد الله بإثبات الألف بغير همز، يجمع بين ساكنين؛ لأن الثاني مدغم، والأول حرف مد ولين. ومنهم من يقول: عبدا الله بإثبات الألف والهمز، كما تقول في الوقف.
الثانية: في الآية دليل على القياس والاعتبار، والعمل بالعرف والعادة، لما ذكر من قد القميص مقبلًا ومدبرًا، وهذا أمر انفرد به المالكية في كتبهم، وذلك أن القميص إذا جبذ من خلف تمزق من تلك الجهة، وإذا جبذ من قدام تمزق من تلك الجهة، وهذا هو الأغلب".
هذا هو الأغلب، وإلا على حسب قوته من الخلف ومن الأمام، إذا كان فيه ضعف من الأمام وأثر عليه الجذب من الخلف، ما فيه أنه يتمزق، لو جر واحد ثوبه من الخلف انقطعت الأزارير؛ لأنها أضعف من القماش من الخلف، لكن لو كان الأمام في القوة بمثابة الخلف كله بمنزلة واحدة، لا شك أن محل الجذب هو الذي يتأثر أكثر من غيره.
"قوله -تعالى-: {وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ} [يوسف: 25] أي وجدا العزيز عند الباب، وعنى بالسيد الزوج، والقبط يسمون الزوج سيدًا. يقال: ألفاه وصادفه ووارطه ووالطه ولاطه، كله بمعنى واحد، فلما رأت زوجها طلبت وجهًا للحيلة وكادت فـ{قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً} [يوسف: 25] أي زنى. {إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: 25] تقول: يضرب ضربًا وجيعًا. و{ما جَزاءُ} [يوسف: 25] ابتداء، وخبره {أَنْ يُسْجَنَ} [يوسف: 25]. {أَوْ عَذابٌ} [يوسف: 25] عطف على موضع {أَنْ يُسْجَنَ} [يوسف: 25]؛ لأن المعنى: إلا السجن. ويجوز أو عذابًا أليمًا بمعنى: أو يعذب عذابًا أليمًا، قاله الكسائي.
قوله -تعالى-: {قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها} [يوسف: 26]. فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قال العلماء: لما برأت نفسها، ولم تكن صادقة في حبه -لأن من شأن المحب إيثار المحبوب- قال: {هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} [يوسف: 26] نطق يوسف بالحق في مقابلة بهتها وكذبها عليه.
قال نوف الشامي وغيره: كأن يوسف -عليه السلام- لم يبن عن كشف القضية، فلما بغت به غضب فقال الحق.
الثانية: {شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها} [يوسف: 26]".
الستر، الستر له حد، الستر على العاصي له حد، فإذا وقعت الهفوة والزلة لأول مرة وصاحبها الندم والوجل، مثل هذا «من ستر مسلمًا ستره الله»، لكن من تمادى، ونزع جلباب الحياء عن نفسه، مثل هذا لا يجوز الستر عليه بحال؛ لأنه إذا سُتر عليه، ثم سُتر عليه، ثم، متى يرتدع؟ ومتى يرعوي؟ لا سيما إذا عمت المعصية وكثرت، فإنه لا بد من فضح العصاة، ولا بد أن توجد الغلظة، ولا تأخذنا الرحمة بهم حتى يرتدعوا ويرعووا، ويكونوا عبرة لكل من تسول له نفسه أن يعمل مثل عملهم، وإلا فما فائدة تشريع الحدود إذا قلنا بالستر اللا محدود؟
طالب: ..........
متى؟
ما الفائدة من شرعية الحدود؟
الفائدة من مؤاخذة الزاني، وجلده مائة جلدة، ولا تأخذنا بهم رأفة في دين الله؟ الفائدة من شرعية رجمه بالحجارة حتى يموت حتى يرتدع هو بالدرجة الأولى قبل أن يقع، وإذا وقع صار عبرة لغيره، والله المستعان.
"الثانية: {شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها} [يوسف: 26]؛ لأنهما لما تعارضا في القول احتاج الملك إلى شاهد؛ ليعلم الصادق من الكاذب، فشهد شاهد من أهلها. أي حكم حاكم من أهلها؛ لأنه حكم منه وليس بشهادة. وقد اختلف في هذا الشاهد على أقوال أربعة".
الملك، الملك احتاج إلى مثل هذا الشاهد لعله يبرؤها مما وقعت فيه، وإلا فالأمر لا يحتاج إلى شهادة عنده مع كونه ضعيف الغيرة، بل معدوم الغيرة، هو يريد أن يبرأ هذه المرأة، ولذا لما ثبت عنده الأمر، ووضح وضوح الشمس في رابعة النهار، قال، ماذا قال؟ {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف: 29]، وأنت افعلي إيش؟ {اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} [يوسف: 29]، ما حصل أكثر من هذا، ما حصل أكثر من هذا، وهو رجل كافر.
لكن مما يؤسف، الأسف الشديد أن يوجد في بلاد المسلمين من يقف على خيانة زوجته أو ابنته ولا يحرك ساكنًا، نسأل الله العافية، هذه الدياثة، يطلب من الهيئة أن تخرج تختبر وترجع لهم، ما المسألة مسألة اختبار الآن، المسألة مسألة عرض، أعظم من ذلك كله، يعني إذًا لا تخرج للاختبار، تؤدي الاختبار وترجع، مثل قول الديوث هذا {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} [يوسف: 29]، وما الذي حصل؟ تطلع وتختبر وترجع لكم، ما حصل شيء، هذه هي الدياثة بعينها -نسأل الله العافية، نسأل الله السلامة والعافية-، فمثل هؤلاء يحتاجون إلى رادع يردهم.
المؤسف أننا لا ندرك أن مثل هذه الأشياء تعد عونًا للأعداء علينا، نعين الأعداء بهذه التصرفات على أنفسنا، وإلا لو أطر الناس على الحق، أطر الناس على الحق، وأخذ الكتاب منهم بقوة، ونُفذت حدود الله، وما حصل التساهل من بعض الناس أو من بعض الجهات، ما حصل مثل هذه الأمور، وأعظم عون للأعداء علينا ذنوبنا، ما كسبت أيدينا، مع أن الله -سبحانه وتعالى- يعفو عن كثير، وإلا فمحافل المسلمين ومجامعهم وبيوتهم وأسواقهم وعلى كافة المستويات الأمر جد خطير، السوس ينخر في الأمة، ومع ذلك يوجد من ينادي بالعفو والتسامح، إلى أي حد العفو والتسامح؟ إلى أي حد يقبل الستر؟ لا تخبر زوج المرأة لئلا يطلقها، بلى فليطلقها أقل حق، أقل حق له أن يُخبر، متى تحفظ هذه المرأة إذا لم يخبر زوجها؟ هذا أقل الأحوال، كيف يطأ زوجة وطأها غيره؟ متى تستبرأ المرأة إذا لم يخبر زوجها؟
اختلاط المياه، واختلاط الأنساب، أمر خطير جدًّا من الضرورات مثل حفظ النفوس، حفظ الأعراض.
وكان وضعه عند المسلمين بل عند العرب أشد من حفظ النفوس، موقع الأعراض ووضع الأعراض، لكن صار الناس يختلطون بالكفار، الذي سافر لهم سافر، والذي ما سافر جاؤوا هم له، والذي ما رآهم بالمشاهدة، رآهم بالوسائل والقنوات، وإذا كثر الإمساس قل الإحساس، ماذا صار؟ والله المستعان، نسأل الله اللطف.
"وقد اختلف في هذا الشاهد على أقوال أربعة: الأول: أنه طفل في المهد تكلم، قال السهيلي: وهو الصحيح، للحديث الوارد فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو قوله: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة»، وذكر فيهم شاهد يوسف.
وقال القشيري أبو نصر: قيل فيه".
بعض الشراح أساء الأدب، وقال على قوله -عليه الصلاة والسلام-: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة»، قال: في هذا الحصر نظر، ثبت أنه تكلم غير هؤلاء الثلاثة، لكن الأسلوب قبيح، الذي حصر النبي -عليه الصلاة والسلام- المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وهو الذي أخبر بالقدر الزائد على الثلاثة، لكن عندما تكلم بهذا الحديث لم يخبر إلا بهؤلاء الثلاثة، ثم أُخبر بالقدر الزائد على هؤلاء الثلاثة.
طالب: ..........
أبو نصر ماذا فيه؟
طالب: تفسيره مطبوع؟
تفسيره مطبوع نعم، ثلاثة مجلدات.
"قيل فيه: كان صبيًا في المهد في الدار وهو ابن خالتها، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «تكلم أربعة وهم صغار»، فذكر منهم شاهد يوسف، فهذا قول.
الثاني: أن الشاهد قدُّ القميص، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد".
الثلاثة المذكورون في حديث الصحيح منهم شاهد يوسف؟
طالب: ..........
عيسى، وصاحب جريج، وصاحب القصة التي في الصحيح، لكن نُقل في الحديث أن شاهد يوسف ممن تكلموا في المهد، هناك قول آخر أنه كبير أيضًا.
طالب: ..........
أوصلوهم إلى سبع، أوصلوهم إلى سبع.
طالب: ..........
نعم.
طالب: ..........
ماذا فيه؟
طالب: ..........
ثم أُوحي إليه بالقدر الزائد.
"وهو مجاز صحيح من جهة اللغة، فإن لسان الحال أبلغ من لسان المقال، وقد تضيف العرب الكلام إلى الجمادات وتخبر عنها بما هي عليه من الصفات".
يعني لا يوجد شاهد، الشاهد شاهد الحال، قدّ القميص هو الشاهد، شواهد الأحوال قد تكون أبلغ من شواهد المقال.
"وذلك كثير في أشعارها وكلامها، ومن أحلاه قول بعضهم: قال الحائط للوتد لم تشقني؟ قال له: سل من يدقني. إلا أن قول الله -تعالى- بعد {مِنْ أَهْلِها} [يوسف: 26] يبطل أن يكون القميص.
الثالث: أنه خلق من خلق الله -تعالى- ليس بإنسي ولا بجني، قاله مجاهد أيضًا، وهذا يرده قوله -تعالى-: {مِنْ أَهْلِها} [يوسف: 26].
الرابع: أنه رجل حكيم ذو عقل كان الوزير يستشيره في أموره، وكان من جملة أهل المرأة، وكان مع زوجها فقال: قد سمعت الاستبدار والجلبة من وراء الباب، وشق القميص، فلا يدرى أيكما كان قدام صاحبه، فإن كان شق القميص من قدامه فأنت صادقة، وإن كان من خلفه فهو صادق، فنظروا إلى القميص فإذا هو مشقوق من خلف، هذا قول الحسن وعكرمة وقتادة والضحاك ومجاهد أيضًا والسدي. قال السدي: كان ابن عمها، وروي عن ابن عباس، وهو الصحيح في الباب، والله أعلم. وروي عن ابن عباس -رواه عنه إسرائيل عن سماك عن عكرمة- قال: كان رجلًا ذا لحية.
وقال سفيان عن جابر عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه قال: كان من خاصة الملك.
وقال عكرمة: لم يكن بصبي، ولكن كان رجلًا حكيمًا.
وروى سفيان عن منصور عن مجاهد قال: كان رجلًا. قال أبو جعفر النحاس: والأشبه بالمعنى -والله أعلم- أن يكون رجلًا عاقلًا حكيمًا شاوره الملك، فجاء بهذه الدلالة، ولو كان طفلًا لكانت شهادته ليوسف -صلى الله عليه وسلم- تغني عن أن يأتي بدليل من العادة؛ لأن كلام الطفل آية معجزة، فكادت أوضح من الاستدلال بالعادة".
ولذا لما قال الطفل صاحب جريج: إن أباه الراعي، ما أحد يتردد في قبول هذه الشهادة، وهو في المهد، بل قاموا يتبركون بجريج ويتمسحون به، وطلبوا منه أن يعيدوا الصومعة من ذهب، لكنه قال: أعيدوها من طين كما كانت، فمثل هذا تذعن له النفوس، وتصدقه فور سماعه؛ لأن هذا أمر قدر زائد على مجرد الشهادة.
طالب: ..........
كونه حُمل به ووُضع ما ينفي أن يكون من جريج، لكن كونه قال: إن أباه الراعي، هذا الذي ينفي، وهو في المهد.
طالب: ..........
ما يلزم، قد يكون شاهد الحال فيه شيء من الضعف، شاهد الحال ما يجيب، ما يجيب بنفسه، لكن إذا كانت هناك دلالة من الحال، جدارنا هذا من الذي هدمه؟ وجاء شخص يقول: أنا ما هدمته، الجدار ما هُدم، نقول: لا، هو مهدوم الآن، مثل ما حصل من صاحب الحمار، جاء شخص يستعير حمارًا، قال: والله أعطيناه فلانًا ينتفع به أعاره، ثم نهق الحمار، شهادة الحمار أوثق من شهادته، وهو حمار، لكن هذه شهادة حال يعني واقعًا، فهي أقوى من شهادته، وإن كان ثقة في الظاهر، وإلا ففي الباطن ما يمكن أن يكون ثقة.
"وليس هذا بمخالف للحديث: «تكلم أربعة وهم صغار»، منهم صاحب يوسف، يكون المعنى: صغيرًا ليس بشيخ، وفي هذا دليل آخر وهو: أن ابن عباس -رضي الله عنهما- روى الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد تواترت الرواية عنه أن صاحب يوسف ليس بصبي. قلت: قد روي عن ابن عباس وأبي هريرة وابن جبير وهلال بن يساف والضحاك أنه كان صبيًّا في المهد، إلا أنه لو كان صبيًّا تكلم لكان الدليل نفس كلامه، دون أن يحتاج إلى استدلال بالقميص، وكان يكون ذلك خرق عادة، ونوع معجزة، والله أعلم. وسيأتي من تكلم في المهد من الصبيان في سورة البروج -إن شاء الله-.
الثالثة: إذا تنزلنا على أن يكون الشاهد طفلًا صغيرًا فلا يكون فيه دلالة على العمل بالأمارات كما ذكرنا، وإذا كان رجلًا فيصح أن يكون حجة بالحكم بالعلامة في اللقطة وكثير من المواضع، حتى قال مالك في اللصوص: إذا وُجدت معهم أمتعة فجاء قوم فادعوها، وليست لهم بينة فإن السلطان يتلوم لهم في ذلك".
يعني يتأخر يرددهم حتى يقع على الحقيقة.
"فإن لم يأت غيرهم دفعها إليهم.
وقال محمد في متاع البيت إذا اختلفت فيه المرأة والرجل: إن ما كان للرجال فهو للرجل، وما كان للنساء فهو للمرأة، وما كان للرجل والمرأة فهو للرجل".
محمد بن الحسن، فيه أشياء ما يحتاج إلى أن تقام الشهادة على أنها للرجل، الأشياء التابعة لوظيفته مثلًا، نقول: يحتمل أنها للمرأة؟ وما تختص به المرأة من أمتعة فهو للمرأة، وما هو مشترك بينهما يُنظر فيه.
"وكان شريح وإياس بن معاوية يعملان على العلامات في الحكومات، وأصل ذلك هذه الآية، والله أعلم".
يعني يعملون بالقرائن، بالقرائن.
طالب: ..........
ما فيه مانع؛ لأنه ما ثبت أنه صبي، والأصل في الشهادة أن تكون للكبير.
"قوله -تعالى-: {إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} [يوسف: 26] {كَانَ} [يوسف: 26] في موضع جزم بالشرط، وفيه من النحو ما يشكل؛ لأن حروف الشرط ترد الماضي إلى المستقبل، وليس هذا في كان، فقال المبرد محمد بن يزيد: هذا لقوة كان، وأنه يعبر بها عن جميع الأفعال.
وقال الزجاج: المعنى إن يكن، أي إن يُعْلَم، والعلم لم يقع، وكذا الكون؛ لأنه يؤدي عن العلم. {قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} [يوسف: 26] فخبر عن {كَانَ} [يوسف: 26] بالفعل الماضي، كما قال زهير:
وكان طوى كشحا على مستكنة |
| فلا هو أبداها ولم يتقدم |
وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق".
ابن أبي إسحاق؟
طالب: ..........
كذا؟
طالب: ..........
معروف من القراء هذا؟ يا عبد الله! ابن أبي إسحاق؟
طالب: ..........
نعم.
طالب: ..........
ابن أبي إسحاق، نعم.
"وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق (مِنْ قُبُلُ) [يوسف: 26] بضم القاف والباء واللام، وكذا (دُبُرُ) [يوسف: 27]، قال الزجاج: يجعلهما غايتين كقبل وبعد، كأنه قال: من قبله ومن دبره، فلما حذف المضاف إليه -وهو مراد- صار المضاف غاية نفسه بعد أن كان المضاف إليه غاية له. ويجوز (مِنْ قُبُلَ) [يوسف: 26]، و(مِنْ دُبُرَ) [يوسف: 27] بفتح الراء واللام تشبيهًا بما لا ينصرف".
هناك القراءة من قراءة يحيى بن يعمر (مِنْ قُبُلُ) [يوسف: 26]، (مِنْ دُبُرُ) [يوسف: 27]؛ لأنه حذف المضاف مع أنه ما نُوي في الكلام، مثل من قبل ومن بعد، فبني على الضم، فينزل منزلة قبل وبعد والجهات الست، كل هذه إذا حُذف المضاف -مع أنه منوي- يبنى على الضم.
"ويجوز (مِنْ قُبُلَ) [يوسف: 26]، و(مِنْ دُبُرَ) [يوسف: 27] بفتح الراء واللام تشبيهًا بما لا ينصرف؛ لأنه معرفة ومزال عن بابه".
يعني سببه العدل، العلمية والعدل، العلمية والعدل، هما معرفتان، لكن هل هما علامان؟ لكن كل هذا تشبيه، تشبيه للمعرفة بالعلم، دبر، قبل، كأنه معدول عن اسم الفاعل.
"وروى محبوب عن أبي عمرو (مِنْ قُبْلٍ) [يوسف: 26]، و(مِنْ دُبْرٍ) [يوسف: 26] مخففان مجروران".
مخففان مسكنة، ساكنة الوسط.
"قوله -تعالى-: {فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ} [يوسف: 28]، قيل: قال لها ذلك العزيز عند قولها: {ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً} [يوسف: 25].
وقيل: قاله لها الشاهد. والكيد: المكر والحيلة، وقد تقدم في الأنفال. {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28]، إنما قال: {عَظِيمٌ} [يوسف: 28]؛ لعظم فتنتهن واحتيالهن في التخلص من ورطتهن.
وقال مقاتل عن يحيى بن أبي كثير عن أبي هريرة قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان؛ لأن الله -تعالى- يقول: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً} [النساء: 76]، وقال: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28]»".
هذا يثبت؟
طالب: ..........
معروف، لكن مرفوع؟ مقاتل، مقاتل بن سليمان؟ خرجه عندك؟
طالب: ..........
لا يثبت مرفوعًا، ماذا يقول؟
طالب: ..........
مقاتل، نعم، معروف.
طالب: ..........
لا يثبت مرفوعًا، مرفوعًا لا يثبت، هو استُدل بآيات، هل نقول: إن معناه صحيح؛ لأن الآية تثبت ذلك، كيد النساء أعظم من كيد الشيطان؟ أو نقول: لا، حتى معناه ليس بصحيح؟ لأن كيد النساء أعظم من كيد الرجال، ويبقى أن كيد الشيطان بالنسبة لكيد الله -سبحانه وتعالى- ضعيف، وإلا فأين تقع المرأة من كيد الشيطان؟ كيد النساء بالنسبة لكيد الرجال عظيم، يبقى أن كيد الشيطان بالنسبة لكيد الله ضعيف، فلا يلزم من ذلك أن كيد المرأة أعظم من كيد الشيطان، فالجهة منفكة، مختلفة الجهة، يمكن هذا أم ما يمكن؟
طالب: ..........
"قوله -تعالى-: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا} [يوسف: 29] القائل هذا هو الشاهد. و{يُوسُفُ} [يوسف: 29] نداء مفرد، أي يا يوسف، فحذف. {أَعْرِضْ عَنْ هذا} [يوسف: 29] أي لا تذكره لأحد واكتمه. ثم أقبل عليها فقال: وأنت {اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} [يوسف: 29] يقول: استغفري زوجك من ذنبك لا يعاقبك. {إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ} [يوسف: 29]".
هذا القول لو أن القائل هو الشاهد، والأولى أن يكون القائل هو الزوج لما عُرف عنه من ذهاب الغيرة، وهذا أمر متفق عليه عند عامة المفسرين، أن الرجل لا غيرة عنده -نسأل الله العافية-، بل بعض المفسرين طرد ذلك في قومه.
"ولم يقل من الخاطئات؛ لأنه قصد الإخبار عن المذكر والمؤنث، فغلَّب المذكر، والمعنى: من الناس الخاطئين، أو من القوم الخاطئين، مثل: {إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ} [النمل: 43]، {وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ} [التحريم: 12].
وقيل: إن القائل ليوسف أعرض ولها استغفري زوجها الملك، وفية قولان: أحدهما: أنه لم يكن غيورًا، فلذلك كان ساكنًا، وعدم الغيرة في كثير من أهل مصر موجود".
هم وغيرهم الآن على حد سواء، هم وغيرهم على حد سواء.
طالب: ..........
كيف؟
طالب: ..........
المفسرون كلهم قالوا هذا؛ لأنه بلده مصر، لأن بلد العزيز مصر.
"الثاني: أن الله -تعالى- سلبه الغيرة، وكان فيه لطف بيوسف حتى كُفي بادرته، وعفا عنها".
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمدٍ.
"